حرب "الحرير " و " التوابل"

حرب
السبت ٢٣ سبتمبر ٢٠٢٣ - ١٢:٢٧ بتوقيت غرينتش

في الوقت الذي تستعد فيه الصين هذا العام للاحتفال بمرور 10 اعوام على تدشين مشروع "الحزام والطريق"، والذي أنفقت عليه حتى الآن ما يقرب من تريليون دولار، وقّعت امريكا والهند والسعودية والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، على هامش قمة العشرين التي عقدت يومي 9 و10 أيلول/سبتمبر الحالي في نيودلهي، على مذكرة تفاهم لانشاء  "الممر الاقتصادي الهندي الأوروبي" الذي يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.

العالم - مقالات

الممر الاقتصادي الواصل ما بين الهند و أوروبا عبر الشرق الأوسط، الذي يطلق عليه البعض اسم "طريق التوابل"، في مقابل "طريق الحرير"، يبلغ طوله 3000 ميل، ويتألف من ثلاثة ممرات، الممر الاول بحري يبدأ من موانىء الهند، ويصل الى ميناء "جبل علي" في الامارات، والممر الثاني هو ممر بري، يتألف من سكة حديد يمتد من الامارات ويمر بالسعودية والاردن ويصل حتى ميناء حيفا على البحر الاحمر في فلسطين المحتلة، والممر الثالث هو ممر بحري، يبدأ من ميناء حيفا ويمر بقبرص في البحر المتوسط ومن ثم الى اليونان واوروبا، كما يشمل المشروع أيضا كابلا بحريا جديدا وبنية تحتية لنقل الطاقة.

يبدو ان الدول التي وقعت على مذكرة تفاهم انشاء "الممر الهندي" او " طريق التوابل"، كانت قد اجرت مفاوضات حول المشروع منذ عدة أشهر، وكشف جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، في 9 أيلول/سبتمبر الجاري، عن أن المناقشات حول المشروع بدأت خلال زيارة الرئيس الأميركي بايدن إلى السعودية في تموز/يوليو العام الماضي. وقالت وكالة "بلومبرغ" إنه منذ كانون الثاني/يناير هذا العام، تجري امريكا محادثات سريّة مع الهند ودول الشرق الأوسط للتوصل إلى اتفاق رسمي.

بعد وضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل المشروع، قام كل من جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، وبريت ماكجورك، منسق شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وآموس هوكستين، مستشار البنية التحتية العالمية وأمن الطاقة، بجولة في المنطقة خلال شهر أيار/مايو الماضي، التقوا خلالها المسؤولين في كل من السعودية والإمارات والكيان الاسرائيلي والهند، وتم الاتفاق على الإعلان عن إطلاق هذا المشروع رسميا عقب اجتماع خاص يعقد لهذا الغرض بين قادة الدول الأربع على هامش اجتماع قمة العشرين، وهو ما حصل.

اللافت ان امريكا التي تحرك خيوط هذا المشروع، و وصفت بانها الراعية له، ليست ضمن جغرافية المشروع، ولا يترتب لامريكا اي فوائد اقتصادية من هذا المشروع، لذلك يرى المراقبون، ان هدفها من وراء هذا المشروع هو مواجهة النفوذ الصيني في اسيا والشرق الاوسط، بعد تراجع نفوذها، لاسيما بعد التقارب الايراني السعودي الذي رعته الصين.

"الممر الهندي"، وضع الكيان الاسرائيلي كحلقة وصل بين اسيا واوروبا، وبذلك يفرض الكيان الاسرائيلي على المنطقة عبر التطبيع الاقتصادي، وهو ما دفع رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، للظهور في مقطع فيديو، فور الاعلان عن مشروع "الممر الهندي"، وهو يشير الى خرائط توضح طبيعة المشروع، و يقول ما نصه:"ان إسرائيل في قلب مشروع دولي غير مسبوق، سيربط البنية التحتية بين آسيا وأوروبا، ومن شأنه تغيير ملامح الشرق الأوسط".

واضاف نتنياهو، الذي تعامل مع الحدث وكأنه طوق نجاة القي اليه وهو الغارق في الازمات الداخلية والخارجية :" يسعدني، مواطني إسرائيل، أن أبلغكم، أننا سنكون تقاطعا مركزيا في هذا الممر الاقتصادي، وستفتح خطوط السكك الحديد والموانئ البحرية لدينا بوابة جديدة من الهند، عبر الشرق الأوسط إلى أوروبا، وكذلك من أوروبا إلى الهند، عبر الأردن والسعودية والإمارات". يبدو من ردة الفعل "الاسرائيلية" المبالغ فيها، ان المشروع، تم التخطيط له من اجل انقاذ الكيان الاسرائيلي، قبل كل شيء.

كل ما ذكرناه الى الان عن "الممر الهندي" او "طريق التوابل"، هو على الورق فقط، ولكن على الارض، هناك شكوك كبيرة في امكانية ان يرى هذا المشروع النور، لاسباب عديدة، ذكرها الخبراء، على مختلف مشاربهم، ومن هذه الاسباب:

-مصدر الأموال للمشروع غير واضح، ويتطلب إنشاء السكك الحديدية والشحن، استثمارات هائلة ومستمرة، في الوقت الذي ارتفع الدين الوطني الأميركي باستمرار، كما لم تحدد الدول التي اقترحت هذا المشروع مصدر أموال البناء، مما يجعل من الصعب الدفع نحو تنفيذ المشروع.

-لا يمكن تجاهل نفوذ الصين، فقد تم عقد القمة الصينية العربية الأولى في نهاية العام الماضي، واتفق الجانبان على بذل كل الجهود لبناء مجتمع صيني عربي ذي مستقبل مشترك في العصر الحديث.

-في السنوات الأخيرة، زادت وتيرة الانكماش الاستراتيجي لامريكا في الشرق الأوسط، وهناك شكوك ان يتلقى مشروع "طريق التوابل" استجابة إيجابية من معظم دول الشرق الأوسط.

-يقع الجزء الأساسي من "طريق التوابل" في الشرق الأوسط، ومن المرجح أن يصبح المشروع أداة جيوسياسية في ظل تلاعب امريكا، فالشرق الأوسط يشهد موجة من المصالحات والصحوات لم يشهدها منذ عقود من الزمن، وقد أصبح الاستقلال والوحدة والاعتماد على الذات موضوعات العصر في الشرق الأوسط.

-يحتاج المشروع إلى عدة سنوات للبدء في تنفيذه، فيما لو تم تأمين التمويل اللازم لذلك، واستطاعت الدول الداخلة فيه تجاوز تحدياتها الأمنية. وبالتالي، فإن هذا المشروع لا يتعدى كونه إعلانا سياسيا أميركيا لمناكفة الصين في مشروع "الحزام والطريق".

-يبني المشروع قوامه على التطبيع بين السعودية والكيان الاسرائيلي، وهو تطبيع مازال بعيد المنال، الامر الذي قد يعرقل تنفيذه.

-هناك دول تعتبر حلقات وصل بين الهند والصين وبين اوروبا، وهي اقرب الطرق واقلها تكلفة، مثل ايران والعراق وسوريا ومصر وتركيا وسلطنة عمان، التف حولها "الممر الهندي"، الامر الذي يؤكد ان هذا الممر هو ممر سياسي وليس اقتصاديا، ولا يعدو ان يكون لعبة علاقات عامة امريكية، قد تنتهي بمجرد تطبيع السعودية مع الكيان الاسرائيلي.

لما كانت امريكا بعيدة عن جغرافيا المشروع، كان من الصعب عليها احتواء الصين، لذلك اضطرت للاستعانة بقوى آسيوية، وخاصة الهند، وتقديمها على انها مركز مشروع "الطريق الهندي"، عازفة على وتر الخلافات الحدودية بين الهند والصين، الامر الذي يكشف عن محاولات امريكية حثيثة لخلق فتنة بين البلدين الاسيويين الكبيرين، لاشغال الصين واستنزافها.

في المقابل، لا يبدو ان الهند غافلة عن محاولات امريكا تأزيم علاقاتها مع جارتها الصين، وهو تأزيم قد يكلف الهند اثمانا باهظة، من امنها واستقرارها واقتصادها، وهي التي تشهد نهضة تنموية متسارعة، بحاجة للامن والاستقرار، لذلم لا نعتقد ان الهند ستضع مقاليد امورها بيد امريكا، وهي التي بنت نهضتها التنموية دون الاستعانة بامريكا، ولا بممرها، فقد أصبحت حاليا خامس أكبر اقتصاد في العالم، متفوقة على بريطانيا، وتشير بعض التقديرات إلى أنها ستتفوق على ألمانيا بحلول عام 2028، إذ حققت خلال السنوات الأخيرة معدلات نمو قوية بلغت نحو 9% خلال عام 2022. وإذا استمرت في النمو وفق هذا المعدل، فقد يصبح الاقتصاد الهندي بحجم اقتصاد منطقة اليورو بحلول منتصف القرن الحالي، لذلك لا نعتقد ان الهند ستضحي بكل ذلك من اجل عيون امريكا.

بالرغم من ان مشروع "طريق الحرير" و "طريق التوابل" يتمحوران حول البنية التحتية العابرة للدول، الا ان مشروع "طريق الحرير"، مشروع يستهدف إيجاد شبكة تواصل عالمية مركزها الصين، في حين أن "طريق التوابل" مشروع متعدد الأطراف والمحاور، وبالتالي أقرب ما يكون إلى مشروع شراكة عالمية لها تعقيداتها.

ان "طريق الحرير" يتمحور حول دولة مركزية واحدة هي الصين، التي ينطلق منها، ثم يعود إليها بعد أن يكون قد تمكن من ربط البنية التحتية لمختلف أطراف العالم بهذه الدولة، التي تتولى بنفسها تصميمه وتمويله عبر اتفاقات ثنائية مع كل المستفيدين، ووفقا لقاعدة المصالح المتبادلة والمتكافئة. أما مشروع "طريق التوابل" فيعتمد تنفيذه على إرادة أطراف دولية عديدة قد لا يكون من السهل تحقيق التوافق بينها في كل الأوقات.

تبقى الصين، رغم كل الضغوط التي تمارسها امريكا لمحاصرتها وعزلها، ماضية في جهودها لتنفيذ خطتها في مشروع "طريق الحرير"، بعد ان تمكنت من خلال عضويتها في مجموعة بريكس، من ضم 6 دول أخرى إلى هذه المجموعة، التي بدأت فعلا في التأثير على مستوى المجالات الاقتصادية والسياسية بين دول العالم.

مشروع "طريق التوابل" الامريكي، ظهر على مشهد الاحداث، لمواجهة مشروع "طريق الحرير" الصيني، في اطار حرب وصفها البعض بانها "حرب الممرات"، كما ظهر من اجل عرقلة العلاقات السياسية والاقتصادية المتنامية والمتسارعة، بين الصين ودول الشرق الأوسط، الا انه لم ولن يكون بديلا لمشروع "طريق الحرير"، ولا حتى منافسا له، فالصين الى جانب روسيا وايران، وفي اطار مجموعة البريكس، صنعوا ارضية صلبة لعالم متعدد الاطراف، لا مكان فيه لامريكا الناهية الآمرة، وهذا ما ظهر جليا، في قمة نيودلهي، حيث لم تتمكن امريكا من فرض وجهات نظرها، بشأن حرب اوكرانيا، على المشاركين في القمة وهم حلفاؤها، وتعاملت ولاول مرة على انها"شريك" وليس "شرطيا، للعالم، فقد كرست القمة نهاية عصر القطبية الأحادية، وغاب الخطاب الاستعلائي الامريكي المعهود، الامر الذي عكس توازنات القوى الجديدة في العالم.