هل تنهي الانتخابات التجاذبات الدولية في ليبيا؟

هل تنهي الانتخابات التجاذبات الدولية في ليبيا؟
الثلاثاء ١٦ نوفمبر ٢٠٢١ - ٠٥:٣٨ بتوقيت غرينتش

ظلّت الأزمة الليبيّة تراوح مكانها، بفعل تجاذبات القوى الإقليمية والدولية المعنيّة بها، ورهْنِ الأطراف الداخلية مواقفها بسياقات تلك التجاذبات ونتائجها، على الأقلّ حتى صدور قرار مجلس الأمن رقم 2570 (16 نيسان 2021)، والذي أتاح فرصة للتسوية السياسية، إنّما على أساس المحاصصات والتفاهمات الخارجية.

العالم - ليبيا

وبينما حاولت مصر جعْل مقاربتها لهذا الملفّ أكثر توازناً، راجعت الإمارات مواقفها المتشدّدة، ناحِيةً في اتّجاه تخفيف دعمها للواء المتقاعد خليفة حفتر، والضغط من أجل إخراج المرتزقة بشكل تدريجي. في المقابل، ظلّت تركيا وروسيا على مواقفهما الداعمة لاستمرار الوضع الراهن، وعدم ربط التسوية بإجراء الانتخابات في مواعيدها المحدَّدة، والإصرار على السماح بمشاركة جميع الأطراف الليبية في الانتخابات المقبلة (وما يعنيه ذلك على نحو غير مباشر من دعم روسي، خصوصاً، لترشّح حفتر الذي يتمتّع بحضور عسكري في شرق ليبيا من دون شعبية تُذكر في غربها، وسيف الإسلام القذافي الذي يملك حظوظاً وافرة في معظم الأقاليم، لاسيما جنوباً).


استضافت العاصمة الفرنسية باريس (12 تشرين الثاني الجاري) مؤتمراً دولياً حول ليبيا، أظهر مستوىً أعلى من التنسيق الأوروبي في شأن هذا الملفّ، وتحديداً بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا. وهو تنسيقٌ لم يكن وليد المؤتمر نفسه، بل يمكن إرجاع بداياته إلى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي، حيث ترأّس وزراء خارجية الدول الثلاث اجتماعاً مشتركاً حول ليبيا، أكّد دعم مسار قرار مجلس الأمن رقم 2570 وصولاً إلى الانتخابات، ودعا إلى تعزيز جهود اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» لضمان التطبيق الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار وسحب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة، مشدّداً على ضرورة الحفاظ على الاستقرار في قطاع البترول، والتوزيع العادل والإدارة الشفّافة لعائداته بين جميع أقاليم البلاد، ومطالِباً مجلس النواب بتبنّي موازنة الدولة.

بعد ذلك، كشف تقرير لـ«بلومبيرج» (12 تشرين الثاني) عن مستوى رفيع من التنسيق بين الرئيس الفرنسي ماكرون، ورئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراجي، متوقّعاً أن ينعكس ذلك على الملفّ الليبي، ضمن ما اعتبره التقرير جهداً مشتركاً لملء فراغ «ما بعد ميركل»، بينما أوضح مسؤول في الإليزيه أن فكرة استضافة مؤتمر حول ليبيا (بتنسيق إيطالي فرنسي غير مسبوق بعد سنوات من الصراع على النفوذ في الدولة الشمال أفريقية والمتوسطية) قد طُرحت في أحد اللقاءات المبكرة بين ماكرون ودراجي.


وتمثّل ليبيا مجال حركة هامّاً وتقليدياً للسياسة الخارجية الإيطالية. وقد كانت طرابلس أوّل محطّة يزورها دراجي في 6 نيسان 2021، منذ تولّيه رئاسة الوزراء، وذلك بعد زيارة سابقة لوزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو (21 آذار)، تَقرّر في خلالها استئناف إيطاليا تشييد الطريق الساحلي الرئيس في ليبيا، والذي يمتدّ من مصر شرقاً إلى تونس غرباً بطول يتجاوز 1700كم، ويسدّ الفجوة القائمة في الطرق الممتدّة في شمال أفريقيا من مصر إلى المغرب، ويُعدّ واحداً من أكبر مشروعات البنية الأساسية في القارّة.

وقبل أسابيع من مؤتمر باريس، أكد دي مايو أن لا نيّة لدى بلاده لإرسال جنود إلى ليبيا، التي لم تَعُد بحاجة إلى قوات عسكرية، بل إلى انتخابات، محذّراً من وجود «المخرّبين» الذين يحاولون إعاقة الانتخابات. وكان الرئيس الإيطالي، سيرجيو ماتاريلا، أبدى بدوره (7 تشرين الثاني) خلال لقائه الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، استعداد أوروبا وإيطاليا لإحداث «تغيير حقيقي» في ملفّ الهجرة، بما في ذلك تقديم مخصّصات مالية «للقضاء على الفقر وتحقيق التنمية» في الدول التي تمثّل مصدراً للهجرة غير الشرعية.
أمّا ألمانيا، فإن حضورها هي الأخرى آخذ في التزايد في الملفّ الليبي، وسط تقدير متصاعد من قِبَل المجلس الرئاسي الليبي للدعم الألماني لجهود تسوية الأزمة عبر مؤتمرَي برلين 1 و2، وتقديم برلين «مقترحات فعّالة لتحقيق الاستقرار في ليبيا»، على حدّ تعبير رئيس المجلس، محمد المنفي، عقب اجتماع مع السفير الألماني في طرابلس (9 تشرين الثاني). وفي تحرّك عملي إضافي، أعلنت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، في مؤتمر صحافي عقب قمّة باريس (13 تشرين الثاني)، جاهزية بلادها لإرسال مراقبين للانتخابات الليبية لضمان «شفافية العملية».

لفت تمثيلُ روسيا المتواضع في مؤتمر باريس نظر المراقبين، وأثار تساؤلاتهم عن مدى دعم موسكو لمخرجاته، فيما برزت مخاوف تركية من التنسيق المصري - الفرنسي رفيع المستوى، الذي تجسّد في الدعوة إلى تسريع عملية ترحيل القوات التركية من ليبيا. ولذا، عبّرت تركيا عن تحفظّاتها إزاء اللغة المستخدَمة في البيان الختامي بخصوص مغادرة القوات الأجنبية، مشدّدة على الاختلاف بين وجود قواتها في ليبيا «بناءً على دعوة الحكومة المعترَف بها من قِبَل الأمم المتحدة»، وأولئك الذين استدعتهم الفصائل الأخرى من الخارج (في إشارة إلى عناصر مجموعة فاغنر الروسية الداعمة لقوات الشرق)، والذين رجّح دبلوماسيون في طرابلس عدم إقدام تركيا على التحرّك قبل مغادرتهم. وشدّد الناطق باسم الرئاسة التركية (14 تشرين الثاني) على أن التقدّم السياسي والانتخابات يمثّلان أبرز القضايا التي تواجه ليبيا، داحضاً فكرة أولوية خروج القوات التركية (وغيرها)، التي يساعد وجودها في «استمرار الاستقرار السياسي والأمني».
من جهتها، أعربت روسيا عن قناعتها بالحاجة إلى سحب القوات الأجنبية من ليبيا بشكل «تدريجي وسلس»، ومتزامن بين الشرق والغرب، معتبرة على لسان وزير الخارجية، سيرغي لافروف، الذي لم يشارك في المؤتمر، أن «هذه المقاربة (فقط) ستسمح بالحفاظ على توازن القوى الذي مكّن ليبيا من الحفاظ على هدنة لمدّة عام». وبخصوص الانتخابات، اعتبر لافروف أن التركيز لا يجب أن ينصبّ على موعد محدّد، بل على «الإعداد الجيّد للانتخابات بما لا يدع مجالاً للشكّ في نتائجها»، وإتاحة الفرصة أمام جميع الأطراف السياسية للمشاركة فيها «بما فيها الموالية لمعمر القذافي». والظاهر أن التصعيد الحالي بين روسيا وأوروبا، على ساحة بيلاروسيا، سيظلّ يرخي بثقله على الملفّ الليبي، ويجعل روسيا أكثر تشدّداً في التعامل مع الطروحات الأوروبية لتحقيق التسوية.

تستند المقاربة الأوروبية إلى فكرة تنسيق مواقف سياسية لا تتقاطع - بالضرورة - مع المحاصصات الاقتصادية (لاسيما في قطاعَي الطاقة والتشييد والبناء)، وهي حقّقت حتى الآن اختراقاً مهمّاً يتمثّل في التمكّن من التماهي مع مصالح أطراف إقليمية (أبرزها مصر)، وخفض حدّة الصدام مع أطراف أخرى (مثل الجزائر). وفي دلالة على محورية هذا التوجّه مستقبلاً، أكّدت إيطاليا، في ختام فعاليات مؤتمر باريس، استعدادها لدعم إصلاحات ما بعد الانتخابات في ليبيا، لاسيما في مجال «النظام الأمني»، كما دعت إلى ما سمّته «تطبيع الاقتصاد الليبي» لمساعدة الحكومة الليبية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، على تكوين «نظام اقتصادي قادر على الاستجابة لحاجات السكان وجذب الاستثمارات الخارجية». كما أعلنت مصادر مقربة من دراجي، منتصف تشرين الثاني، عزم روما عقد مؤتمر حول ليبيا في ربيع 2022، يكون بمثابة متابعة لمؤتمر باريس ومقرّراته، ما قد يعني توقُّع أطراف «الطريقة الأوروبية» استمرار الأوضاع الراهنة سواءً عُقدت الانتخابات أم لم تُعقد.

الأخبار