طفولة تحت القصف وفقدان الأحبة
رحلة أي أمّ في هذا العالم حين يمرض طفلها بمرض خطير هي رحلة محفوفة بالألم والقلق، لكنها بالنسبة لسهام زياد السمونة تعني توفير علاج لابنها في ظل القصف والحواجز والجوع والموت المتربص في كل مكان، كما لو أنه كابوس. لكن ولأنها فلسطينية، فالاستسلام لا معنى له. إليكم قصتها.
يُقال إن الباري عز وجل يعطي أشد المعارك لأقوى جنوده، والفلسطينيون اعتادوا أن يكونوا في قلب مثل هذه المعارك.
"وقالت سهام:"اسمي سهام زياد السمونة، عمري 24 عاماً من مواليد الألفين. لدي أخ وحيد بين أربع بنات. أنهيت الثانوية العامة وحصلت على معدل 60%. كان حلمي أن أكمل دراستي الجامعية، لكن الظروف لم تسمح. كان والدي يعمل خياطاً، وكان راتبه جيداً نسبياً، لكنه كان ينفق جزءاً كبيراً من دخله على مستلزمات عمله، مما يؤثر على مصروف البيت.
وأضافت :"أما عن طفولتي، فقد شهدنا حرب السمونة التي يعرفها الجميع - حرب الفرقان عام 2008، حيث استشهد معظم أفراد عائلتي. هذا ما أتذكره من طفولتي: عمي وعمتي وزوجها وأولادها. كانت طفولتي في زمن الحرب، وكان عمري آنذاك 10 سنوات عندما وقعت الحرب. فقدنا أشخاصاً غاليين علينا جداً. ورغم ذلك، كانت المدرسة جميلة جداً، والثانوية العامة كانت تجربة رائعة. كان حلمي أن أكمل تعليمي، لكن الظروف لم تسمح. أؤمن أن الإنسان بدون تعليم لن يعيش حياته بشكل صحيح ولن يعرف كيف يتعامل مع الحياة، فالعلم أساس كل شيء. من لا يعرف القراءة والكتابة لن يعرف شيئاً في الحياة.
أحلام التعليم التي أوقفها الحصار
ولفتت سهام:"كان حلمي أن أتخصص في اللغة الإنجليزية. كنت أتواصل مع أجانب من الخارج بعد حرب السمونة، حيث أخذوا أرقامنا وكانوا يتواصلون معنا للسؤال عن أحوال غزة والوضع هناك. لكن بعد خطبتي وزواجي، انقطع التواصل معهم. كان حلمي أن أصبح متخصصة في اللغة الإنجليزية."
الحرب تطرق أبواب الحياة الزوجية
بالنسبة لسهام، اندلعت الحرب في أسوأ لحظة ممكنة، حيث كانت في أكثر مراحل حياتها هشاشة.
وقالت سهام :"في بداية الحرب كنت حاملاً في ابني الأول. سافرت إلى" إسرائيل" على أساس أن أعود إليه لاحقاً، لكن اندلعت الحرب وأتت ولادتي. كنت حاملاً وأهلي تركوني، حتى عند ولادتي لم تكن أمي بجانبي. ولدت وأمي ليست معي، وحتى عائلة عمي، جميعهم انتقلوا إلى الجنوب. لم يبقَ سوى أنا وزوجي وعمي. الوحدة بدون الأهل لا تُحتمل.
بداية رحلة المرض مع الطفل
وأوضحت :"قضينا كل فترة الحرب هكذا. مكث أهلي أربعة أشهر هنا ثم انتقلوا إلى الجنوب. نزحنا إلى المنطقة الصناعية وحُوصرنا هناك. مع الخوف الشديد، كنت على وشك أن أسقط الطفلة من يدي. لولا زوجي الذي أسرع وغضب مني قائلاً: 'اجري، اجري'، وحملني معه. شعرت أننا محاطون، لكن مع الخوف لم نعرف كيف نتصرف."
حتى قبل العدوان الإسرائيلي الجديد، كانت العائلة تواجه محنة أخرى، حيث أصيب ابنها الصغير بمرض خطير. إن مرض الطفل أمر قاس في حد ذاته، لكن أن تعلم أن مصيره مرهون بحصار خانق واحتلال يتحكم حتى في الأنفاس، فذلك يثقل القلب ويسلب الإرادة ويجعل الموضوع أكثر إيلاماً.
التشخيص الصادم ونقص العلاج في غزة
"وقالت : طفلي البالغ من العمر سنة وثلاثة أشهر، بدأ يحمّ وتظهر عليه أعراض المرض. كانت حماتي تقول لي: 'ربما بسبب التسنين، لذلك يحمّ'، فلم آخذ الأمر على محمل الجد وتجاهلت الموضوع. بعد يومين أو ثلاثة، استمرت نفس الأعراض. الطفل كان يبقى مستلقياً في سريره، يريد النوم فقط ولا يستيقظ. كان زوجي لا يعمل آنذاك، والوضع المالي صعب، لذلك ترددت في اصطحابه للطبيب. هذا ما كان يعذبني - أنني لم آخذ الطفل للطبيب فوراً. فجأة قالت لي حماتي: 'قومي، أريد أن آخذك والطفل للطبيب'. أخذناه إلى دار الشفاء في اليوم الثالث من رمضان. أفطرت هناك مع عائلة عمي في أول يومين.
وتابعت سهام:"أخذنا الطفل إلى دار الشفاء، فأخبرونا أنه يعاني من حمى. ثم أخبرونا بوجود انتفاخ في الكبد، وأجروا له فحصاً من ظهره، وقالوا بعدها إن لديه مشاكل في الدم. اكتشفوا عدة مشاكل لا يمكن علاجها في غزة. أخبرونا أنه يجب أن يسافر لطبيب متخصص في أمراض الدم في الضفة الغربية. في البداية، أعطونا تحويلة طبية وقالوا: 'يجب أن تسرعوا بأسرع وقت. إذا لم تعملوا تحويلة للطفل، فستخسرونه'. من دار الشفاء توجهنا إلى مستشفى الرنتيسي. أعرف شخصاً له واسطة في التحويلات الطبية، فتوسلت إليه كثيراً.
من غزة إلى الضفة… سباق مع الوقت
وعندما أرسلوا لنا رسالة قالوا: 'سهام زياد السمونة تتوجه مع طفلها للسفر في يوم كذا وكذا'. في نفس اليوم، في الليل، جاءت حماتي لتبقى مع ابني، وذهبت أنا وزوجي لشراء الأغراض لي وللطفل.
وأضافت:"في الصباح ارتديت ملابسي وجهزت نفسي، وخرجنا بالإسعاف من الرنتيسي إلى الخليل. أول شيء فتشوني على الحاجز الإسرائيلي، ومن الخليل نُقل الطفل إلى العناية المركزة. كان ينام في الطابق الرابع وأنا في الطابق الأول. كانوا يعطوننا مواعيد محددة للزيارة: في السابعة صباحاً، وفي الثانية عشرة ظهراً، وفي السادسة مساءً. عندما كنت أرى الطفل، كان جسده بالكامل مغطى بالأنابيب من قدميه حتى رأسه. كان نائماً على ظهره، فاقداً شعره تماماً. كنت أقترب منه وأمسك بيده وأدعو له، ثم أغادر.
النقل إلى داخل الاحتلال وتحديات العلاج
ونوهت سهام:"عندما رأوا حالتي النفسية هناك في الخليل، جاء طبيب العناية المركزة وقال لي: "هذا ابنك كما خلقه الله، والله يريد أن يأخذه. استودعيه الله."
استمر الكابوس بسبب نقص الإمكانيات الطبية في الضفة الغربية المحتلة، مما استدعى نقل الطفل إلى مؤسسة طبية داخل الكيان الإسرائيلي. بدأت معاناة بيروقراطية طويلة حيث انفصلت سهام عن ابنها المريض في بيئة معادية بعيدة عن غزة، بينما بقي أفراد أسرتها محاصرين.
أمل ضعيف بنسبة 2%
وقالت سهام:"في رحلة الإسعاف من المستشفى الأهلي في الخليل إلى "إسرائيل"، جلست أمام سيارة الإسعاف وخيري خلفي محاطاً بالأجهزة. كلما أصدر جهاز القلب صوت الإنذار، كنت أعتقد أن الولد قد مات، لكن الطبيب كان يطمئنني قائلاً: "هذا طبيعي، النفس يذهب ويعود."
وتابعت :"عندما ذهبت للأطباء، قالوا لي: "ابنك يحتاج للعلاج الكيماوي، وشعره سيتساقط. يجب أن تتقبلي الوضع." سألت: "هل الولد مصاب بالسرطان يا دكتور؟" أجاب: "لا، لكنه سيأخذ علاج السرطان الكيماوي. يعاني من مرض مناعي وليس لديه مناعة على الإطلاق. المشكلة في خلايا الدم البيضاء والحمراء. سنبحث عن متبرع بالدم ونعطيه دماً جديداً. إذا استجاب جسمه للعلاج، فسيعيش الطفل بنسبة نجاح 2%."
فصل جديد من الفقدان
وأضافت:"كانت عملية زراعة نخاع العظم مرهقة جداً. قال لي الطبيب: "يجب أن تذهبي إلى غزة لترتاحي." لم أجد بديلاً فذهبت إلى غزة في شهر أغسطس. بعد شهرين، عدت مرة أخرى لألتحق بالولد، لكن لم تكن النهاية كما تمنيت، فبدلاً من اللقاء والعناق، كان هناك الفقدان."
شهادة صيدلانية عن انهيار النظام الصحي في غزة
وفي حوار مع الصيدلانية والناشطة المؤيدة لفلسطين سميحة هامير، أكدت: "بصفتي صيدلانية إكلينيكية وأماً، أستطيع أن أتخيل حجم الألم الذي تعيشه تلك الأم وهي ترى طفلها يعاني من مرض فتاك يمكن علاجه في معظم أنحاء العالم، إلا في غزة حيث الاحتلال والحصار وانهيار النظام الصحي. لقد قُتل أكثر من ألف عامل في القطاع الطبي خلال الثمانية عشر شهراً الماضية. نحن نتحدث هنا عن استهداف ممنهج للرعاية الصحية."
حرمان المرضى من حق الحياة
ولفتت سميحة: "كل من يعاني من مرض مزمن أو طويل الأمد يحتاج إلى أدوية تُعطى بانتظام وتُراقب من قبل متخصصين. لكن في غزة، هؤلاء يُستهدفون ويُقتلون، والمنظومة الصحية دُمرت بالكامل. حتى المسكنات والمضادات الحيوية باتت نادرة، وعمليات الولادة والبتر قد تُجرى دون مخدر. ما يجري ليس مجرد حرمان من حق الرعاية الصحية، بل استهداف متعمد لأضعف الفئات في المجتمع."
التفاصيل في الفيديو المرفق ...