الدفاع النفسي لدى المجتمع الإيراني .. مواجهة نظرية الحلقات الخمس

الإثنين ١٤ يوليو ٢٠٢٥
٠٣:١٠ بتوقيت غرينتش
الدفاع النفسي لدى المجتمع الإيراني .. مواجهة نظرية الحلقات الخمس نفّذ الكيان الإسرائيلي في إطار الحرب على إيران، سلسلة من الحروب الحديثة، وفق منهجية عسكرية نفسية دقيقة، خاض فيها المجتمع الإيراني اختبارا وجوديا غير مسبوق، وصل فيها الكيان في اليوم الـ 12 للحرب، الى ما يسمى "نقطة الذروة"، وهي تحديداً النقطة التي اصبحت فيها القوة العسكرية للكيان، عاجزة عن تنفيذ عملياتها بفعالية، حيث وصلت التكلفة للعدوان أكبر من الفوائد المرجوة منه.

أما على مستوى الحرب النفسية، يحاول العدو استمرارها على مستويات مختلفة، بعد أن طبّق نظرية "الحلقات الخمس" للعقيد الأمريكي جون واردن، مستهدفا قلب إيران ودوائرها الحيوية تباعا من القيادة، إلى الأنظمة الاستراتيجية، والبنية التحتية، في محاولة لإحداث "شلل استراتيجي" يعصف بإرادة الصمود. لكن ما لم تحتسبه النظرية هو قوة المناعة النفسية للشعوب، وهي التي تجلّت بأوضح صورها في التجربة الإيرانية، إذ تحوّلت الصدمة الأولى إلى وقود للتماسك وحافز للرد، والخطر إلى فرصة لتعزيز الهوية الوطنية والانتماء.

فكيف تمكن الشعب الإيراني من تحويل هذه النظرية إلى مشهد نادر من الوحدة والصبر والتحدي.

نظرية الحلقات الخمس

طبّق العدو الإسرائيلي في هجومه على إيران نظرية الهجوم الجوي العسكرية، المعروفة باسم الحلقات الخمس ( Five Rings Theory) التي صاغها العقيد جون واردن، ورسم فيها العدو كدولة تتألف من حلقات متحدة المركز، تتواجد القيادة في مركزها. وتضم الحلقات التالية: القيادة، الأنظمة الأساسية، البنية التحتية، السكان، وأخيراً القوات الميدانية، التي تعمل كدرع لحماية الحلقات الأخرى.

تهدف نظرية واردن إلى ضرب "المركز" في البداية وشلّ حركته، باعتباره "الأهم" نظرا لدوره القيادي ووصفه بأنه "دماغ" الكائن الحي، الذي يموت التنظيم من دونه، وهي فكرة "قطع الرأس"، وهذا السيناريو طبّقه العدو الإسرائيلي في حربه على لبنان، عندما استهدف القيادة المركزية لحزب الله واستشهد الأمين العام مع بعض القيادات.

في الحرب التي شنّها العدو الإسرائيلي على إيران، بدأ ضربته الأولى، العاجلة والقاضية، باستهداف الصفّ الأول من القيادات العسكرية والأمنية، بالإضافة إلى علماء البرنامج النووي، وهذه الضربة تسبّب مشاعر عميقة من الإحساس بالخسارة أو الفجيعة، التي على الإنسان أن يتحمّلها بمسؤولية واعية، وأن يستوعبها كي لا يسقط معها. فالإرباك اللحظوي الأوّلي مقبول إلى حدّ ما، ولكن المطلوب في الظروف المشابهة هو إعادة الوقوف لإكمال المواجهة. يشبه الأمر حلبة المصارعة، إذ توجد فرصة محدودة أمام اللاعب للنهوض مجدّدا قبل أن ينتهي العدّ، فإن نهض تكمل المباراة، وإذا لم يستطع النهوض ربح الخصم بالضربة القاضية.

أدخل واردن مفهوم "الشلل الاستراتيجي"، الذي يتحقق مع جعل الخصم غير قادر فعلياً على المقاومة. وبالتالي ينشأ بعد ذلك ارتباك وخلل وتشتّت، بحيث تؤدي صدمة الحرب إلى أعراض نفسية كبيرة تعزّز "النصر العسكري"، لذلك بدأت الحرب على إيران باستهداف القيادات والعلماء ثم الأنظمة الاستراتيجية والبنية التحتية والسكان والقوات الميدانية، وهي سلسلة ضربات كفيلة بأن تسبّب لدى الجمهور، حالات الخوف والذعر والإرباك والقلق والغضب، لكن الشعب الإيراني استطاع تجاوز الصدمة.

التأثير النفسي للعملية

في المرحلة الأولى استهدف العدو القيادة بهدف شلّ النظام وتعطيل القيادة وتشتيت الشعب.

على المستوى النظري، يفترض أن يؤدي هذا الهجوم الحربي إلى تكاثر المخاوف والهواجس من الفوضى وتفلّت الأمور وإمساك العدو بمفاصل البلد، لكن هذا المتوقّع النظري لم يحصل لأن المناعة النفسية لدى الشعب الإيراني استطاعت الثبات خلال الأيام الأولى، والسبب في ذلك هو حجم الرد الإيراني من خلال ضرب المنشآت الإسرائيلية، وهو أمر عزّز الثقة بالنفس والروح المعنوية والأمل لدى الإيرانيين. فالرد الإيراني المؤلم للإسرائيليين، زاد من استعداد الشعب الإيراني للتحمّل، على قاعدة "إن كنتم تألمون فإنهم يألمون"، بالإضافة إلى مسألة "الثقة بالنفس" و"تقدير الذات" التي يتمتّع بها الإيراني -تاريخيا- وهي التي منحته الاستعداد النفسي لتحمّل تبعات الحرب.

في المرحلة الثانية هدَفَ العدو إلى تدمير الأنظمة الأساسية (المنشآت النووية والاستراتيجية) في إيران. وهو أمرُ كفيل بالإحساس بالخسارة المعنوية الكبيرة فيما لو تحقق. فهذه الأنظمة تشكّل جزءا من الهوية الوطنية وهي بمثابة السند للشعب الإيراني، وبمثابة الرمز لتحضّره العلمي وكفاءاته التقنية، لذلك كان من الممكن أن يؤدي القضاء التام على المنظومات النووية والباليستية إلى انهيار معنوي ونفسي، لكن الأمر لم يحصل بسبب فشل المخطط الإسرائيلي.

إن من حق أي شعب في العالم أن يفخر بمنجزات بلده وقدراته، لأنّ هذه القدرات العلمية تشكّل له “حماية معنوية" في اللاوعي، تعزّز الشعور بـ “الأمن والأمان" كحاجة إنسانية ضرورية من أولويات الحاجات الإنسانية (هرم ماسلو للاحتياجات النفسية). لذلك فإن استهداف رمز الحماية والأمان عند الإنسان يتولّد منه أمرين لم ينتبه لهما العدو كثيرا، وهما: زيادة التمسك بهذا الرمز والاستعداد للدفاع عنه، وزيادة كراهية العدو ودرجة استعدائه، لإقدامه على المسّ بالرمز.

في المرحلة الثالثة: سعى العدو إلى ضرب البنى التحتية وتقويض الاقتصاد والاتصالات لشلّ الحياة اليومية، وتثوير المستوى الشعبي.

في هذه المرحلة استند المجتمع الإيراني إلى المناعة الذاتية التي اكتسبها بفضل الحصار المستمر عليه، وبفضل الحروب المنظمة ضده في السياسة والاقتصاد والفكر، منذ انتصار الثورة والحرب مع العراق، فالمجتمع الإيراني يملك خبرة جيدة في التحصين المسبق ومواجهة الضغوط والأزمات الناتجة عن الحصار وضرب العملة النقدية، وكل هذه العناوين التي تمثّل أزمات كبرى تحولت إلى مواضيع سبق للشعب أن خبرها وتكيّف معها. بالإضافة إلى كونها عناوين ومسائل ستزيد سخطه ونقمته على أميركا و"إسرائيل".

المرحلة الرابعة: الضغط على السكان بهدف تقويض شرعية النظام عبر حملات إعلامية ونفسية ودعم المعارضة ونشر الفوضى، وهنا كانت المفاجأة من خلال الالتفاف الجامع على شرعية النظام وخياراته بالقول والفعل. فجاءت النتائج مخيّبة للعدو ومساعِدة للشعب الإيراني الذي ارتفعت معنوياته بسبب اللحمة الوطنية والتآزر المجتمعي بوجه العدو ومخططاته.

على المستوى النفسي، أسهم الضغط على السكان والمواطنين في إثارة المشاعر الوطنية والقومية وتعزيز الروابط والعواطف، التي تربطهم بالوطن الذي يتعرض لحرب إسرائيلية وأميركية. لقد تعزّز لدى الشعب الإيراني "الانتماء والارتباط" العميق بالهوية الوطنية، بشكل ساعد على تعزيز الوحدة الوطنية والولاء للوطن، وعمل على "التحفيز الإيجابي والجماعي" للمشاركة في العمل والمساهمة في تطوير المجتمع والبلد، إلى درجة أن البعض فكّك عزلته السابقة عن المشاركة السياسية وعمل على تعزيز التفاؤل والأمل.

المرحلة الخامسة: عزل القوى الميدانية بزيادة الضربات لمنعها من الرد وإجبارها على المفاوضات. كان يمكن لهذا الحدّ من المراحل أن يؤدي إلى زعزعة المعنويات، خصوصا بعد التدخّل الأميركي والإرهاب الإعلامي والنفسي الذي مارسه. ولكن في هذه المرحلة -التتويجية- عزّز الشعب كل الخيارات النفسية التي بدأها خلال المراحل السابقة، أي أنه لم يستنفد مرتكزات الصبر والصمود والمواجهة. لذلك ازدادت المناعة النفسية وتعززت أكثر.

صدمة الحرب

تعرّف صدمة الحرب (War Trauma) بأنها الاستجابة العاطفية التي تحدث بعد التعرض المباشر لأحداث مؤلمة تفوق قدرة الشخص على تحملها وتُفقِده الشعور بالأمان، فيسيطر عليه العجز ويصاب بالذهول أو صدمة الحرب، فما يعيشه الإنسان في ظل الحروب من تهديد بالموت، ورؤية الصواريخ المدمِّرة أو سماع أصواتها، أو ما يتعرّض له البعض من إصابات جسدية وفقدان الأهل، وتدمير المنازل والممتلكات، أو التهجير والعيش في ظروف قاسية، كل هذه الأمور تؤدّي للإصابة بصدمة الحرب التي لا تقتصر على المدنيين، بل تطال ايضا الجنود الذين يتعرضون للموت الجماعي والدمار.

التسليم الإلهي

إن العنصر الحاسم والمختلف في هذا السياق هو التسليم الإلهي، خصوصا في موضوع استهداف القيادات واستشهاد الرموز، إذ أنه على الرغم من مشاعر الخسارة والألم والمباغتة، يغلب التسليم الإلهي والإيمان بالإرادة الإلهية وقضائها، بالإضافة إلى أدبيات الشهادة، التي تنصّ على أن هؤلاء جميعا، كانوا يدعون الله ويتوسّلون إليه ليرزقهم الشهادة وقد حظوا بما تمنوا.

ربّ قائلٍ هنا إن استهداف قائد الثورة الاسلامية السيد اية الله علي الخامنئي لم ينجح، وبالتالي بقي القائد في الصدارة، وبقي الشعب رابط الجأش. وهذا صحيح إلى حدّ ما، لكن الإعلام كان يتحدث أيضًا في كل الوقت عن إمكانية استشهاد القائد في أي لحظة، إضافة إلى القائد نفسه الذي هيّأ الأمور وأعطى بعض التوجيهات الخاصة بهذا التفصيل، وكلها عناصر من الضغوط النفسية الهائلة التي يصعب النفاد منها، لولا القدرة الإلهية التي حمت القائد والنظام والشعب.

الخصوصية الإيديولوجية

يُجمع المتخصّصون على أن الاستجابات النفسية والفسيولوجية لصدمة الحرب المباغتة تختلف بين الأشخاص، تبعا للسياق الاجتماعي والثقافي والديني والفكري، لذلك يمكن القول إنّ الفارق كبير جدا ولا مجال للمقارنة في موضوع التعاطي مع الفقد، بين المجتمع الإيراني الشيعي الذي يعظّم الشهادة وبين المجتمع الإسرائيلي الذي يكره الموت "الذي يفرون منه" بحسب التعبير الإلهي و "لا يتمنونه أبدا". هذا التفصيل مهم جدا، في جعل الأثار النفسية مخفّفة، وتحظى بالقبول والتسليم، لأنها إرادة الله أولا وأخيرا. وقد سبق مجتمعُ المقاومة في لبنان المجتمعَ الإيراني في هذه الجزئية، حين استهدُف المجاهدون واستشهدت القيادات والرموز وسماحة السيد حسن، وكان الرد الأول التسليم لله والإيمان بإرادته ومشيئته وقدره وقضائه.

على الرغم من قوة الحرب المنظّمة وشراستها على إيران، إلّا أنها لم تستطع إسقاطها. وهذا الأمر على قدر خسائره المادية السلبية إلّا أنه شكّل مصدر قوة للطرف الإيراني الذي زادته هذه الحرب قوةً وتحمّلا. فبحسب المعطيات العلمية، فإنّ صدمة الحرب تنتج -على سبيل المثال- شعورا باليأس تجاه المستقبل، وإنكارا لبعض الوقائع، وعدم القدرة على ضبط المشاعر والانفعالات، والإحساس بالحزن والكرب...الخ، لكن ما الذي سيطر على المجتمع الإيراني بعد الضربات العنيفة؟ وبعد إحكام الضربات ضمن مخطط الحلقات الخمس؟ هل يئِس من المستقبل؟ هل غرق في الإنكار والكرب والانفعالات السلبية؟

انقلاب الموازين

شاءت الأقدار الإلهية أن يفشل المخطط إسرائيلي وألا تنكسر إيران، وهذا ما أعطى زخما معنويا ونفسيا للمواطن الإيراني الذي استشعر القوة والبأس -مع المظلومية- وهذا ما قلب الموازين النفسية أيضا.

فبدل أن يشعر الإيراني بالهزيمة (بسبب كثافة الضربات وعمقها) شعر بالانتصار.

وبدل أن يشعر بالضعف (بعد استهداف القيادات والبنى التحتية والإنشاءات) شعر بالقوة.

بدل أن يشعر بالإحباط (بعد المشاركة الأميركية في العدوان عليه) شعر بالأمل.

على الرغم من كل الخسائر البشرية والمادية يعرف العالم كله أن إيران -النظام والشعب- قالا لا للمشروع الإسرائيلي والأميركي، كما فعلت المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن. وثمن "اللا" هو الشعور بالعزة وبالحق وبالنصر المعنوي والنفسي.

خلاصات ونتائج

1. في التوقّع النظري للمآلات النفسية المواكِبة لهذا الضغط القتالي والحربي، من السائد أن يسيطر الخوف والقلق والإرباك على الجمهور. لكن سلوك الشعب الإيراني خلال الضربات وبعدها، لم يأتِ وفق السيناريو المتوقّع.

2. اعتقد العدو أن الهجوم والضربات القوية ستجعل البلاد تتهاوى، لكن النتائج الميدانية منحت الشعب والشرائح الاجتماعية أمالًا متجددة، وثقة بالقيادة، وعزما على المواجهة. (قرر أعضاء البرلمان إيقاف العمل مع فريق الوكالة الدولية للطاقة النووية كإحساس عميق بالوطنية وعدم القبول بالمذلة والخداع).

3. الأشخاص الذين كانوا يعتقدون أن العدو لن يضرب المنشآت النووية تغيرت أفكارهم، خصوصا بعد المشاركة الأميركية والإذعان للطلب الإسرائيلي، فصاروا مع انكشاف حجم النوايا الأميركية والإسرائيلية أكثر دفاعًا عن نظامهم وأكثر استعدادا للمواجهة، ولتحمّل التبعات والخسائر.

4. تجسّدت الخسارة الأكبر للعدو في ولادة الحسّ الوطني الجديد وتعزيز خياره، حيث آزر نظامه واستشرس في الدفاع عنه أمام إسرائيل وعدوانها. فيما تجسّد الربح الأكبر لإيران والإيرانيين بالصمود 12 يوما بوجه الحرب الطاحنة التي استهدفت بلادهم وحضارتهم ومجتمعهم ثم انكفأت.

5. أثبت الكيان الإسرائيلي أنه عاجز عن إتمام أي حرب يدخلها مالم يدعمه الطرف الأميركي، فحتى في غزة ولبنان واليمن، خفّف الإسرائيلي من مآزقه القتالية حين مدّ الأميركي دعمه وسلاحه وقواه.

6. أثبتت نظرية الحلقات الخمس أن نتائجها غير مضمونة ولم تنجح مع النموذج الإيراني.

7. بدل أن يتسبّب الهجوم الإسرائيلي على إيران بزعزعة النظام كما خطط العدو، تسبّب بزعزعة كيانه المؤقت، الذي وجد نفسه لأول مرة في تاريخه، عرضة لهذا النوع من الخسائر والاستهدافات والرعب والتهجير، ما فضح ركاكة المجتمع الداخلي للكيان الذي لم يعد مكانا آمنًا لمعظم الموجودين فيه.

8. جاءت نتيجة الحرب العسكرية: صمود ميداني، مناعة اجتماعية، اتحاد بوجع الأعداء، تعزير البرنامج النووي بدل تدميره.

9. أثبتت عملية الأسد الصاعد على المستوى النفسي أن الأسد لم يكن باللياقة المعهودة من الأسود.

0% ...

آخرالاخبار

منازل جديدة للفلسطينيين ينسفها الاحتلال في حي الشجاعية


كلمة مرتقبة للشيخ نعيم قاسم مساء اليوم


قتلى بمجزرة للدعم السريع في مدينة كلوقي السودانية


شاهد.. مراسل العالم: الاحتلال يواصل قصفه قطاع غزة


الرئيس الايراني يهنئ ملك ورئيس وزراء تايلاند باليوم الوطني


الادميرال إيراني يشيد بنجاح القوات البحرية في مناورة بريكس الدولية


دول أوروبية تقاطع يوروفيجن احتجاجا على قرار السماح بمشاركة الاحتلال


رسائل التصعيد الإسرائيلي وولادة التسوية اللبنانية داخل لجنة الميكانيزم


انتحار ضابط بجيش الاحتلال بعد مشاركته حرب غزة


في زيارة دولة.. بوتين يصل قصر دلهي الرئاسي بالهند