إذ إن قوانين الحروب غالباً ما تبقى ثابتة ولا تتبدل بسهولة. فالكفة تميل عادةً إلى الجهة الأقوى عسكرياً، والأكثر تقدماً وحداثة من حيث الإمكانيات والقدرات والخبرات، فضلاً عن الدعم والمساندة اللوجستية والسياسية.
وتشير التجارب إلى أن نسبة نجاح الطرف الأقوى تتجاوز في العادة 95%، فيما لا يُمنح الطرف الأضعف سوى 5% فقط، تُترك تحسباً للمفاجآت غير المتوقعة. وغالباً ما تنتج هذه المفاجآت من تدخل طرف ثالث في الصراع، أو من انتكاسة استثنائية تُصيب القوة المتفوقة لأسباب خارجة عن المألوف، وبعيداً عن أي تدخل مباشر للبشر.
في الحرب الظالمة والمجنونة التي شنها العدو الصهيوني على قطاع غزة المنكوب والمُحاصر، مدعوماً بكل قوى الشر في العالم، لم يكن أحد في المنطقة والعالم يتوقع أن تنتصر المقاومة الضعيفة والمتواضعة على مستوى الإمكانيات والقدرات والخبرات على الدولة الأقوى في الإقليم، والتي تُصنف عسكرياً في المرتبة العشرين على مستوى العالم، بل ويضعها بعض مراكز الأبحاث في المرتبة الثامنة وآخرون في العاشرة، بل إن كثيرين استبعدوا مجرد فكرة أن تصمد هذه المقاومة في وجه آلة حرب العدو، الذي استخدم كل ما في جعبته من إمكانيات، التي لا تُستخدم عادةً إلا في الحروب النظامية، التي يكون طرفاها متساويي القدرات، أو يكون حجم الفارق بينهما محدوداً.
في حرب غزة التي نأمل أن تكون قد وضعت أوزارها بشكل نهائي، وألا يحدث انقلاب إسرائيلي معتاد ومُتوقع، لم تنجح المقاومة الفلسطينية فقط في الصمود في وجه حرب الإبادة الجماعية، ولم تتمكن فقط من إفشال معظم أهداف العدو التي وضعها منذ بداية العدوان وظل يرددها حتى آخر ساعة منه، بل إنها استطاعت إحراج هذا العدو المسلح من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه في كثير من المناسبات، وكبدته خسائر فادحة في الأفراد والمعدات، بل وتجاوزت كل ذلك من خلال نجاحها في الحفاظ على هيكلها التنظيمي، وقوتها العسكرية، وقواها البشرية، رغم كل ما مُورس ضدها من هجمات، ورغم كل ما تعرضت له من خذلان.
شاهد أيضا.. بن غفير يرد على فوز ممداني بمنصب عمدة نيويورك
في غزة، يكاد يكون من الصعب تشبيه صمود المقاومة الفلسطينية وعدم انكسارها بتجارب أخرى في المنطقة والعالم، ليس لأن تلك المقاومة خارجة عن المألوف، وليس لأنها خارقة للعادة، بل لأن الظروف التي قاتلت فيها كانت قاهرة وقاسية وغير مسبوقة، ولا نعتقد أن أياً من مقاومات المنطقة والعالم قد تعرض لها، أو عمل في ظروف تشابهها، أو حتى تقترب منها.
في هذا المقام تحديداً، يتساءل كثيرون في "إسرائيل" وغيرها عن سبب هذا الصمود المعجز، وعن عدم انكسار المقاومة أمام أرتال العدو الجرارة، وهو الأمر الذي ظهر جلياً بعد توقف العدوان، إذ ظهر للعدو والصديق أن المقاومة في غزة ما زالت بخير، وأن لا بدائل مُتاحة ولا ممكنة لتعويضها، أو استبدالها، وأن الأوهام التي عشعشت في عقول كثيرين عن إمكانية أن تأتي جهات أجنبية أو متعاونة مع العدو لتحكم غزة، أو تفرض سيطرتها عليها قد ذهبت أدراج الرياح، وليس لها نصيب على أرض الواقع.
في هذا الخصوص، يمكن لنا أن نشير إلى ثلاثة أسباب رئيسية لفشل العدو في كسر المقاومة عسكرياً، وفي عدم تمكنه من تحقيق نصر واضح وحاسم عليها، وهو الأمر الذي أقرت به معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، وذهب إليه أيضاً كثير من الصحافة العالمية.
أولاً: العقيدة القتالية
في مقدمة تلك الأسباب تأتي العقيدة القتالية التي تتمتع بها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وهو الأمر الذي ينسحب على باقي قوى المقاومة في الإقليم، والتي نجحت هي الأخرى سواء في لبنان، أو اليمن والعراق، إضافة إلى العمود الفقري لمشروع المقاومة في المنطقة المتمثل بالجمهورية الإسلامية في إيران في الصمود في وجه حملات القتل والعدوان التي شنها العدو الصهيوني وحلفاؤه في المنطقة والعالم.
في قطاع غزة، تملك فصائل المقاومة الفلسطينية عقيدة قتالية ثابتة وواضحة وغير قابلة للتغيير أو التحريف، وهي تحدد بوضوح خيارات تلك المقاومة، ونظرتها إلى العدو والصديق، وتشير بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن العدو المركزي والرئيسي والوحيد للشعب الفلسطيني وقواه المقاتلة هو الكيان الصهيوني، وأنه لا يمكن الحوار أو التفاوض مع هذا العدو الذي يحتل الأرض، ويمارس أبشع أنواع العدوان منذ أكثر من سبعة وسبعين عاماً إلا من خلال فوهات البنادق، وليس عبر أي طريق آخر، وأن أي التقاء معه أو مع حلفائه وداعميه عبر طرق أخرى هو خيانة للشعب والقضية.
هذا الفهم لحقيقة الصراع في فلسطين، والذي يظهر بوضوح في جملة المبادئ والأفكار التي يحملها مقاتلو المقاومة الفلسطينية منح هؤلاء المقاتلين قوة وصلابة وعنفواناً من طراز فريد، جعلهم عصيين على الانكسار، وأمدهم بطاقة استثنائية تجسدت في عملياتهم البطولية التي واجهوا فيها الدبابات بعبوات بدائية مصنعة محلياً، ومكنهم من مهاجمة استحكامات العدو المحصنة بأرجل حافية ودامية، وبما قل وندر من السلاح المتواضع والمتهالك.
ثانياً: البنية التنظيمية
إلى جانب العقيدة القتالية، امتلكت المقاومة الفلسطينية بنية تنظيمية صلبة وقوية، مكنتها من تجاوز التداعيات الخطيرة التي كانت تهدد بسقوطها وانهيارها وتفككها نتيجة ما تعرضت له من ضربات وخسارات، لا سيما على صعيد قادة الصف الأول فيها، والذين كان معظمهم من قادتها التاريخيين، الذين وضعوا اللبنات الأولى لها.
تتميز فصائل المقاومة في غزة ببنية تنظيمية هرمية وتسلسلية، تبدأ من القيادة العليا المتمثلة في الأمناء العامين، أو رؤساء المكاتب السياسية، بالإضافة إلى المجالس العسكرية والجهادية والمؤسسات الشورية والتنفيذية، وتنتهي عند القاعدة العريضة التي تشمل الأفراد العاملين في المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية وغيرها.
في الجانب العسكري على وجه الخصوص، والذي تعرض لخسائر كبيرة، استطاعت المقاومة تعويض الجزء الأكبر من تلك الخسارات، لا سيما البشرية منها، من خلال تصعيد أجيال جديدة من الكوادر والقيادات، والذين كانت تعدهم منذ سنوات للعمل في مثل هذه الأوضاع، التي تشغُر فيها الكثير من الأماكن والملفات المهمة والحساسة، ويغيب فيها العديد من الرجال أصحاب الخبرة والكفاءة.
ومع إن الكثير من تلك الغيابات كانت مؤثرة، وتركت آثاراً معنوية ومادية لا تخطئها العين، إلا أن المقاومة نجحت في زمن قياسي في تعويضها، وظهرت نتائج ذلك في أدائها على الأرض، وفي استمرار صمودها وثباتها في وجه آلة الحرب الصهيونية.
ثالثاً: الحاضنة الشعبية
سبب ثالث ومهم للغاية أسهم بفعالية في صمود المقاومة في غزة وعدم انكسارها كان الحاضنة الشعبية الشريفة والصابرة، والتي صمدت في وجه أبشع حرب إبادة جماعية شهدها التاريخ المعاصر، بل إنها كيفت نفسها رغم ما تعرضت له من خسائر هائلة تجاوزت الثمانين ألف شهيد حتى الآن، وأكثر من مئة ألف جريح مصاب مع مروحة واسعة من الصعوبات، وجملة غير مسبوقة من الخسائر والتضحيات، واستطاعت بثباتها وعنفوانها إفشال الكثير من مخططات العدو وفي المقدمة منها خطط التهجير القسري شديدة الخطورة.
في الحرب الإجرامية على غزة، منحت الحاضنة الشعبية قوى المقاومة قدراً مهماً من الدعم المادي والمعنوي، كما مكنتها من القيام بمناورات ميدانية واستخبارية معقدة ما كان لها أن تتم لولا وجود تلك الحاضنة.
وعلى الرغم من وجود الكثير من التباينات والاختلافات في المواقف السياسية لسكان قطاع غزة، وتعدد انتماءاتهم الحزبية والفصائلية، والتي أنتجت في ما مضى العديد من الصراعات والنزاعات، فإن هذا الأمر قد اختفى مع بداية أيام العدوان، وحلت بدلاً منه وحدة وطنية وفصائلية ومجتمعية لم يشهدها القطاع منذ سنوات، وظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الشعب يتوحد عند الملمات، ويتجمع عند المحطات المفصلية والحاسمة، وأن كل ما شجر بينه من خلافات لم يكن سوى غمامة صيف، انقشعت سريعاً إلى غير رجعة.
إضافة إلى كل ما سبق، يمكن الإشارة كذلك إلى سبب مهم وحاسم وهو دعم حلفاء المقاومة في الإقليم لها، إلى جانب جبهات الإسناد التي قاموا بفتحها، لا سيما في لبنان واليمن، والتي كان لها تأثير كبير على سير المعركة في غزة، وحرمت العدو من الاستفراد بقطاع غزة، وتركيز قواته وقدراته عليه دون غيره من الساحات.
ختاماً، يمكننا القول إن ما حدث في غزة من صمود للشعب والمقاومة، وما جرى تحقيقه من إنجاز لافت، رغم حجم الخسائر والتضحيات، يمكن أن يؤسس لبداية انهيار هذا الكيان المتوحش، والذي مُني بدوره بجملة من الخسائر على العديد من المستويات لم يُمنَ بها منذ تأسيسه منتصف القرن الماضي، هذه الخسائر التي يحاول العدو إخفاءها، مستعيناً بكل حلفائه في المنطقة والعالم ستؤدي كما يتوقع كثيرون إلى تفككه وانهياره، وإلى رحيله عن هذه الأرض المباركة، وعن كل المنطقة إلى غير رجعة، بإذن الله تعالى.
الكاتب: أحمد عبد الرحمن