بين عهد الإمام علي للأشتر وعهد السيد السيستاني للعراقيين

بين عهد الإمام علي للأشتر وعهد السيد السيستاني للعراقيين
الأربعاء ١٨ فبراير ٢٠١٥ - ١٠:٣٨ بتوقيت غرينتش

وانا اعاني بكل وجودي من ظاهرة التصحر التي ضربت ربوع اخلاقنا، ومنظومة قيمنا، وينابيع معرفتنا، إثر ريح صفراء هبت علينا من صحراء العدم، وأحرقت ألفتنا وانشبت في نفوسنا الجدب، فاذا بصوت يتناهى الى مسامعي قادم من اعماق الانسان حيث روح الله، اشبه بقطرات الندى وهي تلامس وجهي وتداعب اطراف اصابعي، غسل عن وجهي تراب البؤس واليأس، ونهضت على قدمي، اتابع الصوت، انه صوت اكاد اجزم اني سمعته من قبل.

نعم انه صوت سليل الدوحة المحمدية، اُعطي العلم والحلم  والسماحة  والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، انه صوت سماحة السيد السيستاني. صوت الحق في مقابل الضلال، صوت العدل في مقابل الظلم، صوت التسامح في مقابل الانتقام، صوت الرحمة في مقابل الضغينة، صوت الانسانية في مقابل التوحش، صوت الرأفة في مقابل الحقد، صوت الوحدة في مقابل التشتت، صوت السمو في مقابل الضعة، صوت النور في مقابل الظلام .. صوت الحياة في مقابل الموت.

ففي الوقت الذي لا يعلو صوت في منطقتنا المنكوبة بالجماعات التكفيرية والتدخلات الاجنبية، على صوت فتاوى التكفير والقتل والذبح والسبي والحرق والحقد والبغضاء والاقصاء وصوت صراخ الضحايا، وصوت ازيز الطائرات والمدافع والمفخخات والانتقام، فاذا بصوت رحماني هو صوت السيد السيستاني، يأتي من مدينة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، النجف الاشرف، حيث يعيش في بيت قديم صغير في زقاق من ازقتها الضيقة، رافضا رغم كل وحشية "الدواعش" وفظاعاتهم، دعوات الانتقام، داعيا الى التمسك بنهج ائمة اهل البيت عليهم السلام، مقدما نصائح للمقاتلين العراقيين، من القوات المسلحة وقوات الحشد الشعبي، في اطار رسالة يجب ان تكتب بحروف من ذهب، وتكون ميثاقا وعهدا يلتزم به جميع المدافعين عن ارض وعرض العراق، اليوم وغدا والى الابد.

ففي يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر ربيع الآخر 1436 هـجرية المصادف للثاني عشر من شهر شباط / فبراير 2015  دعا السيد السيستاني العراقيين في عهده إليهم، الى التصدي لـ"داعش" والدفاع عن الاعراض والمقدسات، وعدم الانجرار وراء الانتقام، او التعامل مع الاخر، كما تتعامل "داعش".

ان عهد السيستاني للعراقيين، يتضمن معان دينية وانسانية واخلاقية غاية في الاهمية، تتطلب من النخب الفكرية في العالمين العربي والاسلامي، الوقوف امامها طويلا لاستجلاء غاياتها، والوقوف عند مقاصدها، واتخاذها منطلقا لمعرفة الموقف الحقيقي للاسلام الاصيل من الانسان والحياة، بعد ان ساهمت القراءات الخاطئة والتطبيقات المتخلفة في تشويه صورة الاسلام، حتى لدى الفرد المسلم ناهيك عن الاخر.

ومن اجل ان نقف على جانب من شخصية السيد السيستاني، ونظرته الاسلامية الى الانسان المسلم، مهما كان انتماؤه المذهبي، والى الانسان بشكل عام مهما كان دينه ومشربه، والى الاخر صديقا كان او عدوا محاربا، سنقتطف بعضا من وصاياه للعراقيين بهذا الشان، دون ان نعلق عليها، فهي نصوص تتحدث عن نفسها وتكشف عظمة شخصية قائلها، لنقرأ معاً:

-"الله الله في النفوس، فلا يُستحلّن التعرّض لها بغير ما أحلّه الله تعالى في حال من الاحوال، فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها وإحيائها".

-"الله الله في حرمات عامّة الناس ممن لم يقاتلوكم".

-"الله الله في اتهام الناس في دينهم نكاية بهم واستباحة لحرماتهم".

-"اعلموا إنّ من شهد الشهادتين كان مسلماً يُعصم دمُه ومالُه وإن وقع في بعض الضلالة وارتكب بعض البدعة، فما كلّ ضلالة بالتي توجب الكفر، ولا كلّ بدعة تؤدي إلى نفي صفة الاسلام عن صاحبها، وربما استوجب المرء القتل بفساد أو قصاص وكان مسلماً".

-"إياكم والتعرّض لغير المسلمين أيّاً كان دينه ومذهبه فإنّهم في كنف المسلمين وأمانهم، فمن تعرّض لحرماتهم كان خائناً غادراً".

-" الله الله في أموال الناس، فإنه لا يحل مال امرئ مسلم لغيره إلاّ بطيب نفسه، فمن استولى على مال غيـره غصـباً فإنّما حاز قطـعة من قطـع النيران".

-" الله الله في الحرمات كلّها، فإيّاكم والتعرّض لها أو انتهاك شيء منها بلسان أو يد، واحذروا أخذ امرئ بذنب غيره .. ولا تأخذوا بالظنّة وتشبهوه على أنفسكم بالحزم، فإنّ الحزم احتياط المرء في أمره، والظنة اعتداء على الغير بغير حجّة، ولا يحملّنكم بغض من تكرهونه على تجاوز".

-"لا تمنعوا قوماً من حقوقهم وإن أبغضوكم ما لم يقاتلوكم".

-"اعلموا أنّ أكثر من يقاتلكم إنّما وقع في الشبهة بتضليل آخرين، فلا تعينوا هؤلاء المضلّين بما يوجب قوّة الشبهة في أذهان الناس حتّى ينقلبوا أنصاراً لهم، بل ادرؤوها بحسن تصرّفكم ونصحكم واخذكم بالعدل والصفح في موضعه، وتجنب الظلم والإساءة والعدوان، فإنّ من درأ شبهة عن ذهن امرئ فكأنّه أحياه، ومن أوقع امرئ في شبهة من غير عذر فكأنه قتله".

-"لا يظنّن أحدٌ أن في الجور علاجاً لما لا يتعالج بالعدل، فإنّ ذلك ينشأُ عن ملاحظة بعض الوقائع بنظرة عاجلة إليها من غير انتباه إلى عواقب الأمور ونتائجها في المدى المتوسط والبعيد، ولا إطّلاع على سنن الحياة وتاريخ الأمم، حيث ينبّه ذلك على عظيم ما يخلفه الظلم من شحنٍ للنفوس ومشاعر العداء مما يهدّ المجتمع هدّاً، وقد ورد في الأثر: (أنّ من ضاق به العدل فإنّ الظلم به أضيق)، وفي أحداث التاريخ المعاصر عبرةٌ للمتأمل فيها، حيث نهج بعض الحكّام ظلم الناس تثبيتاً لدعائم ملكهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس، فأتاهم الله سبحانه من حيث لم يحتسبوا حتّى كأنّهم أزالوا ملكهم بأيديهم".

-"ولئن كان في بعض التثبّت وضبط النفس وإتمام الحجّة ــ رعاية للموازين والقيم النبيلة ــ بعض الخسارة العاجلة أحياناً فإنّه أكثر بركة وأحمد عاقبة وأرجى نتاجاً".

-"كونوا لمن قِبَلكم من الناس حماة ناصحين حتى يأمنوا جانبكم ويعينوكم على عدوّكم".

-"إيّاكم والتسرّع في مواقع الحذر فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، فإنّ أكثر ما يراهن عليه عدوّكم هو استرسالكم في مواقع الحذر بغير تروٍّ واندفاعكم من غير تحوّط ومهنيّة، واهتموا بتنظيم صفوفكم والتنسيق بين خطواتكم، ولا تتعجّلوا في خطوة قبل إنضاجها وإحكامها وتوفير ادواتها و مقتضياتها وضمان الثبات عليها والتمسك بنتائجها".

-"اعلموا أنكم لا تجدون أنصح من بعضكم لبعض إذا تصافيتم واجتمعتم فيما بينكم بالمعروف حتى وان اقتضى الصفح والتجاوز عن بعض الأخطاء بل الخطايا وإن كانت جليلة، فمن ظّن غريباً أنصح له من أهله وعشيرته وأهل بلده ووالاه من دونهم فقد توهّم، ومن جرّب من الأمور ما جُرّبت من قبل أوجبت له الندامة.

-"على الجميع أن يدعوا العصبيات الذميمة ويتمسّكوا بمكارم الأخلاق، فإنّ الله جعل الناس أقواماً وشعوباً ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع ويكون بعضهم عوناً للبعض الآخر, فلا تغلبنّكم الأفكار الضيقة والانانيات الشخصيّة، وقد علمتم ما حلّ بكم وبعامّة المسلمين في سائر بلادهم حتّى أصبحت طاقاتهم وقواهم وأموالهم وثرواتهم تُهدر في ضرب بعضهم لبعض، بدلاً من استثمارها في مجال تطوير العلوم واستنماء النعم وصلاح أحوال الناس. فاتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصّة، أمّا وقد وقعت الفتنة فحاولوا إطفاءها وتجنّبوا إذكاءها واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واعلموا أنّ الله إن يعلم في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، إنّ الله على كلّ شيء  قدير".

نكتفي بنقل هذا القدر من وصايا السيد السيستاني الى العراقيين الذين يقاتلون "داعش" في سوح الجهاد، ونتمنى على القارىء الكريم ان يعود الى النص الاصلي، عندها حتما سيقفز  سؤال في غاية الخطورة في ذهنه، وهو كيف يمكن ان تكون هذه الافكار الانسانية السمحاء، هي قراءة للاسلام، بينما تدعي "داعش" ايضا ان ما تقوم به من فظاعات هي ايضا قراءة للاسلام؟، كيف يمكن ان يجتمع هذان النقيضان في دين واحد؟، وهل حقا ان الاسلام يمكن ان يجمع بين هاتين القراءتين ؟.

للاسف الشديد ان ما نراه من تناقض عظيم بين هاتين القراءتين للاسلام ليس بالامر الجديد، فمثل هذا التناقض عاشه المسلمون الاوائل ايضا، ومن ابرز مشاهد هذا التناقض في قراءة الاسلام، تجسدت في تلك القراءة المشوهة التي تبناها الخوارج في صدر الاسلام وخروجهم على امام زمانهم امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الذي ابتلي بامثال الخوارج، كما ابتليت الامة اليوم بـ"داعش" ، فكانوا لايتورعون عن تكفير المسلمين وقتلهم ، واحدثوا فتنة كبرى في الاسلام، مازال المسلمون يدفعون ثمنها حتى اليوم .

قراءة السيد السيستاني للاسلام هي قبس من قراءة امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وما عهده اليوم للعراقيين، الا رجعا لعهد الامام علي (عليه السلام) لمالك بن الحارث الأشتر  حين ولاه مصر، ويمكن سماع هذا الرجع ونحن نقرأ بعضا من وصايا الامام علي (عليه السلام) للأشتر، لنقرأ ونسمع:

--"إياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقها ! والله سبحانه مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد، لأن فيه قود البدن . وإن ابتليت بخطأ وأفرط عليك سوطك أو سيفك أو يدك بعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدي إلى أولياء المقتول حقهم. وإياك والإعجاب بنفسك والثقة بما يعجبك منها وحب الاطراء، فإن ذلك من أوثق فرص الشيطان في نفسه ليمحق ما يكون من إحسان المحسنين".

-"ولا تدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك.

-"إن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحُطْ عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعاً مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم ، من تعظيم الوفاء بالعهود . وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين ، لما استوبلوا من عواقب الغدر ! فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي. وقد جعل الله عهده وذمته أمناً أفضاه بين العباد برحمته، وحريما يسكنون إلى منعته ويستفيضون إلى جواره . فلا إدغال ولا مدالسة ولا خداع فيه".

-"لا تندمن على عفو، ولا تبجحن بعقوبة، ولا تسرعن إلى بادرة وجدت منها مندوحة، ولا تقولن إني مؤمر آمر فأطاع فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين، وتقرب من الغير".

-"أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته".

هذه قبسات من عهد الامام علي (عليه السلام)، للاشتر، وهي وصايا من صميم الاسلام والقران والسنة النبوية، بل هي عينها.، وعلى نورها سار السيد السيستاني في عهده للمقاتلين العراقيين الذين يدفعون شر "داعش" عن وطنهم واهلهم،  هنا نسأل؛ اين قراءة الخوارج والتكفيريين من اسلام علي (عليه السلام) ؟، اليس الفرق بين القراءتين كالفرق بين الثرى والثريا ؟.الفرق بين القراءتين ميز بالتالي بين اتباعهما وانصارهما ، منذ صدر الاسلام وحتى اليوم، فاتباع الاولى التصقوا بالثرى ومازالوا، واتباع الثانية ناطحوا الثريا ومازالوا، ويكفي القاء نظرة سريعة الى ما تقوم به اليوم افرازات الخوارج والتكفيريين كالقاعدة و "داعش" و "النصرة" واخواتهن، في بلاد المسلمين من فظاعات، وبين ما يقوم به المتمسكون بقراءة اهل البيت (عليهم السلام)، عبر محورهم المقاوم الرافض لهيمنة المستكبرين، والواقف بوجه الصهاينة المجرمين، والداعم لاخوته في فلسطين، والمحارب للتكفيريين الذين شوهوا صورة الاسلام والمسلمين، هذه النظرة السريعة تكفي ليعرف الانسان أياً من هاتين القراءتين الصق بالاسلام، وبما جاء به نبي الاسلام (صلى الله عليه واله وسلم).

ماجد حاتمي / شفقنا