"شاهد" تخلط أوراق الحرب الحديثة..
لقد تجاوزت المسيرات دورها التقليدي كأدوات استطلاع بسيطة لتصبح منصات هجومية ذات قدرات تدميرية هائلة، مدعومة بمرونة تشغيلية واستراتيجية اقتصادية تجعلها الخيار المفضل في الصراعات ذات الكثافة العالية.
الكلفة مقابل التدمير: معادلة "شاهد" المنتصرة
أوضح خلف أن المقارنة بين تكلفة المسيرة وقيمة الهدف الذي تدمره هي العامل الحاسم في أهميتها الاستراتيجية. هذه المعادلة الاقتصادية هي ما يمنح هذه الأسلحة ميزة تنافسية غير مسبوقة على النظم الدفاعية التقليدية.
في التحليل الاقتصادي الذي قدمه الفريق خلف، تتجلى الفجوة الهائلة في التكلفة:
- تكلفة مسيرة "شاهد": تقدر بحوالي 20,000 دولار أمريكي.
- تكلفة صاروخ دفاع جوي مضاد للمسيرات (مثل صواريخ باتريوت أو حزمة اعتراض متقدمة): يمكن أن تصل إلى 400,000 دولار، وقد تتجاوز المليون دولار في بعض الأنظمة المتقدمة.
هذا يعني أن استثمار 20,000 دولار في مسيرة واحدة يمكن أن يجبر الخصم على إنفاق 400,000 دولار لإسقاطها. عند استخدام حزمة من "شاهد"، فإن القوة المهاجمة تحقق تدميراً استراتيجياً واسع النطاق، حيث يمكن لمجموعة صغيرة من المسيرات أن تستهلك ميزانية دفاع جوي كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة، مما يمثل استنزافاً مالياً وتكتيكياً مباشراً للقدرة القتالية للعدو. إن القيمة التدميرية التي تحققها هذه المنصات الرخيصة تفوق بكثير قيمة أي صاروخ باليستي تقليدي من حيث كفاءة الإنفاق العسكري.
مواصفات تكتيكية فائقة المرونة
وصف الفريق خلف مسيرة "شاهد" بأنها سلاح مرن للغاية، حيث تم تصميمها لتلبية متطلبات العمليات الحديثة التي تتطلب القدرة على الوصول إلى أهداف بعيدة والمناورة اللحظية.
المدى والسرعة:
تتميز هذه المسيرات بقدرتها على قطع مسافات تتجاوز 2500 كيلومتر بسرعة ثابتة تبلغ حوالي 185 كم/ساعة. هذا المدى التشغيلي الكبير يسمح بتوجيه ضربات عميقة داخل أراضي العدو دون الحاجة إلى قواعد انطلاق قريبة، مما يقلل من مخاطر الكشف المبكر والرد المضاد.
مرونة التحكم والتوجيه:
السمة الأكثر أهمية، وفقاً لخلف، هي قدرتها على التحكم بها أثناء الطيران. هذه الميزة تمنح المشغل (المركز القيادي) القدرة على:
تغيير الهدف الأصلي (Re-tasking): إذا تغيرت الظروف التكتيكية أو ظهر هدف ذو أولوية أعلى أثناء التحليق، يمكن إعادة توجيه المسيرة إليه فوراً.
إعادة تشكيل قائمة الأهداف (Dynamic Targeting): يمكن تحديث مسار الطيران لتجنب مناطق الدفاع الجوي المكتشفة أو لتنسيق الهجوم مع وحدات أخرى.
هذه المرونة تختلف جذرياً عن الصواريخ التقليدية التي تتبع مسارات محددة مسبقاً بمجرد إطلاقها.
القدرة الحمولة وتأثيرها:
بالرغم من حجمها المتوسط، تحمل مسيرة "شاهد" حمولة فعالة:
الوزن الإجمالي: حوالي 200 كيلوغرام.
الرأس المتفجر: يزن حوالي 50 كغم.
هذه الحمولة، التي قد لا تبدو ضخمة مقارنة بالصواريخ الكبيرة، مثالية لاستهداف الأهداف الحيوية التي لا تتطلب بالضرورة انفجاراً نووياً أو حرارياً هائلاً، مثل:
مراكز القيادة والسيطرة (C2 Nodes).
مصادر الطاقة وشبكات الكهرباء (Energy Infrastructure).
مصانع السلاح والذخيرة، كما شوهد في العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
استراتيجية الاستنزاف والإغراق (Saturation Attack)
أكد خلف أن الاستخدام الواسع لـ "شاهد" أثبت عجزاً كبيراً لدى أنظمة الدفاع الجوي، حتى تلك التي تعتبر الأكثر تطوراً وتكلفة. الاستراتيجية الأساسية هنا هي الاستنزاف الكمي.
مفهوم الإغراق:
عندما يتم إطلاق 5 إلى 10 مسيرات في وقت واحد من مركبة إطلاق واحدة، فإن هذا يخلق "سحابة" من التهديدات المتزامنة. يمكن تشبيه هذا التأثير بـ "نصف طن من المواد المتفجرة" يتم توجيهه دفعة واحدة نحو سماء الخصم.
التأثير على الدفاع الجوي:
نظام الدفاع الجوي، مهما كان متطوراً، يمتلك عدداً محدوداً من الصواريخ القابلة للإطلاق في فترة زمنية قصيرة (Rate of Fire). عندما يواجه النظام 10 أهداف تدخل مجاله الجوي في آن واحد، يضطر إلى:
تخصيص صاروخ لكل هدف، مما يستهلك الذخيرة الدفاعية باهظة الثمن.
في حال فشل اعتراض بعضها، فإن الأهداف الناجحة تتجاوز الدفاعات وتصيب الأهداف الاستراتيجية.
واستشهد الفريق بما حدث في عملية "الوعد الصادق 1" ضد الكيان الإسرائيلي، حيث أدى هذا الإغراق المتعمد إلى إضعاف كبير في كثافة وقدرات الدفاعات الجوية، مما سمح بوصول بعض الأهداف الرئيسية التي كانت تشكل أولويات عسكرية. هذه الاستراتيجية تجبر الدفاع الجوي على اللعب وفقاً لقواعد المهاجم: إما الإسراف المالي في كل اعتراض أو قبول الخسائر.
القفزة النوعية: دمج الذكاء الاصطناعي
كان تحذير الفريق خلف الأشد حدة فيما يتعلق بالتطور المستقبلي لهذه التكنولوجيا، وهو دمج المسيرات مع أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI). وصف هذا التطور بأنه "خطير جداً جداً جداً"، لأنه يمثل الانتقال من مجرد سلاح تحكم عن بعد إلى نظام ذكي يتمتع بقدرات شبه مستقلة على اتخاذ القرار.
دقة الاستهداف المدعومة بالذكاء الاصطناعي:
الذكاء الاصطناعي يمنح المسيرات دقة متناهية تتجاوز بكثير القدرات البشرية في بيئة معقدة:
تحليل البصمات (Signature Analysis): يمكن للمسيرة المجهزة بمعالجة متقدمة أن تستهدف شخصاً محدداً وسط تجمع كبير (مائة شخص مثلاً) بناءً على تحليل متكامل يشمل:
بصمة الوجه (Face Recognition).
طريقة المشي والحركة (Gait Analysis).
نمط الملابس أو التجهيزات المميزة.
تغذية البيانات الآلية: يتم جمع هذه المعلومات وتحليلها وتغذيتها بشكل آلي ومُحدّث إلى نظام توجيه المسيرة، مما يسمح بتصحيح المسار في أجزاء من الثانية للوصول إلى الهدف بدقة فائقة.
القضاء على هامش الخطأ:
أشار الفريق إلى أن هذه الدقة تلغي هامش الخطأ الكبير الذي تعاني منه الصواريخ الباليستية التقليدية، والتي قد يصل خطأها التوجيهي إلى 30-50 متراً في الظروف القاسية. المسيرات المدمجة بالذكاء الاصطناعي تعمل كـ "قناص جوي" قادر على تنفيذ عمليات اغتيال أو تدمير نقاطية بدقة ملليمترية بعد عملية استطلاع مسلحة (Armed Reconnaissance). وقد شوهد استخدام هذا التطور بقوة في ساحات مثل غزة، مما يجعل هذه الأسلحة أدوات قتل دقيقة وفعالة يصعب تلافيها بسهولة عبر إجراءات الدفاع الجوي التقليدية.
عصر "كلاشينكوف المسيرات"
إن المشهد الحالي يوضح أن المسيرات لم تعد مجرد إضافة تكتيكية، بل أصبحت المحور الذي تدور حوله الصراعات. الدليل على ذلك يتجسد في حجم الدعم الغربي لأوكرانيا، حيث قامت بريطانيا وحدها بإهداء 150,000 مسيرة مختلفة الأحجام بهدف "إعادة التوازن الميداني"، وهو اعتراف صريح بقوة هذا السلاح في تغيير موازين القوى.
ولقد أطلق عليها لقب "كلاشينكوف المسيرات" (The Kalashnikov of Drones) نظراً لتوليفة فريدة تجمع بين:
القيمة المنخفضة جداً للتصنيع والتشغيل.
التأثير الهائل الذي تحدثه في استنزاف القدرات الدفاعية للخصم وتحقيق أهداف استراتيجية.
يتضح من تصريحات الفريق الركن عبدالكريم خلف أن التقنية المسيرة، وخاصة نماذج مثل "شاهد"، لم تعد خياراً في الترسانة العسكرية، بل أصبحت السلاح الرئيسي الذي يحدد مسارات الحروب الحديثة ونتائجها، مرجحة كفة القوة الاقتصادية والتكتيكية المرنة على الاستثمار في أنظمة الدفاع الباهظة والثابتة.