محور المقاومة والنظام الأحادي القطب

محور المقاومة والنظام الأحادي القطب
الجمعة ٢١ نوفمبر ٢٠١٤ - ٠٦:٤٨ بتوقيت غرينتش

أعلنت الليبرالية الغربية عن انتصارها الحاسم في الحرب الباردة، التي وضعت أوزارها في بدايات عقد التسعينيات من القرن الماضي، اثر سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، فانطلق منظروا الليبرالية الغربية امثال فرانسيس فوكوياما يعلنون "نهاية التاريخ" واكتساح قيم الليبرالية العالم اجمع دون استثناء ، كقيم مطلقة.

الغرب الليبرالي وان حاول الظهور بمظهر المنتصر حينها، الا انه كان يعلم في نفس الوقت ان هذا الانتصار لن يكون ناجزا، دون تركيع القوة الجديدة التي ظهرت في الشرق، والى الجنوب من الاتحاد السوفيتي السابق تحديدا، والمتمثلة بجمهورية ايران الاسلامية، لما تحمله من مشروع حضاري ونهضوي، يمثل تهديدا للفكر الليبرالي وللمصالح غير المشروعة للغرب وامريكا في منطقة الشرق الاوسط والعالم.

تجربة الجمهورية الاسلامية في ايران ونموذجها المستمد من الاسلام الاصيل والقيم الانسانية والحضارة الشرقية، والتي تتقاسم جميعها مبادىء العدالة والمساواة والكرامة الانسانية والحرية ورفض الظلم والاستبداد، وهي مبادىء تصطدم لا محالة، بالفكر الليبرالي، الذي لا يدع أمام الآخر من خيار سوى التبعية العمياء والاضمحلال التدريجي، أو الابتلاع والاضمحلال الفوري.

ومن أجل مواجهة هذه التجربة الوليدة ومحاولة وأدها قبل ان تتجذر ويستوى عودها، رتب المطبخ الامريكي الاوضاع بالشكل الذي سمح بوصول رونالد ريغان أحد صقور اليمين الامريكي المتطرف الى البيت الابيض في عام 1981،  وكان صاحب استراتيجيته تقوم على استعادة الولايات المتحدة معظم المواقع التي خسرتها في العالم جراء سياسة الرئيس الامريكي جيمي كارتر.

صحيح ان الرئيس الامريكي رونالد ريغان نجح في توجيه ضربات قوية للاتحاد السوفيتي وحلفائه في العالم عندما قام بغزو غيرنادا، واحتل بنما وقناتها، وتدخل في نيكاراغوا وتشيلي، وتآمر على منغيستو هيلا ميريام في أثيوبيا، وعلى سامورا ميشيل في انغولا، الا انه فشل فشلا ذريعا في مواجهة الثورة الاسلامية والجمهورية الاسلامية في ايران، رغم ان المؤامرات التي احيكت لايران تجاوزت كل المؤامرات الامريكية مجتمعة ضد الدول والشعوب الاخرى في العالم  ومن بين هذه المؤامرات كانت الحرب التي فرضها النظام الصدامي على الجمهورية الاسلامية في ايران على مدى ثماني سنوات (1980-1988) بدعم وتحريض امريكي.

لما كان "العدو الجديد" لليبرالية الغربية، لديه مشروع حضاري يحمل كل العناصر المطلوبة لبناء تجربة حضارية تستنهض كل الامكانيات والطاقات الكامنة في الامة، وصيرورتها نهضة شاملة تعيد قبل كل شيء بناء الشخصية الاسلامية وفقا للتعاليم الاسلامية الاصيلة، وتنفخ فيها روح العزة والعنفوان والرفض للظلم والهوان (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين). ولما كان مثل هذا الانسان عزيزا رافضا للظلم فهو بالضرورة سينظر الى الكيان الصهيوني كعدو اول واخير له ، الامر الذي سيفسد على الغرب والصهيونية العالمية كل مشاريعها للنيل من الامة، لذا فمثل هذا المشروع يتناقض بالمرة مع الرؤية الليبرالية التي يريد الغرب تعميمها على العالم أجمع، لتحويل هذا العالم الى مجرد تابع لا يملك الا ان يقلد او يسكت.

وكما هو دأب الانظمة السياسية الامريكية والغربية، فلابد من استراتيجيات تتأدلج وتتشرعن بنظريات مفكري ومنظري الليبرالية الغربية، فهذه الانظمة لا تتحرك في فراغ او من فراغ، لذلك خرج منظر اليمين الامريكي صامويل هنتنجتون 1993 بنظرية "صراع الحضارات"، التي بين فيها ان الصراع في القرن الحادي والعشرين سيكون بين الحضارات وليس الدول القومية.

في الوقت الذي كانت المؤامرات الامريكية ضد الجمهورية الاسلامية في ايران، مثل فرض الحرب الصدامية الظالمة، وفرض الحظر الاقتصادي والتجاري، وإثارة القلائل والفتن القومية والمذهبية، وتنفيذ اغتيالات طالت مئات المسؤولين وآلالاف من المواطنين العاديين، ودعم وتسليح وتحريض المجموعات المسلحة المعادية للثورة، لا تتوقف ابدا، كانت ايران لا تزداد قوة على الصعد العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية فحسب، بل ساهمت في بناء محور، يحسب العالم اليوم له الف حساب، هو محور المقاومة الممتد من ايران واليمن والعراق مرورا بسوريا ولبنان وصولا الى فلسطين المحتلة، وهو المحور الذي افشل على مدى ثلاثة عقود كل المشاريع الصهيوامريكية العربية الرجعية في المنطقة ابتداء من الاحتلال الصهيوني للبنان عام 1982 ومرورا بمؤامرة الشرق الاوسط الجديد عام 2006 وانتهاء بمؤامرة اشعال فتنة "شيعية سنية".

ان النموذج الذي قدمته الجمهورية الاسلامية في ايران خلال اكثر من ثلاثة عقود، هو نموذج حضاري قبل كل شيء؛ في النظام السياسي والاجتماعي على الصعيد الداخلي، وفي نصرته للمستضعفين وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني والشعوب التواقة للتحرر على الصعيد العالمي، وفي مناهضته الاستكبار، كرمز للاستبداد والاستعباد، لذلك كان من الصعب على امريكا التي تعتبر اليوم رأس الاستكبار العالمي، ان تواجه الجمهورية الاسلامية في ايران، بوصفها نموذجا حضاريا يحتذي به من قبل شعوب العالم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية، من خلال سياسة الحظر والاغتيالات والحرب بالوكالة، لذلك قررت ان تفرض عليها وعلى محور المقاومة حربا من نوع آخر، وهي الحرب الطائفية القذرة، عبر استخدام أدواتها التي باتت مكشوفة للعالم وهي "القاعدة" و "داعش" و" النصرة" وباقي المجموعات التكفيرية الاخرى، التي تم تسليحها ودعمها لضرب هذا المحور المقاوم على امل ان يكون سلاح "الضد النوعي" هو السلاح الاكثر فتكا لهذا المحور.

لما كان النموذج الايراني، كنظام ومواقف، هو نموذج اسلامي اصيل، يتسامى على الطائفية والقومية، وبان هذا النموذج واتضح من خلال الموقف الايراني المبدئي والثابت من القضية الفلسطينية، لاسيما من فصائل المقاومة الاسلامية في غزة، وقد دفعت ايران بسبب ذلك اثمانا باهظة، دون ان يدفعها ذلك الى التراجع عن نصرة الشعب الفلسطيني المظلوم، او نصرة المستضعفين في العالم اجمع.

هذا الموقف الايراني الثابت من القضية الفلسطينية، والذي لم يأت من خلفيات مذهبية او طائفية، هو الذي أفشل المؤامرة الكبرى التي كانت تخطط لها امريكا والصهيونية والرجعية العربية، والمتمثلة في اظهار ما يجري اليوم في العراق وسوريا على انها "حرب بين الشيعة والسنة"، حيث ادركت الشعوب الاسلامية، لاسيما في سوريا والعراق ولبنان واليمن، ان ما يجري اليوم في ديارهم هي حرب بين شعوب المنطقة وبين عملاء امريكا والصهيونية والرجعية العربية، هدفها تدمير بلدان المنطقة وشرذمة شعوبها وهدر ثرواتها من اجل ضمان بقاء  "اسرائيل".

ان ما يجري الان في العراق حيث يسيطر الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي وابناء العشائر في غرب العراق الانتصارات تلو الانتصارات، وان خبر النصر الاكبر المتمثل بتحرير الموصل قد يزف في اي لحظة. وما يجري في سوريا حيث يسجل الجيش السوري كل يوم انتصارا جديدا على القوى الظلامية، بتلاحم جهود الحكومة والشعب والقوى الوطنية، بعد ان سقط القناع عن تلك الوجوه التي كانت تسوقها لنا الفضائيات العربية الخليجية على انها معارضة ثورية. وما يجري في لبنان بعد ان اثبتت الايام حكمة وحنكة قيادة حزب الله عندما قررت منازلة التكفيريين في سوريا قبل ان يهددوا لبنان بمختلف طوائفه، حيث تغير اليوم موقف الكثير من التيارات والشخصيات السياسية والدينية والاعلامية، التي كانت تنتقد موقف حزب الله من سوريا، فاذا بها اليوم تشكر شباب حزب الله لابعادهم خطر التكفيريين عن لبنان.

ومايجري في اليمن بعد كل الحرب الاعلامية والنفسية التي شنها ويشنها الاعلام الخليجي على انصار الله واظهار ما يجري هناك على انه حرب طائفية بين "الشيعة والسنة"، فاذا بالاخبار القادمة من اليمن تؤكد تبتى اغلب قطاعات الشعب اليمني لمواقف حركة انصار الله، التي انقذت اليمن من الانزلاق نحو الفوضى، عبر تحشيد القوى الوطنية في اليمن والعمل على تغيير الحكومة باسلوب حضاري، لاقي ترحيبا عالميا، حيث تم طرد العناصر الفاسدة من راس السلطة وتشكيل حكومة كفاءات وطنية، بالاضافة الى العمل على تطهير اليمن من عصابات القاعدة التي عاثت في اليمن فسادا، كل ذلك بتظافر جهود حركة انصار الله وباقي التنظيمات والحركات والفعاليات السياسية اليمنية. كل هذه التطورات التي تجري في العراق وسوريا ولبنان واليمن تؤكد ان محور المقاومة اصبح رقما قويا جدا في المعادلة الاقليمية وحتى الدولية، وانه لا يمكن تجاهل هذا المحور الذي فرض نفسه كقوة مدافعة عن مصالح شعوب المنطقة ضد الاطماع الامريكية، والغطرسة الصهيونية، وانباطحية الانظمة العربية الرجعية.

ان النموذج الحضاري الذي قدمته ايران، هو الذي دفع منظر اليمين الامريكي هنتنجتون الى اطلاق نظرية "صراع الحضارات"، رغم ان لا صراع بين الحضارات، بل صراع بين مصالح مشروعة لشعوب العالم المستضعفة وبين مصالح غير المشروعة للنظام الراسمالي المتوحش، الذي ظن يوما ان العالم اصبح يدور حول قطبه الاوحد، بعد تمكن من هزيمة الشوعية في عقر دارها، وضمن بذلك استمرار وجود الكيان الصهيوني في منطقة الشرق الاوسط باعتباره متدادا جغرافيا لليبرالية الغربية،  دون ان يدور في خلده ان ينهض من ركام الشرق نموذجا، لن يهدد المصالح غير المشروعة للغرب في المنطقة والعالم الاسلامي فحسب، بل يشكل تهديدا جديا للنظام الاحادي القطب، الذي ظنت امريكا انها اقامته على انقاض الاتحاد السوفيتي، رغم ان انهيار الاخير لم يكن بسبب قوة الفكر الليبرالي والراسمالية الغربية  بل بسبب السياسات الخاطئة للشوعية كما اشار الى ذلك الامام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) في رسالته الشهيرة الى اخر رؤساء الاتحاد السوفيتي ميخائيل كورباجوف.

ماجد حاتمي - alwaght