الإمام الخميني (ره) ليس مجرد رجل دين ثائر

الإمام الخميني (ره) ليس مجرد رجل دين ثائر
السبت ٢٧ فبراير ٢٠١٦ - ٠٣:٥٨ بتوقيت غرينتش

تروي الإعلامية البحرينية، وفاء العم، زيارتها لبيت مفجر الثورة الاسلامية في ايران الامام الخميني (ره).

هناك في جمران، ذلك الحي المتواضع في طهران، حي كلما أسرعت قدماك الخطى في زقاقه ازداد تواضعاً، على يمين الزقاق ثلاثة او أربعة دكاكين، وعلى يساره بيوت تعود في بنائها لثمانينات القرن المنصرم.

أسال بالعربية "أين بيت الإمام"! والحقيقة أنه لا فرق إن كنت تتحدث العربية أو الانكليزية في حي كهذا فالاشارة هي لغة التواصل فحسب.

في الأفق القريب من ذلك الزقاق يبرز حضور عدد من الحرّاس.

أصل إلى الباحة الخارجية للمنزل حيث الإجراءات الأمنية الروتينية للتفتيش فهذا بيت مُفجّر الثورة.

تسألني المفتشة النسائية ذات الشادور الأسود، عن هويتي، أخبرها بأني بحرينية، تفرد حاجبيها فيحيل الوجه الجاد إلى مبتسم نضر، تقولها مع المد في حرف الراء "بهرين".. نتبادل الابتسامة ونعود حينها إلى لغة الإشارة، تخبرني بأنه علي أن اتّجه يميناً.

اعتدت هذا التعليق منذ وصولي طهران، يكنّون محبة خاصة للبحرينيين، اعتدت تلك اللكنة الممدودة في لفظة البحرين.. في الأسواق أحصل على سعر خاص وسائقو الأجرة يبدون لطفاً مضاعفاً مقارنة ببقية الزملاء.

بضعة أمتار من المشي داخل بهو المنزل هناك حسينية جمران وخلفها مباشرة بيت الإمام.

أدخل الباحة وأقف أمام منزله، يفصل بيني وبين غرفة الاستقبال حاجز زجاجي، غرفة صغيرة في زاويتها اليسرى كرسي عريض قبالته كرسي من خشب، في تلك الغرفة اسُتقبل كبار القادة.. جامدة متأملة أقف! كيف أدار هذا الرجل وطناً يعيش الثورة من منزل في أكثر الأحياء تواضعاً في العاصمة.

من جمران ومن هذا المنزل وصلت أصداء الثورة إلى البحرين والبلدان الخليجية الاخرى، رأى فيها البعض ربيعاً إيرانياً ربما ينسحب ليكون ربيعاً خليجياً وعربياً.. حقيقة ألقت الثورة بظلالها علينا فأحالت واقعنا في الثمانينات سنوات من الظلال – اتحدث عن البحرين تحديداً-.

واضح أن البيت أُبقي على حاله، حتى بعض المقتنيات الخاصة بالإمام في مكانها.

أغادر المنزل والتساؤلات تلاحقني.. أعود أدراجي إلى حيث البهو الكبير، أدخل حسينية جمران.

هذه الحسينية وذلك المنبر ذو الخلفية الزرقاء، على الطريقة الإيرانية، يجلس المرشد على منصّة مبالغة العلو، تكاد تشبه المسرح المعلّق، ويجلس المريدون والمحبّون والمؤمنون على الأرض لتلقي الخطب.

في جانب الحسينية متحف، فيه مقتنيات آية الله، ومن بينها جوازا سفر، أحدهما في عصر الشاه الذي أصدر فيه حكماً بالإعدام، لولا بيان للمرجعيات الدينية حينها أعلنوا فيه مرجعية الإمام الخميني، حيث كان الدستور الإيراني في عهد الشاه محمّد رضا بهلوي يمنع محاكمة رجال الدين وإعدامهم، والآخر في عهده حينما أصبح أول مرشد للجمهورية الإسلامية.

تتجلّى التساؤلات أمام الصور المُعلّقة في المتحف، كيف استطاع آية الله أن يُفجّر هذا الكم من البشر في الشوارع، ربما وحده غوستاف لوبون في كتابه "سيكلوجيا الجماهير" يقدّم إجابة للحال الإيرانية، تنتابني حال انبهار يبدو واضحاً أن الصورة الفوتوغرافية كانت أعجز من التقاط تلك اللحظة التاريخية.

هذا الرجل ليس مجرد رجل دين ثائر، هو مُفكّر ومُنظّر، وصاحب نظرية ولاية الفقيه في عالمنا المعاصر، قاد مشروعه بكل حزم نحو الدولة بغضّ النظر عن كل المآخذ التي صاحبت الثورة أو حتى الثورة نفسها، هذا الرجل أراد بناء دولة دينية قوية أحببناها أم كهرهناها، ونجح.

حملت انبهاري معي إلى شوارع طهران حيث كنت أجوب سارحة بين شموخ جبالها وروعة مآذنها... كل شيء في هذه المدينة في ظاهره هويّة دينية، كل الشوارع باسم علماء دين وشهداء ومفكرين كانو القلب النابض للثورة...

في كل الأحوال تشريح الحال الإيرانية ليس بالأمر السهل، ولكن ليس من الصعب أيضاً تلمّس خصوصية هذا المجتمع وعلاقته بالمؤسسة الدينية.

علماء الدين فيها لم يكونوا يوماً على هامش السلطة، بل أن السلطة كانت دائماً ما تستمد شرعيتها على امتداد التاريخ من علماء الدين.

في إيران العلاقة بين السلطة والدين والمجتمع عضوية والمؤسسة الدينية تاريخياً قوية.

ولاية الفقيه لم تكن وحياً يوحى، بذرها الشيخ أحمد النراقي فقيه العصر القاجاري، ورويت بالنظريات إلى ان نضجت جذروها في عهد الإمام الخميني (ره).

تزخر هذه المؤسسة بالعلوم الدينية، مفكّرون ومنظّرون وعلماء، نظّروا في مفهومهم للدولة وقدّموا العديد من النظريات.

إنها سلطة حقيقة تعمل عامل التوازان في الداخل، يمنح علماء الدين الشرعية الدينية للحاكم ويعترف الحاكم بدوره بسلطة العلماء في الأمور الشرعية والحسبية.

انتفاضة التبغ يمكن الاستدلال بها على قوة علماء الدين، في عام 1848 عندما أراد الحاكم القاجاري حينها ناصر الدين منح امتيازات بيع التبغ إلى الشركات الأجنبية، من دون أن يولي آذاناً صاغية إلى الاعتراضات الشعبية وامتعاض التجّار.. ثار غضب المرجعية الدينية العليا آنذاك الشيخ محمد حسن الشيرازي وأصدر فتوى بتحريم تدخين التبغ.

هذه الفتوى لاقت صداها داخل القصر.. حتى أن زوجات الشاه رفضن تدخين التبغ أو إدخاله القصر انصياعا لفتوى الشيرازي، ما اضطر الشاه إلى إلغاء امتيازات الشركات البريطانية، بل والتعهّد بألا يتّخذ قراراً من دون استشارة الفقهاء.

إن هذه الانتفاضة مهّدت إلى الحركة "المشروطة" أو الحركة الدستورية في إيران، تحالف علماء الدين والمفكرين والمثقفين من أجل تأسيس أول حكم دستوري في تاريخها المعاصر.

ثلاثة أعوام بعدها قاد الشيخ الآخوند الخرساني ثورة ضد الشاه محمّد علي لأنه رفض الخضوع لمطالب الحركة الدستورية ما أدى إلى خلعه عن العرش.

إن التحوّل الحقيقي في العلاقة بين المؤسسة الدينية والسلطة في إيران، كان في عهد الإمام الخميني الذي حوّل عالِم الدين من طرف في ميزان السلطة ومانح للشرعية إلى الإمساك بزمامها مباشرة، هي باختصار سلطة الفقيه الحاكم.

تلك العلاقة العضوية أصبحت في ظل دولة المبادئ الثورية العابرة للحدود أكثر تجذّراً.

فلا تستغربوا إن وجدتم في إيران فقيهاً عالِماً في الدين وعالِماً في الذرّة وباحثاً في العلوم العسكرية ومفكراً في العلوم الإنسانية.

الرئيس حسن روحاني نموذج حاضر، هو الحاصل على درجة الاجتهاد الدينية، والحاصل على البكالوريوس في القانون القضائي، والماجستير والدكتوراه، هذا الرجل يُجيد خمس لغات، العربية والإنكليزية والألمانية والفرنسية والروسية.. له مؤلف مهم بعنوان" الأمن القومي والدبلوماسية النووية" إضافة إلى ما يقارب 14 مؤلفاً آخرين.

لقد ولدت ولاية الفقيه من قلب المجتمع الإيراني ومن صلب تكوينه الثقافي والحضاري القديم منه والحديث. جاءت من جوف النشاط الفكري الحوزوي المنظّر لدولة الإمام طوال عقود من الزمن.. ومنها قدّم الإيرانيون تجربتهم.

ربما لا يمكن أن نتجاوز أن كثيرين نظروا ومازالوا ينظرون بعين الريبة للتجربة الإيرانية، وأنا كنت واحدة من هؤلاء بحكم علمانيتي، ومحاولة فهمي لها لا يعني تأييدها مطلقاً، ولكنها تجربة من الضرورة قراءتها بتجرد.. من شكل الدولة إلى تقاسم السلطات وتوزيعها وآلية عملها.

محاكمة الإيرانيين في تجربتهم إجحاف في حقهم، لقد أصابوا وأخطأوا ومازالوا يبذلون المزيد فيها، أما نحن فلم نضع القدم الأولى بعد على عتبة التجربة.

أن نستخلص تجربتنا من عمق فهمنا لتاريخنا وحضارتنا وقيمنا المجتمعية وتراثنا بات أمراً مُلّحاً، فهل أبالغ عندما أقول إننا نقف أمام مفترق الفناء أو البقاء.. وأن النخب مطالبة أكثر من أي وقت مضى بمشروع لا يراعي خصوصية مجتمعاتنا، بل مشروع يمثل خصوصية تلك المجتمعات!

* وفاء العم/ الميادين

106