فالمصريون الثوار اختاروا طريق اللاعودة، وهم يستعدون لاجتياز هذا الاختبار المصيري بكامل حريتهم ولاول مرة ، في الوقت الذي كانت سياساتها العملاقة، تكتب وتملى على نظامهم الرسمي المعزول ، من وراء القارات والمحيطات.
وبما ان ثورة 25 يناير أطاحت بالمعادلة السياسية المرتهنة، واعادت للشعب المصري المجاهد، صلاحياته السيادية، فان الانظار منشدة الآن الى عقارب الدقائق لا الساعات ، وهي تقترب شيئاً فشيئاً من موعد هذا الحدث العظيم الذي يفترض ان يقوم الكثير من الاعوجاج والانحراف ليس على مستوى ارض الكنانة فحسب بل في العالم العربي اجمع.
فالانتخابات الرئاسية المصرية ليست كلاما عابرا، بل هي انعطافة مصيرية بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وازاء ذلك، يتطلع العالم بنظرات يقترن فيها التفاؤل بالقلق، على خلفية ما يمكن ان يصاحب عمليات الاقتراع التي ستكون حاشدة – بالتأكيد – من ممارسات ارتدادية لقوى الثورة المضادة وفلول النظام المخلوع وبلطجية الحزب الوطني المنحل.
الشيء المؤكد ان المنافسة الانتخاباتية بين المرشحين وهم يمثلون انواع الطيف الفكري السياسي والاجتماعي في البلاد، ستكون شديدة وربما محفوفة ايضاً بالمفاجآت. فلأول مرة في التاريخ تعيش مصر اجواء تحررية تامة، لامكان فيها للرقابة الحكومية او التدخلات الاحادية على شاكلة ما كان سائدا ابان الانظمة التي حكمت بعد ثور 23 يوليو 1952، بصرف النظر عن الفارق ما بين ايام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وعهدي الرئيسين انور السادات وحسني مبارك اللذين كبلا مصر العروبة والاسلام بمعاهدات الاذعان وفي مقدمتها "كامب ديفيد" ، وهي التي جردت هذا البلد المجاهد من جميع مؤهلات الريادة والزعامة على مستوى العالم العربي .
ومع كثرة التوقعات وتنوعها، فان الاعتقاد السائد هو ان تكون الانتخابات الرئاسية المصرية ونتائجها المنشودة، محطة فاصلة في الحراك السياسي النشط للصحوة الاسلامية المعاصرة التي تعتبر التحول الجوهري الحاصل في ارض الكنانة، بمثابة الزلزال الذي سيمهد للمزيد من التطورات الثورية الشعبية في العالم الاسلامي، ولاسيما في مضمار مستقبل التعامل مع الكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين والقدس الشريف، وكذلك على مستوى دعم وتعزيز محور المقاومة والممانعة في الشرق الاوسط، وهو الذي يتعرض الآن لتكالب غربي – خليجي مسعور يسعى بكل حقد وشراسة لكسر احدى اهم حلقاته المتمثلة في سورية الصامدة.
اللافت في هذا المضمار هو الدعوة التي وجهها امير قطر حمد بن خليفة آل ثاني، الى "اسرئيل" لكي تخطو خطوة نحو ما أسماه "السلام" مع جيرانها العرب ليترافق حسب رغبته "الربيع العربي" مع "ربيع السلام مع الكيان الصهيوني". وجاء كلام "حمد بن خليفة" خلال افتتاحه منتدى اقتصاديا في الدوحة (21/5/2012) قائلاً: "ادعو اسرائيل الى ان تتخذ خطوة ايحابية من اجل السلام والعيش المشترك."
لاجرم ان الرغبة القطرية هذه، تعكس الصورة الحقيقية للحكام الذين باعوا كرامتهم للاستكبار العالمي، وهم يريدون بذلك ان يقدموا شهادة "حسن سلوك" للغرب المتصهين في سبيل حماية كراسيهم وانظمتهم الهشة من غضب الأمة الاسلامية، وهي التي لم تصدق انها تخلصت من رموز العمالة والتبعية للمشروع الصهيو اميركي في تونس ومصر وليبيا، فاذا بها تواجه اليوم نموذجا خيانياً جديداً في المنطقة الخليجية، لايتورع عن التطوع لملء فراغ من طردتهم الثورات الاسلامية الشعبية من الحكم والقت بهم في مزبلة التاريخ.
ولاشك ابدا في ان الشعب المصري المجاهد الذي استعاد ارادته الحرة في ثورة 25 يناير وامتداداتها قد استوعب تجارب الماضي وتداعيات الحاضر، كما اننا نعي تماماً ان هذا الشعب الحضاري منذ الماضي السحيق، بات يعرف ما يجري خلف الكواليس، لتفريغ ثورته العظيمة من مكتسباتها، ولعله قرأ – مثلنا – ايضا مقالة ثعلب السياسة الاميركية، الدبلوماسي العجوز هنري كيسنجر، مؤخرا في صحيفة "واشنطن بوست" تحت عنوان (مبدأ جديد للتدخل)، والذي جاء فيها:
"انه لايولي اهمية كبيرة لايديولوجية نظام الحكم، او لنوعية النخبة الحاكمة وهويتها الطبقية، بل المهم لديه فقط سياسات هذا النظام او هذه النخبة او الدولة تجاه اميركا" . ويعرب كيسنجر في جانب آخر من المقال عن خشيته من قيام صناع القرار والاعلاميين الغربيين، بانفاق وقت وجهد كبيرين للتدخل في شؤون دول الثورات العربية لاسباب "انسانية" تجاوبا مع الحملة التي تدعو الى "التكفير عن ذنوبهم" وتعويض مافات موضحا : "يجب ان لا تتورط الولايات المتحدة في سياسات خارجية هي في غنى عنها، وقد لا تفيد المصالح القومية الاميركية، وفي مقدمتها امن اسرائيل."
في ضوء ما مضى واضح ان الشعب المصري سيكون في مواجهة تحديات جد معقدة، على خلفية معاهدة "كامب ديفيد" التي كبلت ارادته ردحا من الزمن، وحالت بينه وبين دوره المحوري والمصيري، على مستوى دعم المقاومة الباسلة في لبنان وفلسطين وصمود سورية في مواجهة المشروع الغربي - الصهيوني ، بعدما اذعن نظامه الرسمي المعزول لاستحقاقات تلك المعاهدة المشينة، وفرط بالكثير من المواقف والادوار الريادية التي اختصت بها القاهرة دون سواها في العالم العربي، فضلا عن تفريطه بالموارد والخيرات العائدة للشعب، ومنها الغاز المصري الذي كان يباع بأبخس الاثمان ل "اسرائيل" الغاصبة.
بيد اننا نؤمن بأن الشعب المصري المتمسك باسلامه وقرآنه وتاريخه النضالى المشرق، لن يسمح لاميركا واسرائيل والسعودية، بمصادرة ثورته التحررية، او احتوائها عبر ادوات الضغط والابتزاز، فقد خبر المصريون الكوارث والانتكاسات التي انتجتها سياسات الاذعان والخضوع البائدة، وهم سيحولون حتما دون دخول مرشح "كامب ديفيد" الى قصر الرئاسة، لانهم حزموا امرهم وقرروا دعم مرشحهم الحر النزيه الذي لن يختار سوى النهج الاسلامي سبيلا لتخليص البلاد والعباد من قيود التبعية والارتهان لاميركا والكيان الصهيوني.
(الشعب يريد اسقاط اسرائيل) هو اليوم الشعار المدوي لثورة الشعب المصري و انتخاباته الرئاسية، ليس لانه فرغ من تطهير النظام من عناصر فساده وضياعه وتدهوره، بل لانه يعتبر الكيان الصهيوني، السبب الحقيقي لسقوط الدولة في مستنقع الارتزاق المشين، والهرولة وراء الحوافز والمكافآت الغربية ومادس فيها من مال حرام ،عمل على تجريد كبار مسؤولي اللنظام المعزول في هذا البلد المناضل من شيم الغيرة والحمية والكرامة وحرضهم على التقاعس المذل عن الانتصار لمقدرات الوطن والامتين العربية والاسلامية، والرضوخ تماما للاملاءات الصادرة عن البيت الابيض وتل ابيب.
لقد شكل وقوف الشعب المصري بقضه وقضيضه الى جانب المقاومة الاسلامية وحزب اللة وقيادة العلامة السيد حسن نصرالله (دامت بركاته) ايام العدوان الاسرائيلي على لبنان تموز عام 2006، تحركاً مبهراً جسد الماهية الحقيقية الاصيلة لابناء هذا الشعب الذين لم يوفروا أي مناسبة للتعبير عن ابتهاجهم وسرورهم البالغين بالانتصار الاسطوري لرجال المقاومة الباسلة رغم تواضع امكاناتهم التسليحية، على "اسرائيل" المتعجرفة، ودحضهم اكذوبة الجيش الذي لايقهر ، التي طالما راهنت عليها تل ابيب لبث الخوف والهلع في نفوس الانظمة الخانعة.
وهناك ايضا نقطة التقاء بارزة اخرى بين الشعب المصري والقضية المركزية للامة الاسلامية، أي فلسطين والقدس الشريف، تمثلت في المسيرات والتظاهرات والاعتصامات التي نظمها ابناؤه احتجاجا على تخاذل نظامه الرسمي عن الوفاء بواجباته الدينية والقومية والانسانية حيال الحصار الصهيوني – الغربي ــ السعودي الجائر على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، واستعماله التجاهل المقيت لمعاناة اهلنا المضطهدين في القطاع وهم يذبحون ويدفنون ويمزقون تحت الانقاض جراء وابل الصواريخ والقاذفات الاسرائيلية نهاية العام 2008 وعلى امتداد 22 يوماً، ذاقوا خلالها الامرين، جرائم الحرب الصهيونية من جهة، وتشديد نظام مبارك اجراءاته التضييقية المنافية للأخوة والجيرة والواجب الانساني من جهة اخرى.
ويتذكر العالم كله كيف زعم النظام المخلوع آنئذ انه كشف خلية تابعة لحزب الله بقيادة اللبناني محمد يوسف منصور الشهير باسم (سامي شهاب) كانت تقوم بايصال "المؤن والامدادات الضرورية" عبر الانفاق المستحدثة على حدود ومعبر رفح لاغاثة المنكوبين في قطاع غزة، وكيف انه اصدر احكاما جائرة بالسجن تتراوح بين المؤبد والحبس (ستة أشهر) على اعضائه في ابريل عام 2010.
لقد قوبلت اجراءات النظام المخلوع، بما انطوت عليه من عسف وتهاون وغدر ، باحتجاجات عارمة في الشارع المصري الذي كان يتجرع طعم المرارة والامتهان لما وصلت اليه البلاد من انحدار بفعل تطويقها باتفاقيات العار وانحناء مبارك وفريقه الانتهازي للاملاءات الاميركية والاسرائيلية والسعودية التي وضعت مصر الاسلام والوفاء لقضايا الأمة، في غير موقعها، وفي غير المكانة الريادية التي كانت ترتقيها على الدوام عبر التاريخ.
صفوة القول ان هذه التحديات كانت ومازالت قدرالشعوب الاسلامية والعربية، ولاشك في انها من ايعاز اميركا والصهيونية ، وهما اللتان ستواجهان غدا صولة الشعب المصري وهو يحسم خياره عبر صناديق الاقتراع لايصال مرشحه الاسلامي – بالتاكيد - لرئاسة الجمهورية ، الامر الذي تجلى في نتائج الانتخابات التي اجريت للمغتربين المصريين في انحاء العالم ، والتي صوت فيها اكثرية الناخبين للمتنافسين الاسلاميين الابرزين ( مرسي و ابو الفتوح) ، في محصلة تؤكد دون ادنى ترديد على ان رئيس مصر القادم لن يخرج الا من رحم ثورة (25 يناير) في ضوء التضحيات واشكال المآثر والايمان والثبات التي سطرها ابناء ارض الكنانة ، وهو الرئيس الذي سيكون – بالتأكيد – مستجيبا لطموحات وتطلعات عشرات الملايين من الاحرار المصريين الذين انتفضوا على الظلم والانحراف والخيانة في بلادهم ،للانطلاق مجددا في طريق الاستقلال الوطني و السيادة الناجزة وتقرير المصير، بعيدا عن املاءات الاستكبار العالمي
*حميد حلمي زادة