صحيح أن زياد لم يكن حاملًا لسلاح وواقفًا على الجبهة، ولم يكن يدير عمليات عسكرية وأمنية لمواجهة الأعداء، لكنه من موقعه الفني والفكري والسياسي كان من المساهمين في صمود الذين ما زالوا صامدين في المجتمعات العربية في وجه الهجمة الاستعمارية المستمرة منذ قرون، والتي زادت ضراوتها في الـ100 عام الأخيرة.
كان زياد الرحباني من الذين صمدوا رغم أن كثيرًا من أبناء جيله انقلبوا بعد سلسلة من الهزائم القاسية التي تعرضوا لها.
هذه الحلقة من برنامج "جوّا الصندوق" الذي يُبث عبر شاشة قناة العالم الإخبارية، هي تحية لروح زياد الرحباني، وفي الوقت نفسه تحية للصامدين المخلصين من أبناء جيله، سواء الذين ذكرهم التاريخ أو الذين تناساهم المؤرخون إما جهلاً أو عمداً، فواجبنا أن نعرفهم ونعرف بهم، لأجلنا لا لأجلهم.
يتم تحديد مدة ومدى عنف أي حرب يخوضها أي شعب بناءً على طبيعة الحرب نفسها. والحرب الاستعمارية التي شنها الغرب للهيمنة على بلدان المنطقة ونهب ثرواتها وإبادة شعوبها، فرضت واحدة من أطول وأقسى المعارك. وطول المعركة يعني عمليًا أن هناك أجيالًا متتالية ربما تتعرض لآثار الحرب وتتوارث آثار كل حقبة سابقة.
ومسألة الاستمرارية لدى الطرف الذي يتعرض لحرب إبادة هي مسألة غاية في الدقة والصعوبة في الوقت نفسه. فالجيل الأول الذي يتعرض لحملة عنيفة من الاستعمار سيلجأ إلى المقاومة كرد فعل فطري للحفاظ على وجوده، وبنفس الوقت كاستراتيجية لتحقيق الأمان للأجيال القادمة.
لكن هزيمة الجيل الأول تخلق معضلة في الأولويات لدى هذا الجيل، وتنتقل آثارها إلى الأجيال التالية. ومن يبقَ عائشًا من الجيل الأول المهزوم سيضطر لاختيار واحد من اثنين: إما الاستمرار في المقاومة والمخاطرة، أو البحث عن البقاء ومحاولة تعزيز فرص الأجيال المقبلة. ولهذا السبب، كان العديد من منظري مقاومة الاستعمار يركزون على ضرورة تعريف حقيقة الحرب وإدراك طولها الزمني لتهيئة الجيل الحاضر والأجيال المقبلة للمعركة.
على سبيل المثال، يقول القائد الفيتنامي "الجنرال جياب" في كتابه حرب الشعب:
"دراسة موازين القوى حددت بوضوح نقاط ضعفنا في مواجهة القوة الكبيرة للعدو، لهذا فإن حرب الشعب الفيتنامي للتحرير كان لابد لها أن تكون معركة طويلة وقاسية لكي تنجح في إنضاج الظروف الحاسمة للنصر. كل المفاهيم الناتجة عن التسرع والداعية إلى تحقيق نصر سريع ما هي إلا أخطاء فادحة."
وبالفعل، تطورت استراتيجية المقاومة الفيتنامية لتشمل معركة طويلة الأمد أصر فيها الفيتناميون على سياسة النفس الطويل التي أنتجت في النهاية نصراً كبيرًا شهدته الأجيال التالية من الثورة الفيتنامية.
وفي نفس السياق، يمكن الإشارة إلى العبارة الشهيرة للمناضل الإيرلندي "بوبي ساندز" الذي استشهد في سجون الاحتلال البريطاني لشمال إيرلندا بعد إضرابه عن الطعام، حيث قال في إحدى كتاباته من داخل السجن:
"إن ثأرنا سيكون في ضحكات أطفالنا."
وفي سياقنا العربي، وبدراسة بعنوان التطبيقات الثورية للقومية العربية، يقول المفكر الفلسطيني الشهير غسان كنفاني:
"إن الإنسان الذي لا يعمر في المتوسط أكثر من 60 عامًا، لن يجد متسعًا ليعيش بسكون، بل سيحمل الأزمة منذ يولد، وسيعطيها لأبنائه ساعة يموت، وستكون نتائج هذا النضال لجيل لا نعرف متى سيأتي، وإن كنا نتفائل بمشاهدة أوائله في أواخر عمرنا. وقد يكون جزاؤنا الوحيد هو أن يغبطنا الجيل القادم، الجيل السعيد الذي سيتمتع بانتصاراتنا على أننا أحرزنا شرف الحياة في عصر الحصار من أجل الحياة."
المزيد من التفاصيل في سياق الفيديو المرفق..