الإمام الهادي..مسيرة العلم والتضحية

الإمام الهادي..مسيرة العلم والتضحية
الجمعة ٠٢ مايو ٢٠١٤ - ٠٥:٣٢ بتوقيت غرينتش

الإمام علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، هو عاشر ائمة أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

ولد الامام الهادي علي بن محمد (عليه السلام) محاطا بالعناية الإلهية فأبوه الإمام المعصوم والمسدد من الله محمّد الجواد (عليه السلام) وأمه الطاهرة التقية سمانة المغربية سلام الله عليها.
ولقد تحلّى الامام الهادي (عليه السلام) بمكارم الاخلاق التي بعث جدّه الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم لتتميمها واجتمعت في شخصيته كل عناصر الفضل والكمال التي لا يسعنا الاحاطة بها ولا تصويرها، واليكم بعض هذه المكارم التي نصّت عليها السيرة والتأريخ.
*الكرم: كان (عليه السلام) من ابسط الناس كفا، وأنداهم يدا، وكان على غرار آبائه الذين أطعموا الطعام على حبّه مسكينا ويتيما وأسيرا، وكانوا يطعمون الطعام حتى لايبقى لأهلهم طعام، ويكسونهم حتى لايبقى لهم كسوة. (صفة الصفوة 2/98).   
*الزهد: لقد عزف الإمام الهادي (عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومتعها وعاش عيشة زاهدة إلى اقصى حدّ. لقد واظب على العبادة والورع والزهد، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة، آثر طاعة الله تعالى على كل شيء، وقد كان منزله في يثرب وسرّ من رأى خاليا من أثاث، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتشوه دقيقا فلم يجدوا فيه شيئا من رغائب الحياة، وكذلك لما فتشت الشرطة داره في سرّ من رأى(سامراء) فقد وجدوا الامام في بيت مغلق وعليه مدرعة من شعر وهو جالس على الرمل والحصى، ليس بينه وبين الارض فراش وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القران) سبط ابن الجوزي - تذکرة الخواص .  
وحمل على هذا الحال إلى المتوکل العباسي وأدخل عليه وکان المتوکل في مجلس شراب، وبيده کأس من الخمر فناول الامام الهادي (عليه السلام) فردَ الامام: ( والله ما خامر لحمي ولادمي قط، فاعفني) فأعفاه، فقال له: انشدني شعرا فقال الامام علي (عليه السلام) (انا قليل الرواية للشعر) فقال: لابد، فانشده:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم                    غلب الرجال فلم تنفعهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم                     وأسكنوا حفرا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد دفنهم                        أين الأساور والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة من                    دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم                   تلك الوجوه عليها الدود تقتتل
قد طال ما أكلوا دهرا وقد شربوا                                    وأصبحوا اليوم بعد الأكل قد أكلوا       
*العمل في المزرعة: تجرد الامام الهادي (عليه السلام) من الانانية، حتى ذكروا إنه كان يعمل بيده في أرض له لاعاشة عياله.
*إرشاد الضالين: واهتم الامام الهادي (عليه السلام) اهتماما بالغا بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحق وهدايتهم الى سواء السبيل، وكان من بين من أرشدهم الامام وهداهم ابو الحسن البصري المعروف بالملاح، فقد كان واقفيا يقتصر على إمامة الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) ولايعترف بامامة ابنائه الطاهرين، فالتقى به الامام الهادي (عليه السلام) فقال له: (إلى متى هذه النومة؟ أما آن لك أن تنبه منها؟ّ!).  
وأثرت هذه الكلمة في نفسه فآب إلى الحق والرشاد- كتاب اعلام الهدى.
*التحذير عن مجالسة الصوفيين: وحذر الامام الهادي (عليه السلام) اصحابه وسائر المسلمين من الاتصال بالصوفيين والاختلاط بهم لانهم مصدر غواية وضلال للناس، فهم يظهرون التقشف والزهد لاغراء البسطاء والسذج وغوايتهم.
*تكريمه للعلماء: وكان الامام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم ويحتفي بهم ويقدّمهم على بقية الناس لانهم مصدر نور في الارض.
*العبادة: إن الاقبال على الله تعالى والإنابة إليه واحياء الليالي بالعبادة ومناجاة الله سبحانه وتلاوة كتابه هي السمة البارزة عند أهل البيت (عليهم السلام). اما الامام الهادي (عليه السلام) فلم ير الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشدة تحرجه في الدين.
*استجابة دعائه: من المؤكد ان استجابة الدعاء ليس من عمل الانسان وصنعه، وانما هو بيد الله تعالى فهو الذي يستجيب دعاء من يشاء من عباده ومما لاشبهة فيه ان لإئمة أهل البيت (عليهم السلام) منزلة كريمة عنده تعالى، لانهم اخلصوا له كأعظم مايكون الاخلاص واطاعوه حق طاعته وقد خصهم تعالى باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء- راجع حياة الامام الهادي:42-62.
أما عن الاوضاع السياسية في زمانه، فقد حفلت حياة الامام الهادي (عليه السلام) بالمعاناة السياسية  إذ أنه عايش الحکام العباسيين وقاسى منهم العنت والمضايقات والضغوط ورأى محنة العلويين ومآسي أبناء فاطمة الزهراء عليها السلام على يدهم. وعايش الامام الهادي (عليه السلام) في عصر إمامته بقية حکم المعتصم العباسي، کما عايش من بعده الواثق خمس سنين وسبعة اشهر، ومالك المتوکل اربع عشرة سنة وملك ابنه المنتصر ستة اشهر وملك المستعين سنتين وتسعة اشهر وملك المعتز ثماني سنين وسته اشهر وفي آخر ملکه استشهد الامام الهادي (عليه السلام).
وقد حفلت هذه الفترة بالحوادث والصراع السياسي المرير بين العلويين والحکام العباسيين فأصاب الامام منها الأذى والاضطهاد. وكان الحکام العباسيون يخافونه لانه کان سيَد اهل البيت وامام الامة وصاحب الکلمة النافذة. وکان الامام (عليه السلام) ينمي حرکة الوعي السياسي والايماني ويستقطب الجماهير من حوله ويمارس دور التربية والتوجيه عن طريق نشر الوعي الاسلامي السليم والمعرفة الدينية الصحيحة والتعرف بمبادىء الاسلام في الحکم والسياسة وسيرة الحاکم العادل واخلاقة.
إبتدأ الامام الهادي (عليه السلام) حياته السياسية أواخر عهد المعتصم العباسي الذي کان يعامل العلويين وکل من يعارض سياسته الظالمة بتعسف وقسوة. وکان الفساد قد سيطر على البلاد وتسلط الغلمان الحواشي على الامور وکان المعتصم کأسلافه من بني العباس في تعامله وسلوکه وايغاله في اللهو واللعب والاستهانة بالنفوس والدماء، ثم بنى المعتصم مدينة سامراء وجعلها عاصمة لخلافته ومقرا لجنده لذا سميت بالعسکر وسمي الامام الحسن العسکري (عليه السلام) بذلك لسكنه بها فيما بعد.
وبعد موت المعتصم خلفه ولده الواثق سنة (227 للهجرة) ولم يکن الواثق في سياسته ورعايته بافضل من ابيه الا ان المؤرخين ذکروا ان الواثق کان اخف وطأة على آل ابي طالب فلم يحصل في عهده ان قتل احدا منهم وتنفس في عهده العلويون الصعداء إذ کان الواثق مشغولا باللهو الفساد. خلال هذه الفترة کان الامام الهادي (عليه السلام) يقيم في المدينة مشغولا بالعلم والعبادة وهداية الناس وارشادهم وهو في سن الشباب فکان نجمه يعلو وشخصيته تترکز وقلوب الناس تهوي اليه.
ثم تولى المتوکل جعفر بن المعتصم الخلافة بعد موت الواثق سنة ( 232) وقد لقي على يدي المتوکل الطالبيون الاذى والاضطهاد. ولم يکن الامام الهادي (عليه السلام) ليغفل عن هذه المحن وذلك الظلم العسف الذي مارسه المتوکل العباسي لذا کان يقوي علاقته بأبناء الامة وينشر مبادىء الاسلام ويربي جيلا من العلماء والرواة على اسس متينة من العلم والتقوى والثبات على الحق ومقاومة الظالمين. وحين اصبح موقع الامام الهادي (عليه السلام) في المدينة المنورة خطرا يهدد کيان المتوکل وقوة ترهبه وترهب العناصر المسيطرة على الدولة والمال والسلطة کثرت التقارير والوشايات ومحاولات الايقاع بالامام. وحاول خصوم الامام ان يقنعوا المتوکل بان الامام الهادي (عليه السلام) يعد ويهيئ للثورة وهو يجمع المال والسلاح والانصار ، لذا عمد المتوکل الى استدعاء الامام وجلبه من المدينة المنورة الى مدينة العسکر (سامراء) ليکون تحت الرقابة والمتابعة اليومية وذلك سنة  243 للهجرة النبوبة الشريفة.
وفي سامراء بدات اعمال الضغوط السياسية والرقابة المشددة من قبل المتوکل العباسي وارکان سلطته ضد الامام الهادي (عليه السلام) واتباعه فمرة يحاولون النيل من شخصيته واخرى سجنه واغتياله وثالثة بتفتيش بيته ويجلب ليلا الى المتوکل بتهمة الاعداد للثورة والمواجهة وأخرى يسعون لايجاد زعيم بديل عنه، وکل تلك المحاولات باءت بالفشل الذريع إذ کانت عنايه الله تعالى ترعى الامام وتدفع عنه وکانت شخصيته تعلو ومقامه يفرض على المتوکل رغم صلفه وکراهيته لآل علي بن أبي طالب (عليه السلام) کما کان الامام يفرض وجوده على القصر وحواشيه.
واستمرت محنة الامام الهادي (عليه السلام) مع المتوکل العباسي وصراعه المرير معه حتى مات المتوکل مقتولا فقد لقى مصرعه وهو سکران ثمل في قصر خلافته، اشترك ابنه المنتصر في القضاء عليه، ثم تمت البيعة للمتنصر وبموت المتوکل شعر العلويون بتخفيف وطأة الارهاب والمطارة لهم إذ ان المنتصر کان لينا معهم واعاد لهم بعض حقوقهم المسلوبة.
ثم مات المنتصر سنة (248) وجاء بعده المستعين وفي زمنه اشتدت الفتن وتعاظم تذمر الناس وهجموا على سجون بغداد وسامراء واخرجوا السجناء منها. انتهى المستعين مقتولا کالمتوکل وحمل رأسه الى المعتز الخليفة من بعده) الذي کان يلعب الشطرنج) فقال: ضعوه حتى افرغ من الدست، فلما فرغ نظر اليه وأمر بدفنه. ولم يکن المعتز بأفضل من اسلافه کما ان الاوضاع کانت أسوأ من السابق.
خلال هذه الفترات کان الامام علي الهادي (عليه السلام) يرقب الحوادث، ويسعى لکف العدوان العباسي ويبذل جهده في مجال العلم والمعرفة والدفاع عن مبادىء الشريعة وقيمها وتربية الامة على اساسها وتوعية الناس على مفاهيم الدين الصحيحة لا الصورة المشوهة التي کان يعرضها الخلفاء العباسيون ويتصرفون بالدين وفقا لاهوائهم وشهواتهم ونزعاتهم الشريرة في الحکم.
واصل الامام الهادي (عليه السلام) تيار اهل البيت عليهم السلام العلمي في کل مجال وعلم من علوم الشريعة ومعارفها امتدادا لجهود الائمة من قبله في إحياء معالم الدين وتنزيهها من التحريف والتزيف الذي الحقه بها الحکام الظالمون والعلماء المنحرفون واصحاب البدع والافکار الضالة.
وقد کان الامام الهادي (عليه السلام) مرجع اهل العلم والفقه والشريعة في عصره فقد ذکر الشيخ الطوسي في کتابه الرجالي ، مائة وخمسة وثمانين تلميذا وراويا اخذوا و رووا عن الامام الهادي (عليه السلام).
کانت حياة الامام علي الهادي (عليه السلام) حياة علم وعمل ودعوة الى کتاب الله وسنَة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم الى جانب کونها حياة کفاح وصراع سياسي من اجل الحق والعدل ونصرة المظلوم.
لقد لاقى من حکام عصره الملاحقة والارهاب والتضييق واخرج من مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجبر على الاقامة في سامراء ليکون تحت الرقابة المباشرة وليعزل عن قيادة تحرك الامة المتجهة نحو اهل البيت عليهم السلام وهناك في سامراء قضى شطرا کبيرا من حياته حتى سُمّ في خلافة المعتزّ العبّاسي، واستشهد فيها في الثالث من رجب حيث کانت شهادته سنة ( 254 هجري قمري ) ودفن في داره الواقعة في سامراء، وکان عمره الشريف يوم استشهاده احدى واربعين سنة.

**

تصنيف :