في ذكرى المولد الأغر للإمام الصادق عليه السلام

في ذكرى المولد الأغر للإمام الصادق عليه السلام
الإثنين ٢٨ ديسمبر ٢٠١٥ - ٠٨:٤٣ بتوقيت غرينتش

اتّفقت ذكرى مولد الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام، مع ذكرى مولد جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله.. فما أنْ حلّ السابع عشر من شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وثمانين من الهجرة النبوية الشريفة حتّى وُلد بالمدينة المنوّرة برعمٌ آخر من الشجرة النبويّة المباركة والدوحة الهاشميّة الطاهرة.. ذلك هو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلواتُ الله عليهم.. فزهر بيت الوحي والرسالة بهذا الوليد الزكيّ، وابتهجت قلوب أهل البيت وهي ترى غُرّته تشعّ نوراً وهدى وشرفاً وكرامة.

وهو المعصوم الثامن من أعلام الهداية الربانية في دين الإسلام، وكل مذاهب المسلمين مدينة إلى علمة وفقهه، كما ان الحضارة الانسانية في عصرنا هذا ترى نفسها مستظلة بظلال علومه ومعافه. وترعرع الصادق، في ظلال جده الإمام السجاد وابيه الامام الباقر عليهم السلام، وعنهما اخذ علوم الشريعة ومعارف الاسلام. وهکذا فان الصادق عليه السلام يشکل مع آبائه الطاهرين حلقات متواصلة مترابطة متفاعلة، حتی تتصل برسول الله صلی الله عليه وآله وسلم، فهي تشکل مدرسة وتجربة حية يتجسد فيه الاسلام الاصيل وتطبق فيها احکامه وتحفظ قيمه، وهو بذلك ينتهي الی رسول الله  (ص) وهو الوارث لعلومه ومعارفه.

من هنا کان الامام الصادق (ع) يحمل الاسلام بنقائه وصفاته کما نزل علی رسول الله (ص) وبلغه، ولذا قصده العلماء من کل مکان يبغون علمه ويرجون فضله حتی جاوز عدد تلاميذه الالاف الذين نقلوا العلم الی مختلف الديار فکان الصادق عليه السلام بحق محي السنة المحمدية ومجدد علوم الشريعة الالهية.

ان الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام عَلَم آخر من أعلام الهدى، قاد سفينة النجاة في بحر الفتن رغم تلاطم أمواج الظلم والاستبداد والانحراف عند الحكام والضياع عند الأمّة المسلمة.

کانت شخصية الامام العظيمة بما تجسد فيها من هدي الإسلام وبما حملت من نور تجذب الناس اليه وکان بما حمل من علم وفهم وخلق واخلاص لله تعالی يذکرهم بسيرة الرسول الاکرم (ص) والسابقين من أهل بيته عليهم السلام.  

عاش الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، في مرحلة تعتبر من أدق المراحل التاريخية الإسلامية في نواحيها السياسية والفكرية والاجتماعية.. فقد عاش من الناحية السياسية والاجتماعية مرحلةً مخضرمة تختصر في طياتها كل الظروف والأساليب في تشابهها واختلافها لدولتين لعبتا دوراً حسّاساً وخطيراً في التاريخ الإسلامي، هما دولة بني أمية ثم دولة بني العباس.

ورغم الاختلاف في سنة ولادته بين سنة ثمانين أو ثلاث وثمانين للهجرة فقد عاصر الإمام الصادق عليه السّلام الدولتين في هذه المدة الطويلة: "مع جده وأبيه اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه بعد جده تسع عشرة سنة وبعد أبيه أيام إمامته أربعاً وثلاثين سنة، وكان في أيام إمامته بقية ملك هشام بن عبد الملك، وملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وملك يزيد بن الوليد الناقص، وملك إبراهيم بن الوليد وملك مروان بن محمد الحمار، ثم صارت المسوّدة (لاتّخاذهم شعار السواد) مع أبي مسلم سنة اثنتين وثلاثين ومئة فملك أبو العباس الملقب بالسفاح، ثم ملك أخوه أبو جعفر الملقب بالمنصور، وتوفي الصادق بعد عشر سنين من ملكه".

ففي حياة الامام الصادق عليه السّلام وفي اواخر الحکم الاموي ازداد ظلم الامويين واشتد إرهابهم وتعاظمت نقمة الامة عليهم وکان طبيعا- کما يشهد التاريخ- ان يکون آل البيت هم الطليعة والقيادة والشعار المحبوب لدی جماهير الامة.  لذا بدات الحرکة ضد الحکم الاموي باسم آل البيت، وأعلن دعاتها انهم يدعون لعودة الخلافة والامامة لاصحابها الشرعيين، وانهم يدعون الی الرضا من آل محمد (ص) اي إلی من هو أهل للإمامة والخلافة من ذرية فاطمة بنت محمد رسول الله صلی الله عليه وآله وسلم. ومع ذلك فاننا نشهد بُعد الإمام الصادق عليه السلام عن هذه المعرکة وانسحابه من المواجهة المکشوفة لانه کان يعرف النتائج ستنتهي اليه الحوادث، فهو يعرف ان الشعارات زائفة والدعوة مبطنة ليست صادقة في مدعاها وان أهل البيت سيکونون هم الضحية بعد ان يسيطر العباسيون علی الحکم لذا حذر العلويين من الاندفاع خلف الشعارت والانخداع بها. وصدق الإمام عليه السلام، فقد وقع ما اخبر وحدث ماکان يحذر منه. وقد عاصر الامام کل الادوار السياسية في تلك الفترة وشاهد بنفسه محنة آل البيت عليهم السلام وآلام الامة وآهاتها وشکواها، الا انه لم يکن ليملك القدرة علی التحرك ولم يستطع المواجهة لاسباب عديدة.  لذا راح الإمام عليه السّلام، يربي العلماء وجماهير الامة علی مقاطعة الحکام الظلمة ومقاومتهم عن طريق نشر الوعي العقائدي والسياسي والتفقه في احکام الشريعة ومفاهيمها ويثبت لهم المعالم والاسس الشرعية والواضحة کقوله عليه السلام: (العامل بالظلم والمعين له والراضي به شرکاء ثلاثتهم).

بعد سقوط الدولة الاموية واستيلاء العباسيين تنکر العباسيون لآل البيت عليهم السلام وراحوا يفتکون بهم بعد ان کانت دعوتهم تتستر تحت شعار الدفاع عن آل البيت (ع) وتعرض مظلوميتهم وتستميل الناس بحبهم. وعانی العلويون اشد المعاناة کما عانی غيرهم من ظلم بني العباس وجورهم واستبدادهم حتی ان خليفتهم الاول (ابا العباس) سمي بالسفاح لکثرة ما اراق من دماء واشتدت المحنة علی الإمام الصادق عليه السلام وضيق عليه. وحينما تولی أبو جعفر المنصور الخلافة ازدادت مخاوفه من الامام الصادق (ع) واشتد حسده لتفوق شخصية الإمام عليه السّلام وعلى منزلته في النفوس وذيوع اسمه في الآفاق وشموخ مکانته العلمية. لذلك عمد المنصور إلی استدعاء الامام الصادق (ع) وجلبه من المدينة الی العراق عدة مرات ليحقق معه ويتاکد من عدم قيادته لحرکات سرية ضد الحکم العباسي. وکم حاول المنصور ان يستميل الإمام الصادق (ع) إلی جانبه، إلا انه فشل لان الامام عليه السلام کان يفرض مقاطعة علی الحکم العباسي وکان يعرف ان مقاطعته ترسم موقفا شرعيا للمسلمين وتکشف انحراف السلطة فتضعف مرکزها في النفوس. فقد روی ابن طاووس في کتابه نهج الدعوات، ان المنصور استدعی الإمام الصادق (ع) سبع مرات لفتك به ونجاه الله من کيده. هکذا عاش الامام الصادق عليه السلام هذه الاجواء السياسية المضطربة في جو مشحون بالعداء والارهاب والتجسس والملاحقة إلا انه استطاع بحکمته وقوة عزيمته ان يؤدي رسالته وان يفجر ينابيع العلم والمعرفة ويخرج جيلا من العلماء والفقهاء والمتکلمين. عمل الامام الصادق عليه السلام على حماية العقيدة الاسلامية من التيارات العقائدية والفلسفية والالحادية والمقولات الضالة کالزنادقة والغلو والتاويلات الاعتقادية التي لاتنسجم وعقيدة التوحيد. ثم قام عليه السلام بنشر الإسلام وتوسيع دائرة الفقه والتشريع وتثبيت معالمها، وحفظ اصالتها إذ لم يرو عن احد الحديث ولم يؤخذ عن امام من الفقه والاحکام ما اخد عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام. ولا شك أن الخطوات التي سعى الصادق عليه السّلام، بها لتأدية دوره الأساسي لم تقتصر على أسلوب واحد في تبليغ رسالة جده صلّى الله عليه وآله، بل لم يترك الصادق فرصة سانحة ولا وسيلة ممكنة أو مناسبة إلا واتّبعها لتحقيق ذلك الغرض. ويكفينا دليلاً على ذلك مناظراته مع العلماء ومع المبتدعين من الزنادقة والملحدين والمشككين بدين الله، وجلساته الوعظية والتبليغية من على منبر جده صلّى الله عليه وآله ليُعلّم الناس علوم الإسلام والقرآن من فقه ورواية وحديث وتفسير وبيان وأخلاق وعرفان، وكل ما يحتاجه المسلم في حياته، إلى إرشاداته العلمية المحضة كالطب والكيمياء وغيرهما، فكان بعض تلامذته أن برع به واشتهر كهشام بن الحكم وجابر بن حيّان وغيرهما كثير.

اخيرا دُس إلى الإمام الصادق عليه السلام السم في زمن الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور الدوانيقي، فاستشهد  مسموماً في الخامس والعشرين من شوال 148 هـ، وکانت شهادته عليه السلام بالمدينة المنورة ودفن في مقبرة البقيع مع ابيه وجده وجدته فاطمة الزهراء عليها السلام ومع عمه الحسن السبط بن علي عليه السلام.  
ومن وصايا وحكم الامام الصادق عليه السلام:
* إعلمْ أنّ الصلاة حُجزة الله في الأرض، فمَن أحبّ أن يعلم ما يُدرِك من نفع صلاته فلْينظر.. فإن كانت صلاتُه حَجَزتْه عن الفواحش والمنكر، فإنّما أدرك مِن نفعها بقَدْر ما احتجز. ومَن أحبّ أن يعلم ما له عند الله، فلْيعلَمْ ما لله عنده. ومَن خلا بعمل فلْينظر فيه.. فإن كان حسَناً جميلاً فلْيَمضِ عليه، وإن كان سيّئاً قبيحاً فلْيجتنبْه، فإنّ الله عزّوجلّ أولى بالوفاء والزيادة. مَن عمِل سيّئةً في السرّ فلْيعملْ حسنةً في السرّ، ومَن عمل سيئةً في العلانية فليعملْ حسنةً في العلانية.
* البنات حسنات، والبنون نِعَم.. والحسناتُ يُثاب عليها، والنِّعم مسؤول عنها.
* صلة الأرحام مَنْسأة في الأعمار، وحُسن الجوار عمارةٌ للدنيا، وصدقة السرّ مَثْراةٌ للمال.
* ثلاثةٌ لا يَزيد اللهُ بها المرءَ المسلم إلاّ عِزّاً: الصفحُ عمّن ظلمه، والإعطاء لمَن حَرَمه، والصلة لمَن قطعه.
* مَن كان الحزمُ حارسَه، والصدق جليسَه.. عظُمتْ بهجتُه، وتمّت مروّته. ومَن كان الهوى مالكَه، والعجزُ راحتَه.. عاقاه عن السلامة، وأسْلَماه إلى الهلكة.
* ثلاثةٌ مَن تمسّك بهنّ نال من الدنيا والآخرة بُغيتَه: مَن اعتصم بالله، ورضيَ بقضاء الله، وأحسنَ الظنَّ بالله.
* ثلاثةٌ تُورِث المحبّة: الدِّين، والتواضع، والبذل.
* ثلاثةٌ تُزري بالمرء: الحسد، والنميمة، والطيش.
* النجاة في ثلاث: تُمسِكُ عليك لسانَك، ويَسَعُك بيتُك، وتندم على خطيئتك.
فسلام عليه وعلى الائمة الهداة الميامين من آبائه وأبنائه، سلاما دائما مع الخالدين. 

تصنيف :