النشاط الاقتصادي بعد الثورة الاسلامية في ايران

النشاط الاقتصادي بعد الثورة الاسلامية في ايران
الخميس ٣١ يناير ٢٠١٣ - ٠٩:٢٠ بتوقيت غرينتش

قبل كل شيء لا بدّ من التنبه إلى أنّ الحقل الاقتصادي يتباين بفوارق أساسية عن ميادين الثقافة والسياسة ، لذلك كانت لتحولاته وتطوراته اشكال مختلفة . على الرغم من التفاعلات والتأثيرات بين المساحات الثلاث الثقافية والاقتصادية والسياسية ، بيد أنّ التفاوتات التي تميز بينها تترك التفاعلات المذكورة معقدة غير بسيطة .

 وإذن ، فوقوع الثورة الذي يبعثر البنى في الصعد الثلاثة على السواء ، يترك تأثيراته في كل واحد منها بطريقة معينة . فمثلاً أبرز تجليات الثورة هو سقوط نظام الحكم السابق وتبدل النظام السياسي في البلاد ، الأمر الذي تقفوه تغيرات سريعة وعظيمة على الساحة السياسية . بيد أن مثل هذه السرعة غير متاحة على المستوى الاقتصادي . بتعبير آخر ، تطرأ على الأوجه الخارجية لكل واحد من هذه الأصعدة الثلاثة ومنها الاقتصاد تغيرات سطحية بسبب انتصار الثورة ، بينما تستدعي التغيرات البنيوية الأساسية دراسات وتخطيطات دقيقة شاملة ، وانشاء مؤسسات وتستغرق وقتاً طويلاً ، واية واحدة من هذه المستلزمات لا تتوفر بوقوع الثورة ، إنّما هي رهن بالمساعي المستقبلية لأصحاب القرار في النظام السياسي الجديد مضافاً إلى الظروف التي ستسود بعد الثورة وتلقي بظلالها على الارادات والقرارات . وبالتالي فإن حصيلة الارادات الذهنية والواقع الموضوعي هي التي تكتسي لبوساً عملياً وتنفيذياً . بناءً على هذا يجوز القول أن مراجعة الوضع الاقتصادي لايران بعد الثورة الاسلامية لا يمكن أن تبتني على محض الشعارات والرغبات ، إنّما اساس الدراسة بالدرجة الأولى هو الظروف والامكانات التي توفر لنا معايير واقعية ، وبالدرجة الثانية يجب قياس التناسب بين الأنشطة وعمق المتغيرات وبين المطالبات .
النقطة الأهم في الاقتصاد الايراني قبل الثورة الاسلامية هي تبعيته التي أدت إلى ضعف حركيته وحيويته اللازمة . وقد كانت التبعية المذكورة مشهودة على المستويين الداخلي والخارجي . داخلياً كان الاقتصادي الايماني مرتهناً بشدة للنفط ، وإذن فقد كان اقتصاداً حكومياً . وخارجياً كان يتحرك باتجاه القضاء على الاستغلال الاقتصادي للبلاد وتكريس اقتصاديات تابعة للمعسكر الغربي وأمريكا . وأوّل ثمار الثورة الاسلامية هو التأثير على البعد الخارجي للاقتصاد وايقاف نهب المصادر الوطنية ، والافادة من تجارب الأجانب وامكانات ضمن اطار قانوني بملاحظة قاعدة «نفي السبيل» التي تمنع خضوع المسلمين لهيمنة الأجنبي . العداوات المتواصلة ضدّ الثورة مثل شن الحرب المفروضة وفرض الحظر بأنواع المختلفة ، كرست هذه الخطوة في مضمار الأنشطة الثورة الاقتصادية ودفعتها صوب الابداع ، فالقيود والضغوط من جهة وارادة حفظ الثورة الاسلامية من جهة ثانية ، نقلت الطاقات الكامنة إلى حيز الفعل . وبالطبع فإن هذه المساعي ، لم توفق في العقد الأوّل من الثورة الذي سادته حالة من عدم الاستقرار نتيجة الثورة والحرب ، لاحداث تغييرات جادة وطويلة الأمد في البنى التحتية الاقتصادية ، مضافاً إلى أنّ الحرب المفروضة أثقلت كاهل الاقتصاد الضعيف والتبعي بخسائر كبيرة . غير أن هذا الضعف ، لم يظهر على شكل توترات واحتجاجات اجتماعية بسبب النجاحات في الحقل السياسي (سقوط النظام الشاهنشاني وتأسيس نظام الجمهورية الاسلامية) والتغييرات القيمية والسلوكية في المجالات الثقافية والاجتماعية . عموماً بقي الاقتصاد غير منظم ، ولم تستطع الخطط المختلفة في حقل الاقتصاد سوى معالجة الشؤون بصفة موقتة وسد الاحتياجات اليومية والتركيز على ردم الفجوات التي أحدثتها الحرب ، حيث تمّ العمل بنجاح في هذا المجال ، وأثمرت الجهود عن الحفاظ على ضروريات الحياة الاقتصادية في سنوات الحرب المفروضة وغير المتكافئة . تحدث المهندس ميرحسين موسوي عن ذلك الواقع على شكل مقارنة احصائية بنحو التالي : في سنة 1978 كان المنظرون الاقتصاديون للنظام السابق قد أكدوا في حساباتهم إنّ البلاد إذا أرادت المحافظة على وضعها الاقتصادي لعشرة أعوام أخرى ، ولم تتطلع إلى أي تقدّم جديد ، ستحتاج في عام 1988 إلى 40 مليار دولار من عائدات العملة الصعبة . ونحن الآن في سنة 1988 بعشرة مليارات دولار هي الميزانية التي صادق عليها المجلس . خبراء النظام السابق لم يقدموا هذه المحاسبات لأغراض دعائية حتى يتاح لنا التشكيك في صحة الأرقام . لقد كان هذا التكهن قيد الدراسة والبحث في أكثر اجتماعات الشورى الاقتصادية آنذاك سرّيةً . وهم لم يأخذوا بنظر الاعتبار في محاسباتهم تلك نشوب الحرب والانفاقات الباهضة التي تستوجبها والانخفاض المروّع لقيمة الدولار . وقد اعتبروا معدل النمو السكاني 5 / 2% ، والحال إن احصاءات سنة 1986 تشير أنّ العقد الذي انتهى بهذه السنة شهد نمواً سكانياً في البلاد بمعدل 9 / 3% للسنة الواحدة . ما الذي ردم هذه الهوة ذات الثلاثين مليار دولار ؟ إنّها ارادة الشعب في حدود جديرة بالثناء ، والامكانيات الادارية المستحدثة في البلاد ضمن حدود جديرة بالملاحظة  .
بعد انتهاء الحرب ، بدأ عهد اعادة الإعمار والبناء الذي يمكن تسميته عهد التجربة والخطأ ، والذي يستشف انّه لا يزال مستمراً ، إذ على حد تعبير الدكتور محمد خوش چهره : قال السيد خاتمي بسبب الافتقار إلى نظرية اقتصادية سنتقدم بالاقتصاد في طريق التجربة والخطأ [2] . بعد سنوات الحرب تركزت الجهود على المضمار الاقتصادي إلى درجة يمكن معها القول إن حمى النشاط الاقتصادي القائم طبعاً على رؤية خاصة للشؤون الاقتصادية ، كانت قد بدأت . مع إنّ الاقتصاد كان لا يزال حكومياً ومعتمداً على عائدات النفط ، ألا إنّ الأنشطة التأسيسية كانت تتابع بمزيد من المثابرة والجد . كتب الدكتور ابراهيم رزاقي في هذا الصدد : في سنوات ما بعد الثورة ، واجه الدخل القومي الايراني حتى عام 1989 تذبذبات ومنعطفات كبيرة ، ألا انّه بعد تلك السنة سار على وتيرة منتظمة من النمو ، حتى انّه وصل من 5 / 8226 مليار ريال في سنة 1989 إلى 7 / 12247 مليار ريال في عام 1994 إلى السعر الثابت لسنة 1982 [3] . ويقول أيضاً : المكتسبات الصناعية في انتاج الفولاذ والنحاس والألمنيوم والبتروكيمياويات والالكترونيات وصناعة السيارات ، ونمو شبكات الاتصال ووسائله ، كانت جديرة بالملاحظة في سنوات الخطة الأولى وسنتين من الخطة العمرانية الثانية من حيث إشباع الاستهلاك الداخلي . ألا إن عدم نمو الصادرات الصناعية واقامة أواصر بين القطاعات الاقتصادية (رغم ما اتخذ من الخطوات على هذا الصعيد) واستمرار أحادية الانتاج في الاقتصاد الايراني ، يمكن أن يشي بتواصل الوضع السابق مع متغيرات تتلائم والظروف الدولية والداخلية الجديدة [4] .
الهوامش:
[2] ـ صحيفة (سياست روز) ، حوار : 22 سنة من ادارة اقتصاد البلاد في بوتقة نقد الخبراء ، الأحد 23 / 11 / 1379 (12 / 2 / 2001م) .
[3] ـ ابراهيم رزاقي ، التعرف على اقتصاد ايران ، منشورات ني ، ط1 ، 1997 ، ص92 ـ 93.
[4] ـ م س ، ص280 .
****************
نبذة عن النشاط الاقتصادي بعد الثورة الاسلامية (2)
وفي ثنايا الأنشطة التأسيسية ، أنجزت مشاريع عمرانية ملحوظة . فمثلاً «حسب الاحصاءات المتوفرة لعام 1978 كانت هناك 3500 قرية فقط من بين كل قرى ايران تتمتع بالطاقة الكهربائية ، وقد وصل هذا الرغم في 1996 إلى 35210 قرية ، وإذن فقد تضاعف عدد القرى المتمتعة بالكهرباء إلى عشرة أضعاف بعد انتصار الثورة . وتدل التقارير الرسمية إن قرابة 90 بالمئة من قرى البلاد كانت تتمتع بالماء الصالح للشرب في سنة 1996 ما يعني تقدماً ملحوظاً بالقياس إلى عام 1978 . من جانب آخر ، في حين كان 1 / 13 مليون نسمة من سكان المدن مشمولين بشبكات اسالة المياه في سنة 1978م ، ارتفع هذا الرقم في سنة 1998 إلى 35 مليون نسمة . ويشير تقرير لوزارة الطاقة إلى أن عدد سدود البلاد في عام 1978 لم يتجاوز 13 سداً بحجم 68 مليار مترمربع ، في حين بلغ عدد السدود سنة 1996م 48 سداً بقدرة على تأمين المياه تعادل 97 مليار مترمكعب ، ما يدل على تطور بنسبة 250 بالمئة في عدد السدود بعد انتصار الثورة .
ويفيد هذا التقرير إن انتاج الكهرباء سجل عام 1996 معدل 1410 كيلوواط للفرد الواحد ، ما يعني زيادة بنسبة 160 بالمئة إلى ما كان عليه الحال سنة 1978([1]) . ويعتقد الدكتور جمشيد پژويان أستاذ جامعة العلامة الطباطبائي : مع انّ الاقتصاد الايراني ظل يرزح طيلة الأعوام الماضية بشكل أو بآخر تحت تأثير البرامج التخريبية للمعارضين ، إلاّ أننا انتهينا من الحرب بنجاح من ناحية ، واستطعنا بعد الحرب تعويض جانب ملحوظ من استهلاك أرصدة المجتمع من ناحية ثانية([2]) .
عموماً ، يتسنى القول أنّ الفهم الاقتصادي لاعادة البناء شكّل ضغوطاً على قطاعي الثقافة والسياسة . بمعنى أنّ النمو الاقتصادي أفضى تكريس المطالبات الثقافية والسياسية بنحو تدريجي ، الا أن هذه المطالبات لم تتح لها مساحات كافية للتجلي والظهور ، ما أدى إلى إثارة هذه القضايا في بعض شعارات الدورة السابعة لانتخابات رئاسة الجمهورية سنة 1997 واستقطابها أكثرية أصوات الشعب لتعيد بعض التوازن بين حقول الاقتصاد والسياسة والثقافة . وقد أدّت هذه الظروف إلى التخطيط بنظرة أشمل لقضايا الاقتصاد واسقاطاتها على مضامير المجتمع والسياسة ، الأمر الذي استتبع نتائج ايجابية . وفيما يلي نشير إلى بعض منها([3]) :
كان معدل التخضم من 1993 حتى 1996 أكثر من 30 بالمئة ، وقد تراجع خلال الفترة من 1997 حتى 1998 إلى أقل من 20 بالمئة . بناءً على تقارير البنك المركزي فإن معدل التضخم خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 1379 (آذار إلى كانون الأوّل 2000م) بلغ 9 / 12 بالمئة . وقد استطاعت الحكومة اتخاذ خطوات ايجابية على صعيد التخطيط الاقتصادي تتبدى نتائجها تدريجياً . ومن بين هذه الخطوات التصدي لتعددية سعر العملة الصعبة . وقد كان ايجاد حساب احتياطي العملة الصعبة خطوة مهمة أيضاً في هذا المضمار ، حيث تمّ تحديد كيفية انفاق هذا الاحتياطي في المادة 60 من قانون الخطة الثالثة . يتيح هذا الحساب خفض التأثيرات السلبية لانهيار سعر النفط على الميزانيات السنوية وعلى الحالة المعيشية لقطاعات الشعب . تخصص أجزاء مما في هذا الحساب على شكل مبالغ مُدارة للأنشطة الانتاجية ، والاستثمارات وايجاد فرص عمل . الخطوة الايجابية الأخرى التي تمّ اتخاذها هي التحرك باتجاه تصحيح العلاقة بين النظام المصرفي وميزانية الدولة . فمن مشكلات النظام المصرفي ما عُرف بالملحوظات التكليفية ، بمعنى أنّ البنوك تكلف عن طريق قوانين الميزانية المصادق عليها من قبل المجلس ، بتسليم مقادير ملحوظة من مصادرها ومعظمها من ايداعات المواطنين للشركات والمشاريع الحكومية . وقد تقرر في الخطة التنموية الثلاثة (المادة 84 من قانون الميزانية) تخفيض هذه التسهيلات التكليفية بنحو تدريجي ، أي بنسبة 10 بالمئة قياساً إلى الأرقام المصادق عليها عام 1999م . ومن شأن هذه الخطوة على المدى البعيد أن توجه المصادر المصرفية نحو مستحقيها بطريقة علمية ومجدية اقتصادياً . ومن الخطوات المفيدة للحكومة خلال هذه الدورة العمل والبرمجة لتسديد ديون البلاد الخارجية . في عام 1996 كان مجموع الديون الخارجية لايران 17 مليار دولار . وهبط هذا الرقم سنة 1999م إلى نحو 3 / 10 مليار دولار ، 65 بالمئة منها ديون طويلة ومتوسطة الأمد . وفي الأشهر الستة الأول من عام 2000 تمّ تسديد قرابة 5 / 1 مليار دولار من الديون الخارجية .
مجلة اكونوميست رسمت صورة للاقتصاد الايراني آخذة في التحسن . فقد جاء في تقريرها حول المستقبل التجاري للبلاد : الدرجة العامة لايران في سلم الوضع التجاري ، تدل على تحسن نسبي ، إذ سوف ترتفع هذه الدرجة من 32 / 3 في ما بين 1997 ـ 2001 إلى 58 / 4 للفترة ما بين 2002 ـ 2006 . وهو ارتفاع ناجم بالدرجة الأولى عن تحسن الوضع العام الذي يعدل درجة ايران في هذا المضمار من 6/5 إلى 3 / 8 ، ومرتبتها الاقليمية من السابعة إلى الثالثة . وتعزو اكونوميست أسباب التحسن الملحوظ في الاقتصاد الايراني العام إلى انخفاض معدل التخضم ، وزيادة النمو الاقتصادي والسيطرة على الديون الخارجية لايران ... إن ارتفاع سعر النفط في الأعوام 2001 ـ 2002 والمشهد الايجابي لعائدات النفط والغاز في غضون الأعوام المقبلة ، ستؤدي إلى تحسن الوضع الاقتصادي في ايران([4]) .
الخـلاصة :
يستشف من مجمل الأنشطة والخطوات المتخذة ، إنّ المنحى الأحادي البعد في ادارة شؤون البلاد على شتى الصعد بما في ذلك الصعيد الاقتصادي ، آيل إلى الأفول . وتحظى الآن فكرة «التنظيم» في كل واحد من المرافق السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، بمزيد من الاهتمام والتركيز . ويتضاعف يوماً بعد يوم الشعور بضرورة التعامل المنظومي لتنسيق وتوزيع المهام بصورة صحيحة بين السلطات وبرامجها ، الأمر الذي سوف يستدعي تطورات تشهدها الحياة الاقتصادية في هذا السياق . يذكر أنّ التغييرات الأساسية والضرورية للاستقلال الاقتصادي إنّما تتحقق إذا ما نأت التخطيطات والبرامج الاقتصادية عن منحى التجربة والخطأ ، وقامت على أساس نظريات اقتصادية محلية تتوكأ على السمات السلوكية والامكانات الداخلية والخارجية للبلاد .
الهوامش:
[1] ـ صحيفة همشهري : «اقتصاد ايران ، عشرون عاماً من الصمود على جبهتين» الأربعاء 15 / 11 / 1376 (4 / 2 / 1998) .
[2] ـ صحيفة (سياست روز) م س .
[3] ـ الخطوات المتخذة منتقاة من تقرير مكتوب لرئيس الجمهورية إلى الشعب بشأن تحولات البلاد وأداء الحكومة ، منشور في صحيفة اطلاعات ، السبت 27 / 12 / 1379 (17 / 3 / 2001م) .
[4] ـ صحيفة اطلاعات ، الاثنين 1 / 7 / 1381 (23 / 9 / 2002م) .