أسقطت نتائج زيارة الجولاني إلى نيويورك، جملة من الأوهام التي روّجت لها الإدارة الجديدة والوسائل الإعلامية الداعمة لها على مدى أشهر. لكن أبرز «الانكشافات» التي أصابت الجولاني، قد يكون فشل المساعي الأميركية وغير الأميركية، لإقناع "إسرائيل" بتوقيع «اتفاق أمني»، أو حتى ترتيب لقاء بينه وبين رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بعد أن انتظر الأول ومَن حوله زيارة أميركا، باعتبارها فرصة نادرة لنيل «الاعتراف» الإسرائيلي.
والأزمة خلف هذا التفكير، صنعها الجولاني ورجالاته أنفسهم، حين اعتبروا أن الثبات في دمشق والحصول على الدعم الدولي، السياسي والمالي، وحتى العربي، لا يمكن أن يتمّا إلّا إذا اقتنع الإحتلال بجدوى بقاء الرجل والتقديمات والخدمات التي يمكن أن يقدّمها.
وجاء كلام وزير الخارجية في الحكومة الانتقالية، أسعد الشيباني، أمس، ليحسم الجدال حول سذاجة ذلك التوجّه، حين بدا لاهثاً خلف الإسرائيليين (ومعاكساً كلام قائده في مناسبات عديدة عن مساعي "إسرائيل" لتقسيم سوريا) للحصول على الامتيازات المتوقّعة من الاعتراف الإسرائيلي بالنظام السوري الجديد، معلناً خلال مقابلة أن «سوريا موحّدة ومستقرّة مفيدة لأمن إسرائيل».
فكلّ الحملة الإعلامية التي كانت تشجّع على الاتفاق بدعم من الإدارة الجديدة، تحدّثت مراراً عن التنازلات التي أبدى الجولاني استعداده لتقديمها لـ"إسرائيل"، وفي مقدّمها إسقاط حقّ سوريا في الجولان المحتلّ، والقبول بنزع السلاح من الجنوب السوري، وفتح دمشق أمام الإسرائيليين، فضلاً عن استكمال الحملة ضد فصائل المقاومة الفلسطينية وتهريب السلاح إلى فلسطين ولبنان.
أمّا الحديث عن رفض «الممرّ الإنساني» الذي تتذرّع به "إسرائيل" للوصول البري إلى السويداء وفصل الجنوب السوري، فهو أيضاً خديعة مزدوجة. فأوّلاً، أدّت الاتفاقية السورية ـ الأميركية ـ الأردنية، إلى تحقيق الغرض ذاته الذي تبحث عنه تل أبيب، وهو إيجاد حالة خاصة للسويداء، بتوقيع سوري وأردني هذه المرّة؛ إذ أقرّ نظام الجولاني بإدارة ذاتية وقوات أمنية منفصلة للدروز، وانسحاب قواته من الحدود الإدارية للمحافظة، وممرّ إنساني من دمشق لكن تمرّ عبره المساعدات الدولية - بعضها إسرائيلي بالمناسبة .
محاولات الجولاني لإرضاء "إسرائيل" بأيّ ثمن، بمثابة سعي يائس للبحث عن شرعية في الخارج وعند الاحتلال
وبينما يستمر حصار السويداء من قبل قوات الحكومة الانتقالية، في محاولة يائسة لإخضاع السّكان، يعجز الجولاني عن فرض بنود إشكالية من مثل ربط القوات الأمنية للسويداء مع دمشق، ويتحوّل الحصار إلى دافع أكبر لحصول تدخّل إسرائيلي عسكري ودعم لوجستي وإغاثي. أما المسألة الثانية، فهي محاولة الأميركيين، خصوصاً الموفد الأميركي توم برّاك، البحث عن طريقة ما لا تحرج الشرع لكنّها تؤدّي غرض فتح معبر بري مع السويداء من الجولان المحتل. وفي هذا الإطار، أبلغ موظفون في مكتب برّاك موفدين من السويداء، بأن «الممرّ آتٍ لكنه يحتاج إلى بعض الوقت».
بالنتيجة، لا يحتاج الجولاني إلى الذرائع و«البطولات الدونكيشوتية» لرفض توقيع اتفاق أمني معها. فتل أبيب تقوم بكلّ ما يضمن انتهاك سيادة سوريا وتقسيمها وتفكيكها عبر سلسلة خطوات عملية وسياسية. كما أنها لم تعد تكتفي بإدارة ملف السويداء عن بعد، إنّما بدأت مسعى جدياً لتدريب وتجهيز عدد لا بأس به من المقاتلين في المحافظة، والعمل على تنظيم النشاط العسكري، وتحويل الفصائل إلى جسم منظّم يستطيع القيام بمهام داخل السويداء وخارجها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى التنسيق مع «قسد»؛ إذ تؤكد المعلومات أن "إسرائيل" تستغل احتمالات الانسحاب العسكري الأميركي بحسب خطة الرئيس دونالد ترامب، والتهديدات التركية والسورية لـ»قسد»، لكي تمتّن أواصر العلاقة مع الأخيرة.
أما في القنيطرة ودرعا وريف دمشق الغربي، فقد وسّع الإحتلال بقعة تواجدها العسكري، سواء على مدرجات جبل الشيخ الشمالية الشرقية وصولاً إلى جنوب وغرب يعفور، وجنوباً نحو وادي اليرموك. وتمنح خارطة الانتشار المعادي فرصة غير مسبوقة لـ"إسرائيل" لتسليط ضغط عسكري مباشر على سوريا ولبنان والأردن في وقت واحد، وإمكانية الوصول إلى موارد مائية شديدة الأهمية يطمح الكيان إلى الهيمنة عليها.