بعيداً عن التشاؤم...

بعيداً عن التشاؤم...
الثلاثاء ٠٧ مايو ٢٠١٣ - ١١:٥٣ بتوقيت غرينتش

حقاً ليست بالعادية تلك الظروف التي حلّت بالعراق خلال العقد الراهن من تاريخ العراق الحديث فاحتلالٌ وطائفيةٌ وإرهاب ثم محاصصةٌ ثم فساد.، وقبل ذلك تركة ثقيلة بكل تفاصيلها المثخنة بالآلام والمعاناة قد ارهقت العراق وتسببت فيما تسببت في استنزاف بناه المعرفية ثقافيةً كانت او اجتماعية، سياسيةً كانت او اقتصادية

ناهيك عن الاستهداف المباشر الذي لاتزال تتعرض لها سيكولوجية الفرد العراقي جراء مكابدتها أزمات متلاحقة ومستمرة، حتى بات الوقوع في دوامة الشكوى والادمان على التذمر والنقد غير البنّاء من السمات السلوكية البارزة في مجتمعنا فهي نتاج طبيعي لتلك الظروف وتلك المتغيرات التي واكبت يوميات شعبٍ كان يعرف بحيويته ودماثة خلقه.
لا شك ان الصراعات والخلافات السياسية التي اعقبت الاحتلال قد أدخلت البلد في متاهاتٍ مظلمة حتى بات خرق الخطوط الحمراء والخوض في المحرمات السيادية من ادبيات هذه المرحلة المعقدة التي اعتادت بعض النخب السياسية الولوج فيها كيفما شاؤوا ومتى ما ارادوا لأهواء فئوية ضيقة، او اجندات اقليمية معروفة قد تنال من وحدة البلد واستقراره دون شعورٍ بأن صيانة العراق وحفظ سيادته مسؤولية في عنق الجميع.، فهل اصبحت تجربة العراق الحديثة تثير القلق وتبعث على اليأس؟
ليس من الانصاف ان نطلق حكماً قطعياً على تجربة لا تزال تحبو متعثرةً نحو النجاح، ولم يمض عليها سوى عقد من الزمن، فالتاريخ ماثلاً أمامنا يحدثنا عن ماضي البلدان المتحضرة  التي مرّت بمراحل مختلفة من مراحل البناء والتغيير وشهدت مساراً صعودياً او نزولياً بغية تطبيق مبادئ الديمقراطية والحكم الرشيد، ولم يُخف ما تعرضت له تلك البلدان في مراحلها التأسيسية من صراعات عنيفة غالباً ما كانت دموية بين قوى مؤيدة وأخرى معارضة للتغيير، فنجد على سبيل المثال ان فرنسا الحاضنة الأولى للنظام الديمقراطي في العالم قد شهدت مراحل متعددة من التغيير فمن ثورة تدعو الى تكريس وتطبيق المبادئ العامة للديمقراطية عام 1788 ،الى انقلاب على تلك المبادئ اعاد النظام الملكي بقيادة نابليون الذي شهد العالم ابان حكمه حروباً قاسية ومدمرة، ثم نجد ان فرنسا شهدت تحولاً آخر نحو النظام الجمهوري ومن بعده انحداراً نحو الدكتاتورية، وصولاً الى الجمهورية الخامسة التي استقرت لها فرنسا اليوم، اما الولايات المتحدة الامريكية التي تدعي بأنها الراعية والداعمة الاولى للتحول الديمقراطي خصوصاً في عالمنا العربي قد عانت هي الأخرى من حروب داخلية وصراعات وتمييزاً عنصرياً مازال قائماً الى اليوم بين شرائح المجتمع فالحروب الاكثر "قساوة" و "وحشية" بحسب الكثير من المؤرخين، انما امتدت لأربع سنوات متتالية وحصدت ارواح الكثير من الابرياء.
كذلك جمهورية وايمار -آلمانيا في ما بعد -حينما تحولت الى دولة فاشية ابان حكم آدولف هتلر بذريعة فرض القانون واعادة هيبة آلمانيا التي سحقت نتيجةً لخسارتها في الحرب العالمية الاولى فهي ايضاً شهدت التغيير من نظام ديمقراطي يعتمد الانتخابات والاقتراع المباشر الى نظام ديكتاتوري فاشي مقيت قاد العالم الى حرب عالمية هدّامة.
بالرغم من كل ما جلبته التجربة في العراق من مآسي، الا انها لا تزال في المرحلة التأسيسية من مراحل بناء الأمة – الدولة، والصورة ليست مشوهة الى حد اليأس والتشاؤم اذا ما اخذنا ايجابيات المرحلة ومقومات النجاح بنظر الاعتبار.،فعلى المستوى القيمي فان الشعور بالحرية بمحدداتها الاخلاقية القانونية التي تتحدد بعدم التجاوز على حرية الآخر او الآداب العامة للمجتمع باتت من اهم الايجابيات التي نتلمّسها عبر ممارسة الحق في التعبير وابداء الرأي والانتماء الفكري مهما كان وبأي اتجاه يصب، سوى ان يكون فكراً محرضاً للتطرف والكراهية بين ابناء المجتمع فهو اصبح امراً يرفضه العقلاء، كما ان الاعتماد على مبدأ الحوار كقيمة عقلائية في حل الازمات لاتزال هي السائدة لاحتواء الخلافات مهما كان حجمها ومهما كان تأثيرها السلبي على حياة الناس، فلم نجد ثمة خلاف استدعى حرباً بين ابناء الشعب الواحد وانما بات الوعي الجمعي مستقراً الى حد اللجوء الى الآليات الديمقراطية المشروعة لنبذ الخلافات كما حصل في الازمة الاخيرة بخصوص المظاهرات والاحتجاجات التي شهدتها المناطق الغربية في البلد فبقيت لغة الحوار هي السائدة لولا بعض الاصوات الشاذة التي بدت تخلط الاوراق وسرعان ما اصطدمت بالتيار العقلائي العام.
ربما يبقى الواقع الخدمي مدعاة للقلق نتيجةً للتلكأ الذي حصل ويحصل في انجاز المشاريع الستراتيجية في البلد وذلك اما بسبب قلة الكفاءة او بسبب الفساد المستشري في مؤسسات الدولة وعدم وجود جهاز رقابي محايد يفرض هيبته على تلك  المؤسسات ،ويبدو ان هذه السلبيات هي نتيجة من نتائج عدم الاستقرار السياسي وارتباك العملية السياسية بسبب مقتضيات المرحلة، ولكن ثمة مكاسب ينبغي ان نستحضرنا دائماً عندما يواجه حاضرنا ماضينا الأليم، فالتجربة لا تزال في بداية مشوراها تحتاج الى تقييم وتقويم اكثر منها الى حكم قطعي بفشلها او نجاحها ،الى تفائلٍ يجعل من سلبيات المرحلة وهفواتها فرصة ننطلق بها نحو النجاح.،ولنا أمل في ان هذه السلبيات سوف تتضاءل وتتلاشى بمرور الزمن،خصوصاً اذا تجذرت العملية الديمقراطية في وعي المجتمع وأخذت مدياتها في بناء مؤسسات ديمقراطية رصينة...

بقلم د. ياسر عبدالزهراء عثمان