الرياض تلزم باريس بأولوية مواجهة "الخطر الإيراني" لبنانياً

الهبة السعودية: تسليح الجيش أم مصادرة قراره؟

الهبة السعودية: تسليح الجيش أم مصادرة قراره؟
السبت ١٦ يناير ٢٠١٦ - ٠٧:٥٢ بتوقيت غرينتش

صفقة الهبة السعودية للجيش اللبناني عن طريق فرنسا في الطريق الى التحقق.

المفاوضات انتهت، الاتفاقات مع شركات التصنيع أُبرمت، بل إن عدداً منها تلقت الدفعات الأولى لإطلاق عمليات التصنيع واحترام رزنامة التسليم، والأرجح أن يختم الشهر الحالي على اكتمال الصفقات والاتفاقات، ودفع المقدم مع الشركات كافة، على أن تسلم الدفعة الثانية في الربيع المقبل، وتتضمن ألبسة عسكرية وأجهزة اتصال حسب مصادر فرنسية.

الأسئلة كثيرة إزاء صفقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الجيش اللبناني منذ الاستقلال حتى الآن. ففي سياق أية استراتيجية دفاعية تندرج، أو بسؤال أوضح، هل هدف «الأوصياء» هو مواجهة الخطر الإرهابي او الإسرائيلي أم «الخطر الإيراني»، وأية أولويات تعكس هذه الخيارات التسلحية، وهل كان بالإمكان أفضل مما كان؟

الإجابات متعددة، لكنها تفضي إلى «لا» كبيرة. فالواهب السعودي كبّل اللبنانيين بشروطه، واضعاً القرار السيادي اللبناني بيده، وفي خدمة حساباته الإقليمية، وعلى رأسها محاصرة «حزب الله» داخلياً، وإجباره على الانكفاء من سوريا، نحو لبنان، بأي ثمن.

لم يترك الواهب السعودي للبنانيين سوى حرية اختيار لائحة المشتريات المرتفعة الثمن مقارنة بما تعرضه أسواق الأسلحة، بلا انسجام بين مكوناتها، فضلاً عن عدم استجابتها للنقاش المستمر في لبنان حول الاستراتيجية الدفاعية منذ العام 2006 حتى الآن، حتى صح القول إن اللبنانيين كانوا محكومين بالذهاب الى سوق التسلح الفرنسي وحده، تحت سقف الخيارات السعودية، التي حوّلت الهبة الى هدية للفرنسيين عبر شراء أسلحتهم، أكثر مما هي هبة تلبي احتياجات المؤسسة العسكرية. ذلك أن البعد الآخر للهبة، يندرج أيضاً في إطار حرص السعودية على مكافأة الديبلوماسية الفرنسية، بصفقات السلاح، على خدماتها الكثيرة في التشدد خلال مفاوضات الملف النووي الإيراني، والتحالف من دون شروط في مواجهة الرئيس السوري بشار الأسد.

ولقد خيّمت «عقيدة التسلح» على مسيرة هذه الهبة، منذ السؤال الذي وجهه الملك السعودي الراحل عبدالله بن عبد العزيز لضيفه الرئيس اللبناني السابق ميشال سليمان في خريف العام 2013، «لماذا لا يمنع الجيش اللبناني «حزب الله» من تجاوز الحدود اللبنانية (اعتراضاً على تدخل الحزب في سوريا)، ليتولى سعد الحريري شرح قلة حيلة الجيش اللبناني، وهو ما دفع الملك الراحل إلى إصدار أمر ملكي بمنح مكرمة الـ 3 مليارات دولار من الأسلحة الفرنسية حصراً، حتى يتمكن جيش لبنان من الوقوف مستقبلاً في وجه «حزب الله»!

وكان بديهياً أن تكون الأهداف التسلحية للهبة انعكاساً لمزاج ملكي عدائي لإيران وأذرعتها الإقليمية، وأبرزها «حزب الله»، لأن القرار السياسي بالتسلح، وليس التمويل فحسب، بقي سعودياً إلى حد كبير، بدليل أن الهبة لم تستقر، بعد تعرجات وتعقيدات كثيرة، إلا بعد إعادة صياغتها من قبل فريق ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.. ودائماً بعد محاولة تبديد الهاجس الأكبر: التحكم ما أمكن بمستقبل هذه الأسلحة حتى بعد شرائها وتخزينها، وتسليمها إلى الجيش اللبناني.

وليس قليلاً أن يحصل السعوديون على ضمانات بتعطيل ما يمكن تعطيله عن بعد للمعدات، من دون أن يكون للبنانيين كلمتهم بالمناسبة، وهو ما يرهن للمرة الأولى جزءاً من الدفاع الوطني والقرار السيادي اللبناني لكبسة زر الحسابات الإقليمية السعودية، التي قد تتسع لتشمل أطرافاً أخرى ولا تتوقف عند «حزب الله». ولا توجد أي ضمانات بألا يطلب السعوديون تعطيل أي جزء من الأسلحة، مهما تدنت أهميتها، إذا ما تطلبت مصالحهم أو التطورات الإقليمية ذلك، ما يضع مفاتيح كل ما يحصل عليه الجيش بيد الواهب السعودي و «المفبرك» الفرنسي!

الخيارات التسلحية لا تحدد عدواً واضحاً ولا تعكس عقيدة متكاملة، ولا تستجيب إلا إلى همّ واحد: تجهيز الجيش كيفما اتُفق وبمكونات متناقضة الاستخدام والأهداف. فالجيش اللبناني لم يتسلم أية أسلحة هجومية، لا جواً ولا براً ولا حتى بحراً برغم أن الزوارق الثلاثة التي ستصنعها شركة اسكندر صفا («النورماندي») هي زوارق هجومية في الأصل، قبل ان يتم تعديلها، ونزع صواريخها، وتزويدها بمدافع 75 ملم و30 ملم. وهذا السلاح هو الوحيد الهجومي في الصفقة، لكن ليس مفهوماً تماماً كيف سيتم شراء 3 قوارب هجومية «كومباتينت اف اس 46»، بـ 200 مليون يورو، على أن تكون قادرة على تغطية جبهة البحر المتوسط بمدى 2600 ميل بحري، فهل يضع الجيش اللبناني احتمال شن حروب بحرية بهذا الاتساع؟

كما أن هذه الزوارق قادرة على تنفيذ هجمات بحرية سريعة وتتمتع بمزايا خفية وبضآلة بصْمَتها الرادارية، فلماذا يوافق لبنان على نزع تسليحها وهو ميزة تفوّقها، أي الصواريخ المخصصة لحماية الزوارق نفسها، الأمر الذي يهدد بتحويلها الى مجرد زوارق مكلفة.. للسباق البحري!.

إن هذه الزوارق التي جرى تصميمها في العام 2013 لم تجد مشترياً آخر غير لبنان حتى الآن، فما هو الدافع لشرائها برغم عدم تناسبها مع أهداف البحرية اللبنانية، وأبرزها غياب البنى التحتية للصيانة، وحاجتها إلى أحواض جافة غير متوفرة حالياً في القواعد العسكرية في لبنان.

الجواب أنه لم يجر استخلاص دروس حرب تموز لبنانياً، بقدر ما جرى استخلاصها إسرائيلياً، خصوصاً في ما يتعلق بالشواطئ وحمايتها، ففي 14 تموز 2006 دمر صاروخ «سي 802» (مداه 40 كلم) سفينة «حانيت»(طراز ساعر 5) الإسرائيلية قبالة بيروت، لتثبت المقاومة أنه بوسع صاروخ فعّال، وقليل الكلفة، أن يدمر سفينة حديثة وعالية الكلفة. وإذا كان صحيحاً أن المقاومة باتت تملك صواريخ «ياخونت» اليوم، كما تروّج إسرائيل، فالأرجح أن هذه الصواريخ التي يبلغ مداها 300 كلم، تشكل أحد الخيارات التي كان يمكن اللجوء إليها.

الرادارات التي سيتسلمها الجيش اللبناني لن تكون متزاوجة مع نظام دفاعي صاروخي، والمروحيات السبع التي ستحملها الصفقة، برغم تعدد مهامها مبدئياً، إلا أنها لن تكون أكثر من مروحيات لنقل الجنود (من 10 الى 20). وينبغي أيضاً مقارنة ما حصل عليه الجيش اللبناني من معدات، وما حصلت عليه جيوش دول أخرى، تشبهه حجماً ودوراً، كتونس مثلاً، من أجل محاولة فهم طبيعة صفقة المروحيات، وكيف تم التفاوض حولها، وينبغي النظر الى خيارات لبنان التسلحية من زاوية ما اشتراه الآخرون من أسلحة تستجيب لعمليات الدفاع، أو الهجوم، بشكل أفضل، ودائماً على قاعدة أولوية عنصر السيادة الوطنية.

فهل كان من الممكن، لو كان قرار الشراء لبنانياً، الحصول على تجانس في المعدات والوظيفة؟ الجواب نعم، وهذه بعض المقارنات على سبيل المثال لا الحصر.

لبنان يتسلم سبع مروحيات «غوجر» التي بلغ سعرها 350 مليون يورو، ومن المنتظر ان تستمر في الخدمة من 20 الى 30 سنة تبعاً لصيانتها.عند المقارنة، يتبين أن تونس اشترت بالسعر نفسه «سوبر غوجر» (300 مليون يورو)، لقاء ست مروحيات لنموذج أكثر تطوراً، بدأ تصنيعه في العام 2005، وهو قادر على حمل 28 جندياً ويحتوي على تقنيات أكثر تقدماً. العراق تعاقد على شراء 15 نموذجاً من المروحيات الروسية الناقلة للجند والمتعددة المهام بكلفة 15 مليون دولار للمروحية الواحدة، وهي تنقل 27 جندياً وصواريخ موجهة وحمولة 9 أطنان مقابل نصف الحمولة في «غوجر». وتستخدم مصر نماذج من الناقلات الروسية منذ السبعينيات، أي أن هذه المروحيات لا تزال في الخدمة منذ 45 عاماً، مع مواصلة الجيش المصري توفير صيانة عالية المستوى لأسطوله الروسي من هذه الطائرات.
الجيش اللبناني سيحصل على مئة عربة «شيربا» لنقل الجند مزودة بمدافع رشاشة من عيار 12.7 ملم. البرازيل، الهند، مصر، تشيلي تعاقدت أيضاً على شرائها. العربة الفرنسية نسخة مُحسّنة عن «هامفي» الأميركية وتكلف الواحدة منها مليون يورو. النسخة الأميركية الأقرب إليها هي «أوشكوش» وتكلف 470 ألف دولار، وتتفوق عليها بتصفيحها من الأسفل، ومقاومتها للعبوات الناسفة والألغام. هذه العربة استخدمتها دولة الإمارات على نطاق واسع في اليمن، وتعاقدت إسرائيل على شرائها ولجأ إليها الجيش المصري لقمع تظاهرات ميدان التحرير قبل خمس سنوات.

أما «نكستر» الفرنسية التي ستصنع 24 مدفع «سيزار» من عيار 155 ملم للجيش اللبناني، مقابل 150 مليون يورو (4 ملايين يورو للواحد)، فقد تبين أنها باعت 37 مدفعاً إلى إندونيسيا بقيمة 240 مليون دولار.

واللافت للانتباه أن «تالس» تأخذ بالاعتبار في تصنيعها للجيش اللبناني 100 صاروخ «ميسترال» (150 مليون يورو) أنها يمكن أن تستهدف على الأغلب المروحيات لا المقاتلات التي تحلق على ارتفاعات عالية جداً، من دون أن يكون للبنان غطاء جوي فعّال، او حقيقي، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية الدائمة للأجواء اللبنانية. كما ستعيد «تالس» بناء القاعدة التحتية للرادارات العسكرية اللبنانية عبر ثلاث منظومات أهمها «غراوند ماستر 200» المركب من ثلاثة رادارات، وتبلغ كلفتها مع المنظومة المدنية الأولى 200 مليون يورو. غير أن هذا النظام لن يكون مرتبطاً بأي نظام دفاع جوي حقيقي، وغير معروف عنه ما إذا كان قادراً على مقاومة التشويش، وهو عنصر مهم جداً في عمليات التقصي الجوي، ولن يكون قادراً على التقاط الطائرات الخفية.

أما صواريخ «ميلان» من الجيل الثاني المضادة للدروع، فمن المقرر أن يتسلم لبنان منها مئة صاروخ إضافي، كي يكتمل هذا الجزء من الصفقة بعدما كان قد تسلم 48 صاروخاً في نيسان 2015. لكن 148 صاروخاً لن تكون كافية لرد تهديدات إرهابية من أي نوع أتت.

في السياق نفسه، نقلت وكالة «فرانس برس» تأكيد مصدر مقرب من وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان لكل ما أوردته «السفير» (عدد أمس) وقوله بوجود توافق فرنسي سعودي «على أن من مصلحتنا أن يبقى لبنان بمنأى عن الأزمة السورية»، وأن الوسيلة المفضلة لتحقيق ذلك «هي تعزيز المؤسسات العابرة للطوائف في هذا البلد بدءاً من الجيش اللبناني».

محمد بلوط / السفير