الفوضى العارمة التي تجتاح العراق – جيوسياسية (جزء 3)

الفوضى العارمة التي تجتاح العراق – جيوسياسية (جزء 3)
الثلاثاء ٠٨ يوليو ٢٠١٤ - ٠٤:٥٧ بتوقيت غرينتش

في الجزء الاول استعرضنا الاسباب الحقيقية التي دفعت شريحة من المكون السني العمل على وأد العملية الديموقراطية وسلب المكون الاكبر حقه في اختيار ممثليه او فرض التقسيم كأمر واقع يلبي في المقام الاول طموحات "اسرائيل". وفي الجزء الثاني استعرضنا بعض الاسباب التي تدفع بعض الدول الاقليمية انتاج الفوضى في العراق.

في الجزء الثالث والاخير سنحاول رسم صورة جيوسياسية واضحة المعالم للمرحلة القادمة بكل ما تخفيه من مفاجآت يمكن ان تفرض نفسها على المشهدين السياسي والعسكري ليس على العراق وحده بل على امتداد منطقة الشرق الاوسط.

الموقع الجغرافي للعراق بين ايران وتركيا وسوريا والاردن والسعودية يضعها امام تحديات كبرى يمكن ان تفرض تغييرات جيوسياسية كبرى في ظل الفوضى العارمة التي تجتاح المنطقة، كما ان الروابط الجيوسياسية بين العراق من جهة وايران وتركيا وسوريا والسعودية من جهة أخرى – ديموغرافية واقتصادية وسياسية وثقافية وتاريخية - تفرض مجموعة من المحددات على دول المحيط اما في الذهاب الى تفاهمات شاملة او اشتباك متعدد الاطراف.

الوضع الراهن يشير الى اشتباك ايراني – تركي ناعم على مناطق النفوذ بعد ان قررت تركيا نقل طموحاتها الى المنطقة العربية، واشتباك حاد بين ايران والسعودية التي تسعى الى تغيير في موازين القوى بعد ان اصبحت معزولة وتتعرض لتهديدات من جهات قامت بتمويلهم ودعمهم بالمال والسلاح والفتوى الدينية.

في سياق المنافسة على النفوذ والسعي الى تغيير موازين القوى تعرض العراق الى هجمة شرسة من مجموعات تضم الارهاب متعدد الجنسيات - داعش، بقايا النظام الصدامي السابق من ضباط جيش وحرس جمهوري، جيش الطريقة النقشبندية، والعشائر التكفيرية التي برزت مؤخراً بعد غزوة الموصل (ليس معروفاً لحد الان حجم هذه العشائر وعددها وقوتها على الارض)، وتنظيمات سنية مسلحة بمسميات مختلفة ذات طابع مذهبي منها جيش المجاهدين وجيش السُنة، ثم جاءت الخطوة الغبية المتوقعة باعلان اقامة دولة الخلافة الاسلامية ومبايعة ابو بكر البغدادي خليفة على المسلمين، واستيلاء البشمركة على كركوك ومناطق اخرى متنازع عليها تساوي اكثر من 40% من حجم اقليم كردستان ومحاولات البرزاني الجدية اقامة كيان كردي مستقل بمباركة اقليمية ودولية في مقدمتهم اسرائيل. مقابل المشهد التراجيدي كان تفاعل العراقيين الواسع مع فتوى المرجعية. من هنا ننطلق في طرح سؤالين: الى اين يتجه العراق؟ وهل اصبح التقسيم امر واقع؟

عام 1982 كتب الصحفي الاسرائيلي والملحق السابق في وزارة الخارجية الاسرائيلية مقالا في مجلة كيفونيم التي يصدرها القسم الاعلامي في المنظمة الصهيونية العالمية بعنوان "استراتيجية لاسرائيل في الثمانينات".
المقال كان عبارة عن "رؤية" استراتيجية تدفع باتجاه "بلقنة" الدول العربية حتى تضمن اسرائيل تفوقها على كل دول المنطقة. الخطة تعمل على مسارين: العمل على تعزيز تفوق القوة العسكرية الاسرائيلية حتى تصبح قوة امبراطورية في المنطقة، والعمل على تقسيم الكيانات العربية الحالية الى كيانات اثنية وطائفية صغيرة وضعيفة تبرر وجودها العنصري كـ"دولة يهودية" نقية.

من المعروف ان الاستراتيجيين الاسرائيليين يرون العراق يشكل التحدي الاكبر لوجود دولتهم لذلك ورد اسم العراق في خطة يينون "حجر الزاوية" في بلقنة المنطقة العربية.
لتحقيق حلم اسرائيل الكبرى يجب التخلص من حدود سايكس بيكو واعادة تقسيم المنطقة الى دويلات على اساس اثني وطائفي. وفي نفس السنة كتب المراسل العسكري لصحيفة هاآرتز زئيف شيف "افضل ما يمكن ان يحدث لاسرائيل هو تقسيم العراق الى دولة شيعية ودولة سنية وانفصال الاكراد".

دولة كردستان: كيان مغلق لا يملك أيا من مقومات العيش بدون اعتراف من دول المحيط – تركيا وايران وسوريا والكيانين المزمع اقامتهما - الشيعي والسني. باستثناء تركيا التي يبدو انها تكيفت مع فكرة الدولة الكردية قبل "غزوة الموصل"، الدول الأخرى ترفض رفضاً قاطعاً انفصال اقليم كردستان لان العلاقات التاريخية مع اسرائيل تؤكد ان هذا الكيان سيكون حليفاً اساسياً لاسرائيل ضماناً لوجوده وموقع اسرائيلي متقدم.

الدولة المركزية في بغداد لا يمكن ان ترضى بالاستفتاء المسرحي لمسعود البرزاني وان كان مشروعه يملك حيثية شعبية، وبالتالي فان مشهد الحرب مع الكيان الكردي سيطغى على المشهد العام للمنطقة وسيجذب تركيا واسرائيل والولايات المتحدة الى تقديم الدعم العسكري للكيان الجديد.

افاد تقرير سري امريكي عن دخول 1500-2000 جندي تركي الى اقليم كردستان
مع بداية الازمة الحالية لدعم انفصال كردستان.
سوريا تدرك ان انفصال كردستان كحل نهائي للمعضلة الاثنية العراقية سيدفع باتجاه انفصال الشمال السوري واقامة دولة حلب وضم اكراد سوريا الى دولة البرزاني. هذا التوجه الكردي سيدفع باتجاه تحالف سوري – عراقي يقلب قواعد اللعبة الجيوسياسية.

الدولة الشيعية: تضم محافظات الجنوب وفيها 75% من نفط العراق، اي انها دولة غنية تملك كل مقومات الاستمرار، ولو صار التقسيم في المنطقة امر واقع، ستضم هذه الدولة المنطقة الشرقية من السعودية الغنية بالنفط بحسب خريطة الكولونيل الامريكي رالف بيترز التي لاقت استحساناً لدى الاستراتيجيين الامريكيين، وستضم ايضاً البحرين. وستكون ايران ضماناً لامنها واستقرارها. لكن ايران وشيعة العراق لا يرفضون هذه الجزرة المسمومة فقط، بل يصرون على وحدة الكيان العراقي على حاله. دولة كردستان ودولة الخلافة ستقلبان المعادلة وكل الرهانات الاقليمية والدولية رأساً على عقب وستوحدان العرب العراقيين، سنة وشيعة في مواجهة المشروع التقسيمي.

الدولة السنية: من الملاحظ ان تمدد داعش واخواتها على الارض كان على شكل احزمة يسهل تقطيع اوصال دولتهم الافتراضية، كما ان التحالف بين قوى تكفر بعضها البعض غير قابل للاستمرار وستشهد المناطق التي يسيطرون عليها حروب ضارية بدأت مؤشراتها في الانبار، ولكن الاهم ان دولتهم، دولة الخلافة الاسلامية، غير قابلة للعيش لانهم لا يملكون المقومات اللازمة لاقامة دولة بل يملكون الادوات الضرورية لتخريب دولة وهذا هو مشروعهم الاساسي وهدفهم النهائي الذي ينسجم مع مشروع اسرائيل الاستراتيجي.

الدولة السنية الداعشية ليست هدفاً بقدر ما هي مشروع له دور وظيفي لا يتجاوز اقامة "حاجز" او "جدار" يفصل محور المقاومة وممر لكل اصناف الارهاب الى سوريا والاردن التي افتقرت خلال السنوات الثلاث الماضية الى وجود رؤية واضحة يمكن من خلالها تحديد المخاطر التي تشكل تهديداً حقيقياً للدولة، وعدم وجود استراتيجية متماسكة لمواجهة المخاطر ما ساعد على وجود بيئة حاضنة أدت الى نمو التيار التكفيري في جنوب وشرق الاردن. لكن، اعلان دولة الخلافة وتكفير كل من لا يبايع ابو بكر البغدادي من المؤكد ان يؤدي الى فقدان داعش للبيئة الحاضنة لدى بعض العشائر السنية وبالتالي هذا التحالف سينقلب الى صراع دموي يضرب هذا الكيان الوهمي.

باتت السعودية تدرك أن أمنها القومي مهدد، وإذا نجح الحشد الهائل من المتطوعين تلبية لفتوى المرجعية وتأييد عشائر سنية للفتوى في دفع داعش، لا بد ان تغير من وجهتها نحو الاردن والسعودية كساحة جهادية بديلة. عندها لا بد ان تتراجع عن تعنتها وتتوقف عن اللعب على التوازنات وتكف عن محاولات استخدام الارهاب كورقة ضغط على ايران.

وإن كانت ضبابية الصورة تبعث على التشاؤم لكن يجب عدم السقوط في الاوهام التي يمكن ان يفرضها ما يسمى المجتمع الدولي على المجتمع العراقي. وإن كان بعض المحللين يضعونها في سياق "الامر الواقع"، لكن الاوهام شيء والقدرات العسكرية التي ستفرض نفسها على الارض شيء آخر. كياني كردستان والخلافة الاسلامية كيانان صنيعان لا يمكن القبول بهما وبالتالي ولدا ميتين.

 *رضا حرب - المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسية