في منتصف مايو/أيار الماضي عُلقت لافتة كبيرة، في مدخل مدينة حيفا شمالي فلسطين المحتلة، مكتوب عليها باللغة العبرية "سافروا لأكثر من 100 وجهة عبر أبو ظبي" وبالأسفل اسم شركة الطيران الوطنية الإماراتية "الاتحاد للطيران"، بعد أيام قليلة من سقوط صاروخ أطلقته "أنصار الله" اليمنية على مطار بن غوريون في 4 مايو، وهو ما دفع شركات الطيران العالمية إلى تعليق رحلاتها إلى الأراضي المحتلة حتى الـ25 من الشهر نفسه.
من بين هذه الشركات الخطوط الجوية الألمانية (لوفتهانزا)، والخطوط الجوية السويسرية، والخطوط الجوية النمساوية، والخطوط الجوية البلجيكية، والخطوط الجوية الإيطالية، والخطوط الجوية البريطانية، إضافة إلى شركة أميركان إيرلاينز، إحدى كبرى شركات الطيران في العالم ومقرها الولايات المتحدة، فضلًا عن تحالف إير فرانس – كيه إل إم الذي يضم شركتي إير فرانس الفرنسية وكيه إل إم الهولندية ويُعد من أكبر مجموعات الطيران في أوروبا، بحسب البيانات المعلنة على المواقع الإلكترونية لها.
بالمقابل كان لشركات الطيران الإماراتية موقف آخر، كما يتضح من قاعدة بيانات مطار بن غوريون إذ يكشف تقرير شهر مايو 2025، أن عدد المسافرين عبر فلاي دبي (الاسم التجاري لمؤسسة طيران دبي التي أسستها حكومة الإمارة في 2008) 30,607 مسافرين بنسبة زيادة 49.86% مقارنة بالشهر ذاته من العام الماضي، و30,607 مسافرين عبر الاتحاد للطيران وذلك مقارنة بـ 7,235 مسافرا خلال الشهر ذاته من العام الماضي أي بزيادة معدّلها 4 أضعاف. فيما حلّت دبي في المرتبة الثالثة بعد أثينا في اليونان ولارنكا في قبرص كمحطة أولية لسفر الإسرائيليين ومنها باتجاه دول العالم، إذ حطّ فيها 83.7 ألف مسافر خلال مايو بارتفاع نسبته 45.5%، فيما حلّت أبو ظبي في المرتبة 12 وبارتفاع نسبته 195.8%.
يقرأ أستاذ الاقتصاد السياسي في برنامج الدراسات الإسرائيلية بجامعة بيرزيت، مطانس شحادة، لـ"العربي الجديد"، البيانات السابقة، ضمن سياقين: الأول؛ اقتصادي، إذ تسعى هذه الشركات لزيادة أرباحها في ظل الفراغ الحاصل في قطاع الطيران لدى الاحتلال وارتفاع أسعار التذاكر نتيجة لذلك. أما التفسير الآخر فهو سياسي، يتمثل بالتأكيد في نمط من العلاقات القوية بين الطرفين ورفض ما قامت وتقوم به المقاومة، وبالتالي التعاون مع كيان الاحتلال للتقليل من آثار الحرب عبر مواجهة تأثير امتناع الشركات العالمية عن العمل في مطاراتها.
يتضح ما سبق عبر بيانات حديثة تعزز تفسير شحادة، إذ تؤكد وثيقة رسمية نشرها الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في ديسمبر/كانون الأول الماضي وجود زيادة بنسبة 60.8% في عدد المسافرين عبر رحلات شركة "فلاي دبي" الإماراتية إلى كيان الاحتلال خلال الفترة بين يناير/كانون الثاني وحتى سبتمبر/أيلول 2024 (مقارنة بنفس الفترة من العام السابق) وهي الفترة التي شهدت ذروة حرب الإبادة على قطاع غزة، لتشكل بذلك استثناء مقارنة بشركات الطيران العالمية، إذ انخفض عدد المسافرين بواسطة "لوفتهانزا" بنسبة 64.9%، و"ويز إير (هنغارية)" 67.3% والخطوط الجوية الإيجية (اليونانية) 32.3%.
لكن اللافت أن الشركة الإماراتية تفوقت حتى على الشركات الإسرائيلية في هذه الزيادة بعدد المسافرين، فمثلا: شركة إل عال كان الارتفاع بنسبة 15.9%، يسرائير 24.7% وأركيع 15.1%، وهو ما يراه باسل فراج مدير معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية، البحثي في جامعة بيرزيت، ضمن سياق مساعي فك أزمة النقل الجوي لدى الاحتلال، ويمكن حتى اعتباره رسالة إلى العالم الذي تتصاعد فيه حركة الاحتجاج ضد الجرائم الإسرائيلية، بأن ما يقوم به طبيعي لا يستدعي مقاطعته.
لم يقتصر الأمر على زيادة أعداد المسافرين، إذ تكشف التقارير الشهرية التي وثقها معد التحقيق عبر الموقع الإلكتروني لمطار بن غوريون عن نمو كبير في عمليات شحن البضائع من قبل "Fly Dubai" بالمقارنة بين عامي 2024 (ذروة الحرب) و2023، وكانت نسبة الزيادة على النحو التالي في يناير بنسبة 22.6%، وفبراير/شباط 27.05%، ومارس/آذار 25.8%، وإبريل/نيسان 14.8%، ومايو 27.86%، ويونيو/حزيران 18.84%، ويوليو/تموز 24.77%، وأغسطس/آب 92.63%، وسبتمبر 91.46%، وأكتوبر/تشرين الأول (شهد ذروة التصعيد مع حزب الله وتوقف معظم شركات الطيران العالمية) 101.78%، ونوفمبر/تشرين الثاني 198% وديسمبر 166.66%.
توضح الوثيقة البرلمانية الإسرائيلية أن شركات الطيران الأجنبية خفضت أو أوقفت نشاطها بسبب توصيات أمنية، خصوصًا من وكالة السلامة الأوروبية للطيران (EASA)، التي نصحت بعدم التحليق في المجال الجوي الذي يسيطر عليه الكيان الاسرائيلي، وهو ما أدى في المحصلة إلى تراجع النشاط الاقتصادي المرتبط بالطيران، وخاصة في مجال التكنولوجيا الفائقة. ويتقاطع ذلك مع تقرير رسمي سنوي لهيئة الابتكار الإسرائيلية (حكومية) نشر في إبريل الماضي تحت عنوان "التقرير السنوي لصناعة التكنولوجيا الفائقة 2024" واعتمد على مقابلة مديري 500 شركة تكنولوجية وجاء فيه أن قطاع التكنولوجيا والذي تبلغ مساهمته نسبة 40% من نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، وله دور بارز في تحسين الميزان التجاري، وتحقيق النمو في الصادرات، والمساهمة في الإيرادات الضريبية، قد تضرر خلال فترة الحرب بسبب تعطل حركة السفر إلى الأراضي المحتلة وإلغاء صفقات تجارية كانت في طور الإعداد، مثلما جرى مع CFO، وهي شركة تكنولوجيا متقدمة خسرت عدة صفقات بسبب عدم قدرة المستثمرين على الوصول للأراضي المحتلة.
يكشف مسح أجرته هيئة الابتكار الإسرائيلية في نوفمبر الماضي شمل 664 مديرا تنفيذيا في قطاع التكنولوجيا أن واحدة من كل خمس شركات تكنولوجيا نقلت جزءًا من عملياتها وموظفيها إلى الخارج بسبب توقف شركات الطيران الأجنبية عن تسيير رحلات إلى مطار بن غوريون خلال الحرب. بينما أفادت 50% من هذه الشركات بأنها ستُفلس خلال أقل من ستة أشهر. علما أن نحو 14% من إجمالي الموظفين الإسرائيليين يعملون في وظائف مرتبطة بالتكنولوجيا سواء داخل القطاع نفسه أو في قطاعات أخرى. وتشكل منتجات وخدمات التكنولوجيا الفائقة نحو 50% من إجمالي الصادرات، وفق التقرير ذاته.
لذا يصف أستاذ الدراسات الإسرائيلية في جامعة بيرزيت والباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، وليد حباس، حركة الملاحة الجوية المدنية الإسرائيلية ، بأنها واحدة من نقاط ضعف الاحتلال في أوقات الحروب، إذ إنها تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي في قطاعات عدة، من بينها: التكنولوجيا الفائقة التي شهدت انتقال 8,300 موظف إلى الخارج بين أكتوبر 2023 ويوليو 2024، أي ما يعادل 2.1% من إجمالي العاملين في القطاع، وهي ظاهرة مقلقة وغير مسبوقة بحسب تقرير رسمي لهيئة الابتكار الإسرائيلية نشرته في إبريل 2025، موضحة أن أحد الأسباب هو تراجع عمل الشركات التي خسرت مستثمرين وزبائن لم يعودوا قادرين على زيارة الأراضي المحتلة بسبب القيود التي فرضتها الحرب ومن بينها امتناع شركات الطيران الدولية عن الوصول لمطار بن غوريون.
يقول طارق عكش، الحاصل على شهادة الدكتوراه في الاستخدامات العسكرية والاستخباراتية للذكاء الاصطناعي في العلاقات الدولية، أن الاستثمار في قطاع التكنولوجيا يحتاج إلى السفر والتنقل أكثر من القطاعات الأخرى، إذ إن المستثمرين بحاجة لحضور مؤتمرات ومعارض تكنولوجية عالمية لمتابعة الابتكارات، وبناء علاقات، والترويج للمنتجات.
بالإضافة إلى أن شركات التكنولوجيا الناشئة غالبا ما تعتمد على فرق عمل موزعة بين عدة دول، ووصل عددها لدى الاحتلال عام 2022 إلى 9558 شركة بحسب تقرير صادر في 2023 عن مؤسسة أبحاث البيانات والأفكار الإسرائيلية.
أما عبد السلام الصياد، الأستاذ المساعد في دائرة هندسة الحاسوب في جامعة بيرزيت، فيؤكد أن تعطّل حركة الطيران تترجم على شكل خشية وتردد لدى المستثمرين في مجال التكنولوجيا من الاستثمار في الأراضي المحتلة، والكيان الإسرائيلي يعتبر نفسه جزءا من السوق الغربي في هذا القطاع وبالتالي فإنها بحاجة إلى هذا التدفق المتبادل من المستثمرين والعاملين، وهو ما أثرت عليه الحرب بشكل مباشر.
يفسر حديث عكش والصياد التغريدة التي كتبها "مايكل أيزنبرغ" مؤسس "كيرن ألف" وهو صندوق استثماري إسرائيلي يركز على دعم الشركات التكنولوجية الإسرائيلية الناشئة كما انه أحد القائمين على فكرة مؤسسة غزة الإنسانية المتورطة في قتل الجوعى، إلى جانب ضباط في الجيش والاستخبارات الإسرائيلية، إذ قال في 28 أكتوبر الماضي عبر حسابه في منصة x، نحن تحت الحصار، "وهذا يُلحق الضرر بالاقتصاد"، ليتبعها بتغريدة أخرى في 5 نوفمبر الماضي لافتاً إلى وجود "حاجة دائمة إلى حركة طيران مستمرة، إذ إن الشركات الكبرى التي تمتلك مراكز تطوير في الكيان الإسرائيلي في حاجة دائمة إليها، والشركات المتوسطة تتخلّى عن المؤتمرات والضيوف الدوليين بسبب الأسعار الجنونية للتذاكر، وسنوات من العمل لبناء صناعة تكنولوجية إسرائيلية تهدر لهذا السبب. وبحسب أيزنبرغ، فالصفقات الجيدة تُعقد أولًا مع من يعرفك ويثق بك. وأي مُقرض سيزور المشروع فعليًّا قبل توقيع الشيك، فلا غنى عن التواصل البشري المباشر، بما يشمل اللقاءات العشوائية مع غرباء في المؤتمرات.
لكن تغريدة له في 10 ديسمبر الماضي، أي بعد شهر ونصف من تغريدته حول الحصار الجوي والخسائر، تكشف أنه تمكن من السفر والوصول إلى أبو ظبي عبر طائرة إماراتية للمشاركة في مؤتمر ميلكن، والاستمتاع بسباق الفورمولا 1، وأسبوع التمويل، كما التقى بمسؤولين اقتصاديين هناك.
في المرتبة الثانية من حيث الضرر بسبب تعطل حركة الطيران، يأتي قطاع السياحة، إذ بلغت نسبة العاطلين عن العمل فيه 37% من إجمالي العاطلين الجدد لدى الاحتلال بعد شهر من اندلاع الحرب وأحد الأسباب لذلك هو تعطل حركة الطيران وفق ما يشير تقرير رسمي نشر على موقع الكنيست في يونيو 2024 تحت عنوان "استعراض لوضع سوق العمل في "إسرائيل" بعد ثمانية أشهر من اندلاع حرب"، وبالطبع يؤثر ذلك على قطاع الفنادق، إذ تشير معطيات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، المنشورة في 7 مارس الماضي، إلى أن إجمالي عائدات فنادق السياحة بلغ 13.5 مليار شيكل خلال عام 2024، ما يُشكّل انخفاضًا بنسبة 8% مقارنة بعام 2023. ومن اللافت أن 90% من هذه العائدات جاءت من الزبائن الإسرائيليين الذين هربوا جراء الحرب من المنطقتين الشمالية والجنوبية، مقابل 69% فقط في عام 2023.
ويتفق شحادة وفراج على أن قرار شركات الطيران الإماراتية عدم تعليق الرحلات الجوية كما فعلت كبرى شركات الطيران العالمية، بل زيادة وتيرة تلك الرحلات، لا يمكن قراءته إلا بوصفه تجاهلاً صارخًا للجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين، وتواطؤًا ناعماً باسم "التطبيع" مع كيان يمارس الإبادة جهارًا، إذ إنه في لحظة كان يُنتظر فيها من الدول العربية أن تضغط اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا على الاحتلال، لا يمكن تفسير مثل هذه القرارات إلا في سياق منح الاحتلال طوق نجاة تجارياً وسياسياً، وهو ما سأل معد التحقيق الشركات الإماراتية عن ردها عليه عبر عناوين البريد الإلكتروني الرسمية المخصصة للتواصل الإعلامي، إلا أن أياً منها لم ترد حتى تاريخ النشر.