التدين بعد الثورة الاسلامية في ايران

التدين بعد الثورة الاسلامية في ايران
الخميس ٣١ يناير ٢٠١٣ - ٠٩:١٩ بتوقيت غرينتش

أفضل مدخل للبدء بتناول هذا الموضوع ، هو التنبه إلى تعقيد مفهوم «التدين» . ولما كان التدين غير مقصور على بعض الآداب الظاهرية ، بل هو علاقة نوعية وداخلية أساساً ، لذلك من الصعوبة بمكان حبسه داخل أقفاص الاحصاءات والمقاسات الكمية . بناءً على ذلك قدّم البعض اقتراحات قمينة بالتأمل والنظر ، تعود في أصلها إلى تعقيدات مفهوم التدين وأهميته وعمقه .

عموماً ، تبقى اشكالية التدين قضية حساسة ، ومن الصعب البت في نسبته ودرجته ، فحسب المعايير المختلفة قد تتأتى نتائج متضادة حول هذا الموضوع . فما هو حقاً معيار التقييم الصائب ؟ وعلى أساس أية مؤشرات يتسنى تقييم التدين ؟ من الجلي أنّ الإجابات يمكن أن تكون متعددة بنحو ملحوظ .
رؤيتان متباينتان حول واقع التدين بعد الثورة الاسلامية :
من زاوية يمكن الذهاب إلى خفوت التدين وانحساره بعد الثورة الاسلامية ، والقول : في الفترة الراهنة ، سجّل التحول الايجابي للقيم الاجتماعية تراجعاً بالقياس إلى الفترة التي أعقبت انتصار الثورة [1] .
كما يمكن تبني الرؤية القائلة : تدل المشاهدات التجريبية ، وتصريحات العاملين في المساجد ، والحوارات الاكتشافية الأولية التي أجريت مع بعض الناس العاديين ، وطائفة من الناشطين في المساجد ، على انخفاض في ارتياد الناس للمساجد مقارنةً إلى عهد الثورة (1977 ـ 1979) والسنوات الأولى التي أعقبتها (1979 ـ 1981) . وبالتالي يثار حالياً هذا السؤال بإلحاح : ما هي أسباب هذا الانخفاض ؟ لماذا هي منقوصة وخالية صفوف صلاة الجماعة ؟ لماذا لا يلاحظ الوجد والحيوية التي عمت المساجد أواخر عقد السبعينات ؟ لماذا هذا الضعف في الاقبال على مكتبات المساجد ، صفوفه التعليمية ، ومحاضراته وسائر أنشطته [2] ؟
مضافاً إلى النظرات ، ثمة من الأبحاث والدراسات ما يؤازر هذا المعنى . على سبيل المثال يمكن الاشارة إلى تحقيق اتّبع فيه صاحبه الاحتياط العلمي ، وكتب مستخدماً عبارة «يبدو» : «يبدو أنّ الميول والنزعات الدينية للناس قد انخفضت منذ مدة (قياساً إلى مطلع الثورة وما ساد تلك الفترة من وجد وفورة دينية) ... إن إجابات مَنْ طرحت عليهم الأسئلة حول أربعة مؤشرات للقيم الدينية هي : ايمان الناس بالدين ، قبح عدم مراعاة الحجاب ، احترام المرتدية للعباءة (الشادر) ، مودة رجال الدين ، تسجل تغييرات ملحوظة في عام 1992 قياساً إلى ما كانت عليه سنة 1986 .
وتشير مشاهدات أخرى إلى وتيرة التراجع هذا في المدن الصغرى أيضاً [3] . ويلمح في هذا المضمار إلى قول للشيخ قرائتي فيكتب : الشيخ قرائتي باعتباره شخصاً يشعر بالمسؤولية على هذا الصعيد ، أشار في محاضرة له في المؤتمر الثاني لجهاد البناء بتاريخ 22 / 3 / 73 (12 / 6 / 1994) في جامعة الشهيد بهشتي (الجامعة الوطنية الايرانية) إلى هذا المضمون قائلاً : هل تعلمون أن في طهران والنمسا نفس العدد من المساجد ؟ السبب هو أن في النمسا مسجدين أو ثلاثة وفي طهران أيضاً لا يوجد إلاّ عدد قليل من المساجد الناشطة [4] .
الملفت انّه في آخر الكتاب وككلمة أخيرة يذعن لرسوخ الايمان الديني في صميم حياة الايرانيين ، ويستدل بحسم : إن لنا ديناً يضرب بجذوره وتأثيراته عميقاً في شخصية أفراد المجتمع ، ومن المستحيل أن ينفصل عنها . ما أكثر ما نلاحظ من الأفراد في حرم الإمام الرضا (ع) قد لايتجانسون ظاهرياً مع ما نتوقعه من الأفراد المتدينين . وكثيراً ما شاهدتُ في محلتنا سيدات يصنّفن بحسب الظروف الراهنة على «سيئات الحجاب» أو المتبرجات ، لا يرتدين جوارباً في أقدامهنّ ويلبسن مانتوات([5]) مفتوحة تظهر أجزاءً من أجسامهنّ ، لكنهنّ مع ذلك يتجهن صوب صناديق الصدقات يضعن فيها بعض المال . فما هذا ؟ إنّها عقيدة ! ربّما كان هذا غير مقبول لدى الله في نظر البعض ، بيد أن هذه أحكامنا وليس أحكام الله . إنّها عقيدة مهما كان الأمر ، أرضية وقابلية عالية للالتزام الديني . يقول جلال الدين الرومي :
نزل الوحي على موسى من الله لقـد أبـعــدتَ عـبــدنا عـنّا        لقـد بـعثـت مـن أجـل الوصــال ولم تبعث من أجل  القطيعة
لقد أثبتت جماهيرنا بأعدادها الغفيرة ومظاهرها المتباينة (حديث وتقليدي ، متشحة بالعباءة وغير متشحة ... ) في صلاة عيد الفطر التي تقام في الصباح الباكر الشديد البرودة (21 بهمن 1375 ـ 10 شباط 1997م) حيث تسجل درجة الحرارة خمسة درجات إلى سبعة تحت الصفر ، إنّهم في أعماقهم ودواخلهم ملتزمون بالمبادئ الدينية ومستعدون للتضحية من أجلها ، وهذه قابلية هائلة [6] .
وهكذا ، يمكن من زاوية معيّنة واستناداً إلى بعض الشواهد رسم صورة سلبية لراهن التدين في ايران . ولكن ينبغي التفطن أن ثمة شواهد أخرى تفصح عن آفاق مختلفة ، أوردنا بعضها في سطور سابقة نقلاً عن فرامزر رفيع بور . مضافاً إلى ذلك ، بالامكان الاشارة إلى زيادة عدد الكتب الدينية الصادرة بعد الثورة الاسلامية ، والدالة على وجود طلب لها ورغبة في تعميق الثقافة الدينية بين الناس .
في نهاية رسالته الجامعية (ليسانس ادارة ثقافية) يستنتج محمد رنجبري بعد اطلالة على وضع الكتب الصادرة في ايران من سنة 1979 حتى بداية عام 2000م أنّه ما بين 1979 و 2000 كان نسبة عناوين الكتب الدينية هي الأعلى دائماً من بين الكتب الصادرة في ايران ... ومن بين الكتب المترجمة في العقد الأوّل بعد انتصار الثورة الاسلامية ، كان الرقم الأعلى من نصيب الكتب الأدبية والدينية ... كما كان أكثر توزيع للكثرة (على الرغم من التذبذبات) بين الكتب المؤلفة ، خاصاً بالمجال الديني ... [7] .
وإلى جانب هذا ، فقد أجري تحقيق حول قيم الايرانيين وتصوراتهم ، يدل على أن 90 بالمئة من الايرانيين يثقون بأفراد عوائلهم إلى أقصى درجات الثقة ، وما فُتئت مؤسستا الدين والعائلة تحتفظان بقدراتهما وقوتهما بين القيم والمبادئ عند الناس ... ويصل الإيمان بالدين في العوائل إلى 95 بالمئة [8] . الأبحاث الأخرى التي قارنت بين حالة التدين في عهدين زمنيين ، تشير أيضاً إلى أن «مستوى تدين الشباب في عام 1999م ازداد قياساً إلى عام 1995م» .
 
النتيجة :
تبيّن لحدّ الآن ، أن هناك إجابتين متباينتين على الأقل حول حقيقة التدين بعد انتصار الثورة الاسلامية ، لكل منهما أنصارها والقائلون بها . ولكن حيث أن كل واحدة من هذه النظريات والرؤى تستند إلى بعض الشواهد والقرائن لا إلى كافة الحقائق الموجودة ، فهي غير قادرة إذن على تقديم صورة متكاملة للموضوع يمكن الوثوق بها نهائياً . إن موضوعة التدين في ايران معقد وصعب كما أسلفنا ، ولن يكون بمستطاعنا تقييمه بنحو سليم إلاّ إذا وضعنا النظريات الموجود بجانب بعضها لا في مقابل بعضها . والآن يمكننا باستحضار هذه النقطة الخلوص إلى ما نتبناه من نتائج . الحقائق التي سنستعين بها لتكوين رؤيتنا هي كما يلي :
1 ـ وجود النزعات الدينية في المجتمعات المختلفة على طول التاريخ ، والاسهام المؤثر والقطعي للدين في حضارات العالم ، بمعنى أن حقيقة وجود الدين في المجتمع ضمن علاقته بالسياسة وصناعة الحضارة ليس مجرد أمل ايماني ، بل هو واقع معاش . وكما يقول ماكس. ل. استكهاوس : إنّ الوعي الأوسع والأعمق للتاريخ والحضارات يدل بوضوح على أنّ السياسة والدين مترابطان مع بعضهما بصفة ضرورية . فالدين يؤثر في السياسة بمقدار ما يتأثر بها على أقل التقادير([1]) .
2 ـ نمو التدين حالة تدريجية وليست خطية .
3 ـ عراقة الايمان الديني في ايران .
4 ـ هشاشة المعايير الظاهرية لتقييم حالة التدين . فعلى سبيل المثال كان الايرانيون حسب الظاهر أكثر تديناً في عقد الخمسينات والستينات منهم في عقد السبعينات ، لكن هذا العقد انتهى بثورتهم الدينية (الاسلامية) . نظراً لهذه الحقائق ، يبدو عدم الجزم في الحكم على واقع التدين ، موقفاً طبيعياً لا بدّ منه .
5 ـ تعاليم القرآن الكريم حول التحدي ، وتربية العناصر المؤمنة من أهل التحدي والمناقشة .
6 ـ موضوعية الغزو الثقافي المتمحور على محو المكونات العقيدية والايمانية كمحرك اساسي لبناء الفرد والمجتمع ، لها تقريباً تاريخ يوازي تاريخ علاقة ايران بالغرب ، وقد تضاعفت بنحو مشهود بعد انتصار الثورة الاسلامية . فلو كان التدين قد خبا في ايران حقاً ، هل كانت عقلانية أعداء الثورة الاسلامية وتفكيرهم الاقتصادي سيسمح لهم بانفاقات أرصدة باهضة على هذا الشأن ؟
7 ـ إن موضوع التدين وعلاقته بالأبعاد المختلفة للحياة الاجتماعية ، لا يرتبط فقط بنظام الجمهورية الاسلامية ، فالتدين في المجتمع المعاصر تحد ناجم عن متطلبات الفطرة الانسانية ، وضرورة معننة الحياة من ناحية ، وتعليم الحياة النمطية (أحادية البعد) والاكراه عليها في العالم المعاصر وهو ما لاقى رواجاً واسعاً وليس قبولاً واسعاً ، من ناحية ثانية .
8 ـ لم يكن للتدين بأبعاده الاجتماعية الرئيسة سابقة تجريبية في الحياة المعاصرة ، فالثورة الاسلامية في ايران وفي اطار نظام الجمهورية الاسلامية تعد سبّاقةً ووحيدةً في ارادة هذه التجربة والمبادرة إليها . وبالتالي لا تتوفر لدينها سوابق تذكر في العصر الحاضر تتيح لنا المقارنة والافادة من الملاحظات والاستنتاجات . وهكذا تتضاعف المشكلات أكثر بكثير مما يجري تصوره ، والسبب الرئيس في ذلك هو البون بين المعلومات والارادات ، وبين الحقائق غير المعلومة التي تتبدى للعيان رويداً رويداً ، ما يجعلها باهضة التكاليف .
9 ـ الظروف الاجتماعية المعقدة في ايران ، وخروج الحياة من النسق السابق أثر التحولات التي سبقت الثورة الاسلامية ، مضافاً إلى الثورة ذاتها ، وتطور الاتصالات ووسائل الإعلام في العالم ، أثارت حيال الايرانيين العديد من التساؤلات يخيص بعضها بتدينهم في الماضي ، وتنوع سلوكياتهم الظاهرية ، تدل كلّها على مكابدة تحديات جادة فيما يتعلق بمرتكزات عقائدهم وسلوكياتهم الدينية . وفي التذبذبات السلوكية دلالة على تذبذبات في عمليات الاجابة عن التساؤلات المثارة . والنتيجة هي أنّ المفزع ليس طرح التساؤلات ـ وهذا ما لا مناص منه ـ بل الاجابات التي تنحت لها . من هنا كان مستقبل التدين في ايران منوطاً إلى حد بعيد بالاجابات التي تحظى بالثقة والقبول ، لذلك يتعين توجيه الجهود والاهتمام صوب تعزيز الاجابات وقدراتها الاقناعية ، وصحتها وصوابها ، لا من الناحية المبدأية والمضمونية وحسب ، كذلك من حيث ظروف المخاطبين والواقع الموجود داخلياً وخارجياً (دولياً) .
انطلاقاً من الحقائق التسع أعلاه يجوز القول : إن انتصار الثورة الاسلامية أفرز الكثير من الأسئلة في الحقل الديني ، وأفضى إلى تسليط الأضواء على الدين ، وسحب الآراء الدينية إلى حيز الحكومة والسلطة . في مثل هذه الطرف تتم مقاربة الدين وتجربته وتطبيقه بصفة جماعية عامة على مستويات واسعة ، في حين لا تتوفر معرفة كافية وخبرة عملية للنهوض بمشروع على هذه الدرجة من الضخامة ـ دخول الدين إلى ميدان المجتمع والسلطة ـ وبالتالي يمكن الخلوص إلى إنّنا في إيران حيال تحول ديني غير مجرب وغير معروف ، ولا يتمتع بالطاقات والأدوات الكافية رغم طرح المسائل المختلفة وشوق الاجابة عنها ، لكن بمقدوره رغم ذلك التوصل إلى نتائج جد ايجابية في حال إبداء مزيد من الجد والاجتهاد . إن نقطة البداية في هذه القضايا الحيوية والخطوات التاريخية ، هي إلغاء النظام البهلوي وقاعدة اطاعة الحكومة الشاهنشاهية ، وانبثاق ثقافة الطاعة القائمة على أساس الوعي والتعقل والانتخاب بدل الطاعة العمياء لتقاليد الآباء والأجداد . والجدير بالذكر أن مواصلة هذه التحولات الايجابية ونمو حالة التدين المقترنة بالوعي ، كانت أكبر بكثير من التخطيطات والبرامج الحكومية ، وما يتبدى من خلال مقارنة اجمالية هو الفارق الكبير بين تدين ما قبل الثورة وتدين ما بعد الثورة . حيث كان الدين والتدين قبل انتصار الثورة خارج نطاق السياسة ومحصوراً داخل مجال ضيق ، أمّا اليوم فالدين معترف به رسمياً على صعيد السياسة وبالمعنى الواسع للكلمة ، لذلك فهو يواجه تحديات عديدة ، وحالات تنافس وصراع قد تفضي إلى تطوره ونضجه ، وهو ما يرتبط بقدراتنا وأساليبنا في الأداء . وإذن ، مواجهة الاستفهامات الصعبة العصية مع انّها تقلص ظاهرياً من تركيز السلوكيات الدالة على التدين ، بيد أنّ التفكر في الدين الذي يدعو بكل توكيد إلى التفكير في مرتكزاته ، يمكن أن يعد بحد ذاته استجابة متشوقة لدعوة الدين . وعليه ، ستتوفر الأرضية لإحياء التفكير الاسلامي والرؤية التوحيدية أكثر فأكثر ، رغم ما يعتور هذا السبيل من عقبات وصعوبات ، ورغم الطابع التدريجي للتحرك في هذا الاتجاه .
بناءً على ما ذكرنا ، تبدو التذبذبات السلوكية في اطار التدين في ايران ظاهرة لا محيص منها ، وهي إلى ذلك ايجابية ، وحرية بالاحترام والتدبر والتحليل . والاجابات التي تحرز الثقة في نهاية المطاف هي التي تقرر مصير التدين في ايران ، وإذن ، لنسع في تقديم اجابات متينة مناسبة .
الهوامش:
[0] ـ ماكس. ل. استكهاوس ، السياسة والدين ، ترجمة د. مرتضى أسعدي ، الثقافة والدين (مجموعة مقالات) ، طرح نو ، ط1 ، 1995 ، ص548 .
[1] ـ علي ذوعلم ، أفول القيم الاجتماعية بعد انتصار الثورة الاسلامية ، جرعه جاري مجموعة مقالات) مركز أبحاث الثقافة والفكر الاسلامي ، ط1 ، 1998 ، ص418 .
[2] ـ عبدالرضا ضرابي ، «دور المسجد وفاعليته في التربية» فصلية (معرفت) ، السنة التاسعة ، العدد الأوّل ، ربيع 2000 ، ص61 .
[3] ـ فرامزر رفيع بور ، التنمية والتناقض ، منشورات جامعة الشهيد بهشتي ، ط1 ، 1997 ، ص317 ـ 318 .
[4] ـ م س ، ص318 .
[5] ـ جبب الحجاب الشرعي في ايران .
[6] ـ م س ، ص555 ـ 556 .
[7] ـ داريوش مطلبي «تعريف رسالة جامعية : واقع الكتب في عقدين 1979 ـ 2000» شهرية (كتاب ماه) السنة 4 ، العدد 12 ، ديسمبر 2001 ، ص28 .
[8] ـ صحيفة «همبستگي» نقلاً عن وزير الثقافة السيد أحمد مسجد جامعي ، الأحد 31/ 6/ 1381 .