العالم - جوا الصندوق
ويوم 9 أكتوبر 2023، زفّت المقاومة الإسلامية في لبنان 3 شهداء، هم حسام محمد إبراهيم، وعلي رائف فتونة، وعلي حسن حدرج، بعد عدوان إسرائيلي على جنوب لبنان. الأبطال الثلاثة شكلوا مقدمة قافلة طويلة جداً من الشهداء المقاومين والمدنيين خلال 14 شهراً من الاشتباك المباشر والعدوان الإسرائيلي على لبنان. حرب متكاملة شهدت كثيراً من الأحداث التي لم تكن تخطر بالبال، منها المؤلم، ومنها ما جعلنا نفتخر. حرب متكاملة شارك فيها أبناء الجنوب مع أبناء صيدا وبيروت والبقاع وبعلبك الهرمل وطرابلس ومخيم عين الحلوة والبداوي، وصولاً إلى أبناء مخيم اليرموك قرب العاصمة السورية دمشق. شاركوا جميعاً في الدفاع عن الأراضي اللبنانية، وبإسناد الشعب الفلسطيني في غزة.
هذا المسار الذي تم تعريفه لاحقاً بجبهة الإسناد اللبنانية، لم يكن تأثيره مقتصراً على مسار العدوان على غزة، بل حمل آثاراً تتعلق بمصير لبنان ومستقبل المنطقة. وبنفس الأهمية، كان للإسناد أثر كبير على الوعي العربي والإسلامي. ولكن حرب 2023 – 2024 لم تكن أول معركة إسناد تخوضها المقاومة اللبنانية لإسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته.
في حلقة اليوم من برنامج جوا الصندوق، سنحاول تناول الإسناد اللبناني لفلسطين، مبادئه، أساليبه، أهدافه، والطروحات الشائكة المحيطة به.
إذا أردنا أن نتحدث عن الإسناد بمعناه المباشر، نكتشف أن الإسناد اللبناني للشعب الفلسطيني بدأ مع بداية التبلور للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين وخطورته على المنطقة.
في 26 أغسطس 1929، خرج أبناء جنوب لبنان بتظاهرة ضخمة رفضاً لوعد بلفور، وادانة لاعتداءات لعصابات الصهيونية على الجيران الفلسطينيين. ومع صعود حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة، تحديداً بعد ظهور الشيخ عزالدين القسام، شكل جبل عامل أو جنوب لبنان ساحة حشد وإمداد بالسلاح والمال، وحتى بالمقاتلين خلال الأحداث السابقة لثورة 1936 في فلسطين.
وثائق تاريخية تشير إلى أنه أثناء ثورة 1936 في فلسطين ضد الاحتلال الإنجليزي والعصابات الصهيونية، تم تشكيل لجان في جبل عامل لتقديم المساعدة المادية والتسليحية للثوار الفلسطينيين. ليس فقط ذلك، بل ساهمت تلك اللجان، رغم قدراتها البسيطة، في تشكيل حملة مقاطعة محلية للبضائع القادمة من المستعمرات الصهيونية المستحدثة على أراضي الشعب الفلسطيني بالجليل، ومنع تلك البضائع من دخول الأسواق اللبنانية. وأكثر من ذلك، تطوع عدد كبير من أبناء جبل عامل وأبناء الجنوب عموماً، وعدد من المناطق اللبنانية الأخرى، للمشاركة في قتال العصابات الصهيونية على أرض فلسطين، وارتقى منهم عدد من الشهداء والجرحى يعني ببساطة أن الإسناد اللبناني للشعب الفلسطيني ومقاومته قديم بقدم المشروع الصهيوني. وبحقبة وجود قوات الثورة الفلسطينية في لبنان كمل الإسناد اللبناني للمقاومة الفلسطينية من خلال انخراط عدد كبير من الشباب اللبناني ومن الأحزاب اللبنانية في العمل المقاوم بقيادة فصائل فلسطينية في جنوب لبنان. كما شارك لبنانيون كثر في العمليات الخارجية، التي كان أثرها كبيراً لناحية صد الإبادة ومخاطبة العالم الظالم باللغة التي لا يعرف كيف يخاطبنا إلا بها، وهي لغة العنف.
ومن الأمثلة الحية الشاهدة على الإسناد اللبناني للشعب الفلسطيني ومقاومته هو الأسير جورج عبد الله، ابن منطقة عكار، يعني أبعد منطقة لبنانية جغرافياً عن حدود فلسطين، الذي تم اعتقاله من قبل فرنسا بتهمة تنفيذ عمليات ضد دبلوماسيين إسرائيليين، وملحق عسكري أمريكي، في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، بالتعاون مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. جورج، الذي انتهت محكوميته في السجون الفرنسية منذ سنوات طويلة، لا يزال حتى الآن، نحن في سنة 2025، رهن الاعتقال التعسفي بقرار أمريكي مباشر لأنه ببساطة رفض أن يعتذر عن نشاطه الفدائي.
المرحلة من التاريخ شهدت تلاحماً كبيراً بين فصائل المقاومة الفلسطينية وأحزاب لبنانية. كانت اللحظة التاريخية الأبرز، رغم كل التعقيدات، هي الصمود الأسطوري للمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية داخل بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف 1982. الاجتياح الذي خاض الجيش العربي السوري معارك يمكننا وصفها بالأسطورية في محاولات صدّ هذا الاجتياح، سواء في محيط بيروت أو في جبل لبنان أو في منطقة البقاع شرق لبنان.
بعد صعود المقاومة الإسلامية في لبنان بقيادة حزب الله، كان الوضع الفلسطيني في ذلك الوقت يشهد انقلاباً شبه تام لصالح تيار اتفاقية أوسلو والاتجاه نحو تسريع التطبيع وتشكيل أداة فلسطينية لخدمة أجندة العدو. ولكن التحول لم ينهي المقاومة الفلسطينية التي ظهرت بأسماء وتيارات جديدة، والتي وجدت نفسها محاصرة من الداخل والخارج. ولكن مرة أخرى، خرجت المقاومة اللبنانية لإسناده.
في 19 تشرين الأول (أكتوبر) 1988، نفذ الشاب اللبناني عبد الله عطوة المعروف بلقب "الحر العاملي" عملية استشهادية على الحدود اللبنانية الفلسطينية مباشرة قرب مستوطنة المطلة.
وصيته نشرتها المقاومة الإسلامية، يعني حزب الله بعد العملية، قال الشهيد عطوة: "أهدي هذه العملية إلى الانتفاضة الإسلامية في فلسطين، وأحيي المجاهدين الأبطال الذين صنعوا العزة والكرامة للشعب المسلم في فلسطين ولكل المستضعفين في العالم." وصية الشهيد عطوة لم تكن استثناءً. لمعارك المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال وعصابات عملائه بجنود لبنان لم تغب فلسطين عن خطاب ولا عن أفعال المقاومة.
وعلى سبيل المثال، يوم 29 أكتوبر عام 1994، نفذت المقاومة الإسلامية (حزب الله) واحدة من أهم وأجرأ العمليات ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، وهي عملية اقتحام موقع الدبشة، الذي كانت تتحصن فيه قوات الاحتلال بمنطقة النبطية بجنوب لبنان. العملية علقت في أذهان أبناء المقاومة في لبنان نتيجة الصورة الأيقونية التي ظهر فيها مقاوم يزرع راية الحزب على الموقع. وعندما نتحدث، نحن بعد سنة من اتفاق أوسلو، وفي ظل هيمنة خطاب السلام والتسوية على الفضاء العام في العالم العربي أطلق حزب الله على العملية تسمية "عملية شهداء فلسطين"، ومثل عملية الحر العاملي، أيضاً في نهاية عام 1999، نفذ المقاوم اللبناني المنتمي إلى حزب الله، عمار حمود، آخر عملية استشهادية قبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سنة 2000. الشهيد أهدى عمليته للانتفاضة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني، وتم تسمية العملية "عملية القدس الاستشهادية".
الإسناد والدعم لم يكونا مختصرين على التسميات والأدبيات والخطابات، بل تجاوزا ذلك إلى الدعم المالي والتسليح، والأهم التدريب ونقل الخبرات. خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بين سنة 2000 وسنة 2005، ساعد حزب الله فصائل المقاومة الفلسطينية في تنفيذ عدد من العمليات عبر الحدود اللبنانية الفلسطينية، ونفذ أكثر من عملية ضد قوات الاحتلال في مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وأحياناً عبر الحدود. كان الهدف الواضح لهذه العمليات هو إسناد الشعب الفلسطيني وقوى مقاومته.
الفترة ذاتها شهدت أيضاً أكبر عملية نقل خبرات وتدريب وتسليح وتمويل من قبل المقاومة اللبنانية إلى المقاومة الفلسطينية، وكان لسوريا في النظام السابق موقع مركزي في هذه العمليات. في الشهر الأول من سنة 2004، كان هناك خطوة بالغة الدلالة على المسار المشترك للمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، يوم أنجز حزب الله عملية تبادل أسرى مع كيان الاحتلال أدت إلى تحرير غالبية الأسرى اللبنانيين من المعتقلات الإسرائيلية، وأيضاً أدت إلى تحرير أكثر من 400 أسير فلسطيني من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان عدد الأسرى الفلسطينيين المحررين يفوق بعشر مرات عدد الأسرى اللبنانيين الذين تحرروا في تلك التبادل.
نصل إلى سنة 2006، يوم 12 تموز (يوليو)، نفذ حزب الله عملية "الوعد الصادق" وأسر فيها جنديين إسرائيليين، وقتل فيها عدد من جنود الاحتلال. من بعدها، شن العدو الإسرائيلي حرباً على لبنان سماها "حرب لبنان الثانية". الهدف الأول والمباشر لعملية "الوعد الصادق" كان تحرير الأسرى اللبنانيين وأسرى فلسطينيين وعرب من معتقلات الاحتلال، ولكن بالتوقيت، كان هناك هدف ثانٍ وهو إسناد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، لأن قبل 17 يوماً من عملية "الوعد الصادق"، شنت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة عملية أسر فيها جندي إسرائيلي، للأسف، كلنا نعرف اسمه، وهو جلعاد شاليط. نعرفه للأسف لأنه معروف، بينما لا نعرف أسماء غالبية الأسرى العرب والفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
العدو شن حرباً طاحنة على قطاع غزة، واستمرت حتى ما بعد 12 تموز (يوليو) 2006. يعني عندما اتخذت المقاومة الإسلامية في لبنان، حزب الله، قرار تنفيذ العملية في هذا التوقيت تحديداً، كانت تلك الأيام تشهد حرباً إسرائيلية على قطاع غزة.
توقيت العملية اللبنانية كان يهدف إلى تخفيف الضغط على المقاومة الفلسطينية وعن أهل غزة. وفي سنة 2021، تحديداً في مايو، خلال عملية "سيف القدس"، كان هناك تنسيق قائم ومستمر بين المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية، وحرس الثورة الإسلامية في إيران، خصوصاً من جهة تزويد المقاومة في غزة بالمعلومات الاستخبارية التي تساعدها في الدفاع عن أرضها وشعبها. الأمر كشفت عنه قيادة كتائب القسام على لسان قائد لواء خان يونس في ذلك الوقت، محمد السنوار، شقيق الشهيد يحيى السنوار، في ظهوره الإعلامي الأول على قناة الجزيرة القطرية.
هذا السرد التاريخي هو مجرد جزء بسيط من مسار التعاون والتنسيق بين المقاومة اللبنانية والفلسطينية، بمساعدة ومشاركة سورية في أيام النظام السوري السابق وبتنسيق وتمويل ومساعدة ورعاية دائمة من قبل الجمهورية الاسلامية في ايران.
إقرأ ايضاً.. العمید فدوي: رغم الصعوبات التي واجهتها المقاومة إلا أن بركاتها كانت كبيرة
للمزيد من التفاصيل شاهد الفيديو المرفق..