رسوم بطعم "القيمة المضافة"… وتجميد التقاعد والتوظيف: موازنة الترقيع!

رسوم بطعم
الثلاثاء ٢٨ مايو ٢٠١٩ - ٠٥:٠٩ بتوقيت غرينتش

انتهى مجلس الوزراء اللبناني أمس من دراسة مشروع الموازنة لعام 2019. في 99 مادة قررت الحكومة إصدار مشروع موازنة «ترقيعية».

العالم - لبنان

قصّ ولصق بهدف تحقيق شرط «سيدر»، بلا أيّ رؤية اقتصادية، وبلا مسّ بأصل الدَّين العام الذي سيبتلع وحده أكثر من 5.5 مليارات دولار. مشروع الموازنة انتقل إلى مجلس النواب حيث سيواجه اعتراضات شديدة، في الهيئة العامة، وفي الشارع!

بتأخير تجاوز سبعة أشهر عن الموعد الدستوري، وبعدَ عشرين جلسة وانقضاء نحو نصف عام، أنجزت الحكومة مشروع موازنة 2019 وأحالتها على مجلس النواب. موازنة تخلو من أي رؤية اقتصادية، هدفها الأول تحقيق شروط رعاة مؤتمر «سيدر»، ويخرج القيّمون عليها محتفين بإنجاز خفض العجز إلى أقل من 7.6 في المئة، نسبةً إلى الناتج المحلي. وكأن هذا الرقم حلّ سحري لأزمات البلاد، فيما هو، اقتصادياً، لا يعني شيئاً. موازنة تقشّفية، تسير عكس أي منطق اقتصادي. في البلاد التي تعاني من ركود اقتصادي، قررت الحكومة التقشّف. وبمقارنة بسيطة بين أرقام المشروع الذي أقره مجلس الوزراء أمس، والمسوّدة التي بدأ نقاشها قبل عشرين جلسة، يظهر أن الخفض الرئيسي طاول النفقات الاستثمارية، بنحو 400 مليار ليرة. البنية التحتية لا تحتاج إلى من يصف سوء حالها. رغم ذلك، قررت الحكومة خفض الاستثمار فيها، وإرجاء الإنفاق على عدد من المشاريع إلى سنوات مقبلة، بهدف التحايل لخفض العجز المتوقع. وفي البلاد التي يشكو تجارها تراجع الاستهلاك، ويشكو عموم السكان تراجع قدرتهم الشرائية، قررت الحكومة زيادة الرسوم التي تمسّ عموم السكان، وزيادة الاقتطاع من رواتب المتقاعدين، وتحميل هذه الرواتب عبء ضريبة الدخل، رغم أنهم سبق أن دفعوها قبل اقتطاع نسبة من رواتبهم قبل التقاعد.

أبرز الرسوم المفروضة، رسم بنسبة 2 في المئة على الاستيراد، وهو الرسم الذي يتوقع خبراء وسياسيون أن يكون له أثر شبيه بأثر رفع قيمة الضريبة على القيمة المضافة. الذريعة هنا هي حماية الصناعة المحلية، في بلاد لا طاقة مستقرة ورخيصة فيها، ولا بنية تحتية صناعية، وتكفّ مصارفها عن إقراض الشركات والمؤسسات إلا بأسعار فائدة مرتفعة إلى حد يجعل الاستثمار شبه مستحيل. وهذا الرسم سيشمل كافة المواد المستوردة (باستثناء الأدوية والسيارات الكهربائية والهجينة والمواد الأولية التي تدخل في الصناعة)، لا تلك التي لها بديل يُصنَّع محلياً حصراً.
تكاد الإيجابية تكون محصورة، وجزئياً، في بند وحيد، هو بند زيادة الضريبة على أرباح الفوائد على الودائع المصرفية، من 7 في المئة إلى 10 في المئة. فزيادة هذه الضريبة، بشرط خفض أسعار الفائدة وإجراءات أخرى لم تقترح الحكومة أياً منها، يمكن أن يُسهم في زيادة الاستثمار بدل إيداع الأموال في المصارف. لكن «الإيجابية» تبقى منقوصة، لأن الضريبة تساوي بين كبار المودعين وصغارهم، إذ لم تأتِ تصاعدية كما هي الحال في غالبية الدول التي تزعم الطبقة الحاكمة السعي إلى التشبه بها، حيث تدخل أرباح الفوائد ضمن الدخل الموحّد الذي تُفرض عليه ضرائب تصاعدية.
غياب الرؤية يبلغ ذروته في بند خدمة الدَّين العام. فقد أقرّ مجلس الوزراء مشروع الموازنة، من دون أن يكشف وزير المال علي حسن خليل لزملائه عن مضمون الاتفاق الذي عقده مع حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، من أجل الاكتتاب بسندات خزينة نحو 12 ألف مليار ليرة، بفائدة 1 في المئة، على 10 سنوات. هذا الاتفاق يجري التسويق له على قاعدة أنه سيعفي الدولة من نحو 700 مليار ليرة كانت ستدفعها كفوائد على سندات الخزينة وسندات اليوروبوندز. وستُصوَّر هذه الخطوة كإنجاز عظيم، علماً بأن الدولة ستدفع 8312 مليار ليرة (أكثر من 5.5 مليارات دولار)، فيما هي «حركة تجميلية» تسمح للدولة بالتهرب من استحقاق إعادة هيكلة الدَّين العام الذي كان سيمثّل حقاً رؤية اقتصادية جدية.
أقصى درجات العبثية في مشروع الموازنة تظهر في «الأسباب الموجبة» لاقتراحات التعديلات القانونية. فالحكومة تعتبر أن فرض رسم ألف ليرة على كل «نفَس أرغيلة» في المطاعم والفنادق، سببه أنّ «هذه الظاهرة انتشرت بين الشباب والشابات بنحو متزايد، ما يؤدي إلى ازدياد المخاطر الصحية الناجمة عن التدخين المباشر وغير المباشر، ويسبّب أيضاً في رفع الفاتورة الصحية، وحيث إن رفع الرسم على التبغ قد يؤدي إلى مزيد من التهريب، وللحدّ من هذه الظاهرة الخطرة على الصحة العامة ...». الحكومة واعية لمخاطر التدخين المباشر وغير المباشر، وبدلاً من تطبيق قانون منع التدخين في الأماكن العامة، وبدلاً من السعي إلى الحدّ من التهريب، تعترف بالعجز عن مكافحته، وتقرر وضع رسم 1000 ليرة على «النرجيلة»، بهدف جباية المزيد من الأموال، لكنها قررت تغليف هذا الاقتراح بأسباب صحية! أما الأسوأ، فهو السبب الذي تذرعت به الحكومة لفرض رسم قدره 75 ألف ليرة على تذاكر سفر المغادرين على درجة رجال الأعمال، و25 ألف ليرة على الدرجة السياحية. فهي فعلت ذلك بقصد «تشجيع السياحة الداخلية»، فيما في بند آخر تفرض رسماً جديداً على إشغال الغرف الفندقية، وتسمح بتهشيم البيئة من خلال تحويل المقالع والكسارات إلى مصدر للجباية، ولا ترصد القدر الكافي من الأموال لمعالجة الأزمات البيئية.

موازنة «الترقيع» تتجلى أيضاً في ازدواجية المشروع الذي اعتبر أن إلغاء الاعفاءات الجمركية هدفه زيادة الإيرادات، في مقابل تضمينه 10 بنود تتضمن إعفاءات سيستفيد منها كبار المكلفين، مبررة ذلك بالظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها المكلفون، فيما لم تُراعَ الظروف نفسها في فرض الضرائب والرسوم التي تصيب جميع السكان، وبينهم صغار المكلفين.

مشروع الموازنة صدر أمس في 99 مادة قانونية (الكادرات المرفقة تتضمن أبرز تلك المواد)، بعد جلسة «هادئة» في القصر الجمهوري في بعبدا برئاسة الرئيس ميشال عون. سلّم الوزراء بضرورة انتقال المشروع إلى ساحة النجمة، حيث من المرجَّح أن تكون المعركة حامية حول بنوده. هذا الجوّ لمسه الوزراء، إذ إنّ أكثر من مصدر وزاري أكّد لـ «الأخبار» أن «هذه البنود والتفاصيل ستتكشف أكثر فأكثر في الهيئة العامة، خاصة أن النواب جميعهم سيسعون إلى تسجيل ملاحظات واعتراضات، بما أن الجلسات ستكون منقولة مباشرة على الهواء» من جهة، ومن جهة أخرى، ستكون تحت الضغط نتيجة استمرار التحركات في الشارع من قبل الموظفين في القطاعات التي تعتبر نفسها متضررة.
بحسب المصادر، شهدت الجلسة «تسجيل عدد من الملاحظات»، بدأها وزراء حزب القوات اللبنانية تحديداً على الأرقام المرتبطة بعائدات قطاع الاتصالات، والتهرب الجمركي والأملاك البحرية. وتوجه هؤلاء بسؤال إلى وزير الاتصالات محمد شقير، بالقول إن «إيرادات القطاع تصل الى 1900 مليون دولار، فلماذا أُعلن فقط عن 1750 مليون دولار، وأين ذهب الفارق؟»، فردّ شقير بأن «الإيرادات في القطاع تراجعت، خاصة أن المشتركين باتوا يعتمدون على خدمة الواتساب المجانية». ورأى الوزير غسان حاصباني أن «الأرقام كان بالإمكان أن تكون أفضل»، مشدداً على 3 نقاط تتعلق بـ «المعابر غير الشرعية، ومكاتب التدقيق، واتخاذ اجراءات فيما يتعلق بأجهزة الكشف على المعابر الشرعية». كذلك طالب وزراء القوات بتوضيحات حول موازنة عام 2020 والبدء بتنفيذ الإصلاحات، وتطرقوا إلى خدمة الدَّين، فطالبوا بتوضيحات بشأن الاتفاق الذي جرى التوصل إليه مع المصارف، «لكننا لم نحصل على جواب من رئيس الحكومة ولا وزير المال حول هذا الأمر»، بحسب أحدهم.
بدوره، أعاد وزير الخارجية جبران باسيل تسجيل بعض ملاحظاته، وقال إنه «غير مقتنع بالجواب حول أسباب انحدار موارد وزارة الاتصالات»، وسأل عن «التدبير رقم 3 في المؤسسات العسكرية والأمنية، الذي ما زال يحيطه الغموض». وفيما أكد أن التضامن الوزاري يجب أن ينسحب على مجلس النواب، ردّ عليه الوزير محمد فنيش بأن «الحزب اعترض على عدد من البنود، ومنها رسم الـ2 في المئة على الاستيراد، وهو مستمر في هذا الرفض وسيعبّر عنه في الهيئة العامة». كذلك تحفظ باسيل ووزراء التيار الوطني الحرّ عن استمرار الدعم «غير المبرّر» لبعض الجمعيات.
من جهته سجّل الوزير وائل أبو فاعور اعتراضه على 4 نقاط، قائلاً: «إننا استسهلنا الاقتطاع من أبواب عدة وفرضنا ضرائب، من دون أن نساهم كقوى سياسية في هذه التخفيضات»، فتطرق إلى موضوع «رواتب النواب والوزراء، إذ كان من المفترض أن نساهم من خلالها، لأن التخفيضات التي طاولت النواب السابقين غير كافية». أما في موضوع الأملاك البحرية فسأل أبو فاعور: «لماذا لم نُعد النظر بأمر التخمينات على الأملاك البحرية، بحّت أصواتنا والناس ملّت، وهي مقتنعة بأننا، كسياسيين، مستفيدون من الاستثمار في الأملاك البحرية»، وسجّل اعتراضاً آخر على «ضريبة الدخل على المتقاعدين». وفيما رأى أن «الإنفاق الإنمائي في قوانين البرامج إجراء مهم، لكن المشكلة هي في الطريقة التي قاربناه بها، فظهر وكأنه إنفاق انتخابي، وكان بالإمكان تأجيل أجزاء منه لسنوات لاحقة».

كل هذه الاعتراضات عُرضت في سياق هادئ، لم يقطعه سوى سجال بين وزراء القوات ووزير المهجرين غسان عطالله. فبعد أن اعترض نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني على طلب عطالله فيما يتعلق بزيادة الإنفاق التي يطلبها، انتظر وزير المهجرين انتهاء كل المداخلات قبلَ أن يردّ بأسفه لمقاربة الملف بهذه الطريقة. وقال: «بكل وقاحة تطالبون بخطة ولم نسمع أحدكم يطالب بخطة حين سمحتهم بإعطاء مجلس الجنوب مبلغ 60 ملياراً، كما كل المشاريع التي تمّ تمريرها في الموازنة». وأضاف أن «الخطة موجودة، وحين يقرر مجلس الوزراء أن يناقشها، ستصل إلى الوزراء». وعاد عطالله وأكد أنه لن يقبل «بأقل من 10% لهذا العام من أصل الـ 600 مليار ليرة» التي يطلبها لإقفال ملف المهجرين، على أن ترتفع الحصة إلى 30% في السنوات الثلاث المقبلة. هنا تدخل رئيس الحكومة سعد الحريري، مؤكداً «عدم الاعتراض، ونعرف أن المبلغ غير كافٍ، لكن لنتفق على الخطة أولاً. تصرّف الآن بالمبلغ الذي تمت الموافقة عليه (40 مليار ليرة)، بالإضافة إلى المبالغ الموجودة في الصندوق». لكن عطالله رفض، وأكد أن «المبلغ لا يكفي لحل أصغر ملف في الوزارة»، مكرراً المطالبة بنسبة الـ10 في المئة، على أن «تُحسَم من المبلغ الكامل بعد الاتفاق على الخطة».

المصدر: صحيفة الاخبار