مقبرة الشهداء في اليرموك.. حارسة الذاكرة الفلسطينية

مقبرة الشهداء في اليرموك.. حارسة الذاكرة الفلسطينية
السبت ١٤ ديسمبر ٢٠١٩ - ٠٨:١٩ بتوقيت غرينتش

ليس بعيدا عن دمشق بالمسافة، وهو الاقرب لفلسطين بالجغرافيا والتاريخ، انه مخيم اليرموك الذي يستطيع بمساحته أن يقدم كل الوان التاريخ الفلسطيني المعاصر، فهو من ساهم في لفت نظر العالم لحق اللاجئ الفلسطيني.

العالم - كشكول

في الطريق الى هناك، يبدأ الزمن بالغياب، وتدخل في حالة لا يحدها الوقت، بل تسير السيارة وكأنها تمشي على قلوب مئات الالاف من الفلسطينيين الذين عاشوا في هذا المخيم، وكانوا يملكون كل القدرة على العيش بأمل العودة الى فلسطين، ما يعني ان هذا المخيم يكل في الوعي الجمعي لدى الاجئيين منذ بداية الهجرة والنكبة الى يومنا الحالي، بوابة الخروج من التغريبة الى فلسطين، وبالطبع من يعرف شوارعه قبل الحرب المفروضة على سورية، يعي تماما ان كل ما فيه كان يرفض فكرة الوطن البديل، او التوطين، وهذا ما جعل الكثير من قيادات هذا الشعب المظلوم تنطلق منه نحو العمل الفدائي المسلح وبمساندة كبرى من القيادة السورية.
عندما قطعنا مسافة في داخل المخيم، توقف الموكب وأصر مرافقنا ان نتوجه الى مقبرة الشهداء في نهاية المخيم، لكن الفاجعة الكبرى، ان ترى قبور الشهداء، والذين ارتقوا في وجه الكيان الاسرائيلي، اثر بعد عين. هنا قبر فتحي الشقاقي اشار بيده الى اليسار من المقبرة، توجهت بسرعة لارى ما كنت انقله من اخبار من داخل المخيم عن تخريب الضريح للشهيد، لم اجد الا بقايا للحجر الرخامي الذي دون عليه اسمه وتاريخ استشهاده وشعار حركة الجهاد الاسلامي، لاتوقف لدقائق كيف يمكن ان نصون ذاكرتنا الفردية والجمعية في ظل محاولات محو معالم كامل للتاريخ النضالي الفلسطيني من خلال محو اثار الشهداء، وما هي العقلية الاجرامية التي تعاملت مع تاريخ شعب مظلوم بهذه الطريقة، انه القاتل الذي نفسه الذي يدفن شهداء المقاومة في مقابر الارقام في فلسطين، ذاته من ارسل التكفيريين الى تدمير مقبرة الشهداء والقادة منهم بالتحديد.
بالطبع، ان ما يخطر في ذهنك وانت تقرأ الفاتحة لروح الشهيد الشقاقي، يخبرك ان التاريخ لا يموت، ولا يقتل وان الجناة التكفيرين من جبهة النصرة وداعش والذين دخلوا المخيم وعاثوا فيه خرابا ودمارا، لا يبتعدون كثيرا عن اساليب الكيان المشغل الرئيسي لهم، وان احد اسباب تواجدهم في المخيم واختطاف هذه الجزئية من جنوب دمشق، هو محو الذاكرة الفلسطينية، انهاء تواجد الاجئ الفلسطيني بالقرب من حدود وطنه، دمروا المنازل والدور بشكل كامل، حرقت المقابر ودمرت، الا ان لسان حال حارس المقبرة اخبرني ان عظام الشهداء تهدهد لتراب مخيم اليرموك كما تهدهد الام لطفلها، وما يدعوك للتفائل ان اسماء المدن والقرى الفلسطينية المنكوبة والتي زينت جدران شوارع المخيم مازلت باقية.
يعتبر مخيم اليرموك متحفاً حقيقيا لمرحلة الثورة الفلسطينية المعاصرة والتي انطلقت عام 1965، وتكل مقبرة المخيم الركن الاغلى فيه، والتي توثق باضرحة الشهداء مرحلة الكفاح ما بعد النكبة وحتى انطلاق الثورة المعاصرة، وبعدها حرب الاغتيالات التي شنها الكيان الاسرائيلي في مختلف اصقاع الارض، مرورا باجتياح لبنان عام 1982، ومابعده، وما يمكن ان نستعيده بالذاكرة هي مسيرة تشييع الشهيد فتحي الشقاقي، والذي كنت يومها برفقة الشيخ احمد مهنا احد اهم مؤسسي حركة الجهاد الاسلامي، والشيخ عبد العزيز عودة المرشد الروحي للحركة، وعدد من القيادات، حيث دوت يومها في سماء دمشق صرخات المطالبة بالثأر للشهيد، عشرات الالاف من الفلسطينيين والعرب والمسلمين، شاركوا في جنازة الشهيد وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله الامين العام لحزب الله، وما لفت انتبهاء حضور والد الشهيد السيد عباس الموسوي في التشييع. تلك الجنازة كانت تستحضرها الذاكرة كشريط سينمائي، من لحظة انطلاقنا من مشفى المواساة في دمشق، وحتى مقبرة الشهداء، بماركة قدرت يومها بأكثر من اربعين الف شخص، كان البارز يومها الوفد الايراني الذي ضم 200 مسؤولا اذكر منهم آية الله جنتي، ممثلا مرشد الجمهورية، يرافقه ممثلون عن الرئيس هاشمي رفسنجاني ورئيس البرلمان علي أكبر ناطق نوري، عن وزارة الخارجية الإيرانية، بالاضافة الى بعض السفراء العرب المعتمدين في سورية.
يومها كانت سيارة الهلال الاحمر الفلسطيني، والتي نقلت الجثمان مغطاة بأكاليل الورود، سدت القوى الامنية السورية الشوارع لتسهيل حركة المشيعيين، رفعت اللافتات بمختلف الوان الشعارات، وضم مسجد البشير على بوابة المخيم المصلين، وحمل الشهيد على الاكف حتى مقبرة الشهداء، وتحول التشييع الى مظاهرة ضد الكيان الاسرائيلي، والهتاف بالثأر للشهيد واستمرار العمل المسلح، وهذا ما يفسر اختيار الشقاقي من ضمن القادة الذين خربت قبورهم، في محاولة من التكفيريين، تقديم الولاء للمشغل الرئيسي لهم، وهو الكيان الاسرائيلي والولايات المتحدة الامريكية.
خرجنا من المقبرة، ووقفنا على بابها الرئيسي، لنفكر بالطريقة المثلى التي يجب على الفصائل الفلسطينية حماية هذا الارث التاريخي، فهنا سجل توثيق للشهداء، ان كان في مقبرة الشهداء القديمة التي كانت أول مثوى لشهداء فلسطين خارج أرض فلسطين التاريخية. حيث أقيمت تلك المقبرة قرب حارة المغاربة في مخيم اليرموك وعلى حدود قرية يلدا في حينها، ودفن فيها أول شهيدين هما الشهيد على الخربوش من عرابة البطوف، والشهيد مفلح السالم من صفورية، من الكتيبة الفلسطينية (68) العاملة في الاستطلاع الخارجي في الجيش السوري، كان هذا منتصف عام 1964، وقد استشهدا أثناء قيامهم بمهمة شمال فلسطين في الجليل الأعلى، وقد تمكنت باقي المجموعة من سحب جثماني الشهيدين، وقبل هذا التاريخ كان يدفن الفلسطينيون شهدائهم من العاملين في الجيش السوري وغيره في مقابر مختلفة، كان منها مقبرة الشهداء في الدحداح، وبعدها توالت قوافل الشهداء، شارك بعدد منها الراحل ياسر عرفات في شباط 1967 ، ولا ينسى التاريخ مشاركة الرئيس الراحل حافظ الأسد في تشييع الشهيد زهير محسن قائد منظمة الصاعقة، وبعد مقبرة الشهداء الأولى في اليرموك، اقيمت مقبرة الشهداء الثانية في مخيم الوحدات في عمان بالأردن، وبعدها المقبرة الثالثة في بيروت. هذه المقبرة دفن فيها الكثير من القادة الفلسطينيين ومن الكتاب والصحفيين منهم، ممدوح صبري صيدم 1971،عز الدين القلق " 1978" ، عبد الكريم الكرمي " 1980" سعد صايل " 1982" خليل الوزير " 1988 ، عبد المحسن أبو ميزر 1992، ، محمد عباس 2004، محمد داوود عودة 2010 وغيرهم وفي نهاية عام 1979 توقف الدفن فيها إلا لحالات قليلة، وتم افتتاح مقبرة شهداء جديدة بعد ان اتفق وجهاء المخيم مع قادة حركة فتح، على راء قطعة ارض تبلغ مساحتها خمسين دنماً تقع في نهاية شارع اليرموك وتم بالفعل افتتاحها عام 1980، حيث دفن فيها المئات من الشهداء وبينهم قادة، مثل الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي ،1995 وجهاد جبريل 2002 ، وعز الدين الشيخ خليل 2004.
مقبرة الشهداء في المخيم كانت تضم الكثير من الشهداء الذين ارتقوا في مواجهة الكيان الاسرائيلي، وجميعهم كانوا يربوا الامل على طريق العودة لفلسطين، واللافت في الامر ان هناك عرب وأجانب دفنو في المقبرة ذاتها. وعند تحريض ذاكرة ابناء المخيم، تقفز امامهم صور مواكب تشييع الشهداء في بداية انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، ومنها كما حدثنا المؤرخ الفلسطيني علي بدوان " كان موكب تشييع شهداء مُعسكر الهامة في شباط/فبراير 1967 قبل حرب حزيران/يونيو 1967، موكب تشييع الشهيد منهل توفيق شديد من مؤسسي حركة فتح وجناحها العسكري قوات العاصفة ورفاقه الشهداء، الموكب الكبير الذي ترك انطباعاته وتأثيراته في نفوس الناس، وأحيا في دواخلهم حلم العودة لفلسطين. ففي ذاك الموكب ظهر الفدائي الفلسطيني في العرض العسكري العلني الأول للثورة الفلسطينية المعاصرة، العرض الذي رافق موكب التشييع، وظهر اللباس المُرقط، وبدلات الفوتيك، ذاك اللباس الذي كان قد ظَهَرَ في العالم إبان الحرب الكورية عام 1956، كما في ظهور البنادق المُختلفة في العرض العسكري إياه (بور سعيد، طومسون، كارلو، والقليل من الكلاشنكوف ..)، فيما تَقَدَمَ موكب التشييع قيادات تاريخية كان على رأسهم الراحل ياسر عرفات وابو علي اياد وغيرهم" وتابع بدوان " كانت مواكب التشييع مَحمولة على الأكتاف، وبعضها على السيارات العسكرية، او على عربة المدفع، وفي مقدمتها العروض العسكرية، وفرقة الموسيقى العسكرية، وأناشيد الثورة والحانها. ومنها نشيد (جابو الشهيد .. جابوه .. يافرحة أمه وأبوه…)"

بقلم: حسام زيدان