كفريا والفوعة، جرح لا يندمل

كفريا والفوعة، جرح لا يندمل
الأربعاء ٣١ يناير ٢٠١٨ - ٠٦:٢٨ بتوقيت غرينتش

شهور طويلة مرت على التفجير الذي استهدف حافلات أهالي كفريا والفوعة في الراشدين بحلب، ولا يزال الجرح مفتوحا، فمن تعرف على أشلاء أطفاله، أفاء عليه ذلك راحة الإستسلام للقضاء والقدر، وقنع من الدنيا بقبور تضم أشلاءهم يسقيهم فيها بدموعه ويقرأ الفاتحة على أرواحهم.

العالم - مقالات وتحليلات

لكن المصيبة بقيت عند من لا يزالون معلقين بخيوط الأمل الواهية، ممن تأتيهم الأخبار متناقضة عن مصير أولادهم. بعضها يؤكد أنهم لا يزالون أحياء في تركيا والبعض يجزم باستشهادهم، وما بين الحياة والموت يقف الأهالي في برزخ الشك الذي ودوا لو يعبروه إلى اليقين.. أملا أو يأسا من حياة فلذات أكبادهم.. واليأس على كل حال إحدى الراحتين.

رغم أن التفجير كان مهولاً لكن صدى استغاثات الأطفال محمد ويوسف بأبيهم حسين لا يزال يتردد في مسمعه وإن تاهت أخبارهما بعد ذلك في المجهول. أما ولده الثالث حسن فقد كان في شهادته كما في حياته أكثر براً بأبيه، فلم تنقطع أخباره عنه لأكثر من أربعة أيام. رن بعدها جواله ليخبره المسؤولون عن المشفى في حلب بضرورة القدوم لمعاينة جثمانه. عرف المصير الحزين لحسن، الذي شيع في موكب مهيب مع عشرات الأطفال من رفاق الطفولة في كفريا والفوعة إلى حيث ووريوا الثرى إلى جوار العقيلة الطاهرة السيدة زينب (عليها السلام) في ريف دمشق. لكن أخبارا متناقضة عن محمد ويوسف ما فتئت تصل لوالدهما. أخبار تأرجحت بين من أكد له خبر استشهادهما وبين من حلف له بالإيمان المعظم بأنهما لا يزالان يعالجان في المشافي التركية. وما بين موتهما المفترض وحياتهما المؤملة مات حسين وعاش ألف مرة.

لحظة التفجير

دوى الإنفجار الهائل في الراشدين. صاح حسين بزوجته ووجهه غارق في الدماء ” قتلونا” ثم راح يقلب عينيه الغائمتين بالدماء والدموع بحثا عن أولاده، قبل أن يلمح ولده عليا هائما على وجهه وعلى أسرته. وفي حركة هستيرية بين الجثامين المحترقة والأشلاء الغضة للنساء والأطفال، راح حسين وعلي يناديان بأعلى صوتهما “يا محمد يا يوسف يا حسن”، فيتوه صوتهما في المدى ويضيع ما بين أصوات كثيرة راحت مثلهما تبحث عن فلذات أكبادها قبل أن يكمل الإرهابيون فعلتهم الشنيعة بإطلاق نار كثيف على الحافلات. حينها لم يكن أمام حسين وبقية عائلته ممن نجوا من المذبحة من حل سوى اللجوء إلى الأحراش القريبة بانتظار أن ينجلي المشهد عن مصير أولاده الثلاثة.

رحلة العذاب

تكشف مسرح الجريمة في الراشدين عن أكثر من 120 شهيدا جلهم من الأطفال. نصفهم تقريباً تعرف عليهم أهاليهم مباشرة سواء عبر بقايا أجسادهم الطاهرة أو عبر أغراضهم الشخصية. حسن بكر حسين كان واحدا منهم. ملامح وجهه البريء الغافي في الأبدية أيقظت والده على فجيعة رحيله، فنعاه مسلما أمره لله وعزاؤه أنه لم يكن المفجوع الوحيد بين عشرات الأسر التي تحلقت حول جهاز الكمبيوتر الخاص بالمشفى للتعرف على جثامين أطفالها. كان حسين من بين هؤلاء، فمصير محمد ويوسف لا يزال مجهولا. لم يشر الكمبيوتر به ولا برادات المشفى الباردة حيث ترقد جثامين الشهداء بانتظار اللقاء الأخير مع الأحبة ولا الشهود الذين كانوا على مسرح الجريمة ممن تأملوا طويلا في صورة الطفلين المظلومين قبل أن يشيحوا عنهما بنظرة يأس باتجاه والدهما. نظرة عكست جهلهم بمصيرهما. عند هذا الحد كان حسين وأسرته قد دخلوا في دوامة اليأس لولا بارقة أمل وصلتهم من جارة لهم تعرف العائلة جيداً، وقد أسعفت إلى تركيا للعلاج قبل أن تعود لتقص على حسين رواية حركت من مياه اليأس الراكدة في داخله عن مصير ولديه أو مصير أحدهما على الأقل.

بصيص الأمل

“يا أبو حسن ابنك الأسمراني يوسف اللي عمروا 13 سنة، بعرفوا مليح، تعلق بالمانطو وهوي عم يبكي، وقلي يا خالة نحنا ضعنا رجعيني لعند أهلي، قلتلوا كيف بدي رجعك يا حبيبي، مو شايف التفجير”.

بضع جمل قصيرة من فم امرأة جعلت الأمل من جديد يستوي على قدميه في نفس أبو حسن خصوصا وأن ابنها “كاظم” أكد له أيضاً أنه رأى يوسف بعينيه وقد ألقى به المسلحون في السيارة قبل ان يتمكن هو من الفرار منهم، لتبدأ بعد ذلك جولة جديدة من البحث والعمل الدؤوب والإتصالات المكثفة مع كل الجهات الرسمية والصحية والمنظمات المتابعة دون التوصل إلى أي حقيقة ملموسة تقطع الشك باليقين إلى أن وصلت أنباء من الجار في الفوعة “أبو جعفر” الذي أرسل رسالة لزوجته يقول فيها بأن أنباء وصلته من مصادر شبه موثوقة في تركيا تخبر عن استشهاد “محمد ويوسف ولدا جارنا أبي حسن “ليسارع أبو حسن للإتصال مستفسرا بجاره الذي قال له بأن هذا الكلام ” قيل عن قال”، وأنه يتمنى ألا يكون له أي اساس من الصحة وأن يكون من رآهما مستشبها ” كلام أبو جعفر رغم أنه لم يلبس لبوس اليقين إلا أنه أعاد “أبو حسن” لمربع اليأس الأول والقنوط من أي أمل له في رؤية ولديه أو أحدهما على الاقل يخفق بماء الحياة.

يأس رافق ”أبو حسن” في يقظته وفي منامه، وقض عليه المضاجع لولا تلك الجمل القصيرة التي قالتها تلك المرأة والتي ما انفكت تلح عليه وتفتح أمام عتمة نفسه كوة من النور “ابنك الأسمراني تعلق بالمانطو وقلي يا خالة نحنا ضعنا، رجعيني لعند أهلي ” ليهمس بعدها أبو حسن بصوت خفيف مناجيا رب العالمين ”ليس ذلك على الله بعزيز، تفضل علي واجمعني بهما يا رب العالمين”، قبل أن يمسح دمعة تحدرت على خده ويمضي هائما على وجهه.

محمد عيد/ العهد

103-2

كلمات دليلية :