"مجزرة السبت" تعيد ابن سلمان إلى مربعه الذي وضع نفسه فيه

الإثنين ١٤ مارس ٢٠٢٢ - ٠٦:١٩ بتوقيت غرينتش

في عداد القتل الجماعي في عهد سلمان وحده، نفذت السلطات السعودية ثلاث مجازر وحشية، الأولى في الثاني من كانون الثاني 2016، قطعت فيها رؤوس 47 شاباً بينهم 4 قاصرين على الأقل، وكان من بينهم الشيخ المجاهد "نمر باقر النمر"، بينما ليس فيهم من أدين بتهمة قتل واحدة، وأكثرهم من شباب الحراك السلمي لعام 2011.

العالم - السعودية

والمجزرة الثانية نفذت في 23 نيسان 2019، وقطعت فيها رؤوس 37 شابا من بينهم 6 قاصرين على الأقل، ووصفتها "المفوضية العليا لحقوق الإنسان" بـ"الصادمة"، معتبرة إعدام قاصرين "مشينا جدا"، فيما عده الاتحاد الأوروبي "خرقا خطيرا" لحقوق الإنسان.

وكانت التهمة الرئيسة ضد من أعدمتهم السلطات السعودية، وأغلبهم من الطائفة الشيعية: "تبنيهم الفكر الإرهابي المتطرف وتشكيل خلايا إرهابية للإفساد والإخلال بالأمن وإشاعة الفوضى". وهذه من الاتهامات المعلبة التي يجري استخدامها بصورة دائمة في محاضر الاتهام.

وأحدث المجازر، وليس آخرها، كانت "مجزرة السبت"، وهي الأعلى عدديا، حيث قطعت رؤوس 81 شخصا، جمع فيها ابن سلمان بين متهمين في قضايا تتعلق بالحراك الشعبي في القطيف في عام 2011، وآخرين على علاقة بتنظيمي "القاعدة" و"داعش" ، والهدف واضح.

وفي التفاصيل، أدين سبعة يمنيون واردة أسماؤهم في القائمة في قضايا الانتماء إلى "داعش" (شخص واحد)، والانتماء إلى حركة "أنصار الله" (3 أشخاص)، وتهريب أسلحة (3 أشخاص). واتهم سوري واحد بالانتماء إلى "داعش"، وهي التهمة ذاتها التي طاولت 28 سعوديا، إضافة إلى سعودي بتهمة الانتماء إلى "القاعدة"، وآخر بتهمة "تشكيل خلية إرهابية"، وقسم ثالث بتهمة "اعتناق منهج التكفير".

تبقى الوجبة الأكبر من قطع الرؤوس من نصيب الشيعة في الأحساء والقطيف، حيث فصل سياف سلمان وابنه، وبدم بارد، رؤوس واحد وأربعين شابا عن أجسادهم في "حفلة جنون" غير مسبوقة، وكانت بلدة العوامية وحدها على موعد مع استقبال خبر فاجعة إعدام 27 شابا من أبنائها، لا ذنب لهم سوى أنهم خرجوا في تظاهرات سلمية ورفعوا شعارات مطلبية مشروعة موثقة بالصوت والصورة.

لم يتبدل الحال إذا. هي المحاكمات الصورة ذاتها الفاقدة إلى أدنى شروط المحاكمة العادلة، والآلية نفسها المعمول بها في إصدار الأحكام، بما يجعل أي حديث عن قضاء بلا طائل، فأحكام الإعدام تصدر من الديوان الملكي.

ما يلفت في الأحكام أنها لم تخرق مبادئ حقوق الإنسان فحسب، بل هي انتهكت على نحو صريح القانون الجنائي السعودي نفسه، إذ إن التهمة الموجهة إلى 37 شابا هي "نية شروع بالقتل"، أو "التخابر مع جهات أجنبية" وخلافه، فيما لم يرد في صك الاتهام أي تهمة صريحة بالقتل سوى ضد ثلاثة من المتهمين، في بيئة تفتقر إلى كل مقومات المحاكمة العادلة.

أما تهمة الشروع في الجريمة، أو ما يسمى بالجريمة غير المكتملة، فقد حددت بـ "الحبس لمدة لا تزيد على عشر سنوات"، بحسب نص القانون الجنائي السعودي.

على أي حال، فإن الاحتجاج القانوني لا مكان له هنا، لأن "المنطق" و"المعقول" غائبان في مكونات تفكير ابن سلمان. وبالتالي، فأي حسابات سياسية ومنطقية لتفسير ما تسالم الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي على تسميته بـ "مجزرة السبت"، سوف تنتهي إلى لا نتيجة.

فنحن أمام شخص - لا نهج سياسي - يمارس هوايته المفضلة في مصادمة الجمهور، بينما "اللامتوقع" و"اللامنطقي" و"اللامعقول" سمات جوهرية في لعبة السياسة التي يزاولها على طريقة المغامرة، ولكن في شكلها الطفولي.

لماذا تكون مجزرة السبت خارج الحسابات السياسية؟ تعالوا نقرأها وفق منطق التحليل السياسي: أولا، إن العزلة المفروضة على ابن سلمان منذ سنوات على خلفية جريمة قتل جمال خاشقجي، تتطلب عملا استثنائيا وخارقا لكسرها والعودة الطبيعية للاندماج في دورة المحافل والعلاقات الدولية.

ثانيا، إن هوس ابن سلمان بالعرش وهاجسه الأكبر بصنع رمزيته السياسية يفرضان تهدئة مع الداخل واسترضاء لكل المكونات. ثالثا، السعودية وإيران كانتا على موعد قريب (الأربعاء المقبل) مع جولة حوارية في بغداد (أعلنت طهران تجميدها أمس)، ومن الطبيعي أن يحافظ الطرفان على أجواء ودية وهادئة لإنجاح الحوار.

وحين نتأمل في هذه العوامل، نجدها منطقية لأي سياسي حصيف، ولكن هذا التحليل يصلح في حال واحدة، أي حين يجري التعامل مع شخصية تعمل، في الأصل، وفق منطق السياسة وقوانينها.

يكون السؤال عن شخصية ابن سلمان لغوا حين يتعلق بـ"ثبات الصورة" وثوابت السياسة، فهو اليوم غير الغد، وهو في الغد غير ما يأتي من أيام لاحقة، لا على سبيل التغير الخلاق، بل هي مفاعيل الشخصية المأزومة، والمسكونة بغرام "اللافت" و"العظيم" "والكبير" و"الجديد" و"الأول عالميا" كما يحلو له ترديد هذه المفردة، فيما يأتي أحد أقلام البلاط ليبشر بعودة شخصية "القائد الملهم" بعد أفوله في أدبيات التطبيل الغابرة، وهي نعوت يطرب لها ابن سلمان.

خيب ابن سلمان توقعات شركات العلاقات العامة الأجنبية، الأميركية والأوروبية، والتي أغرقها بملايين الدولارات من المال العام لترميم صورته المهشمة منذ اغتيال خاشقجي وتقطيع أوصاله في قنصلية السعودية في إسطنبول في تشرين الثاني 2018، فقررت أكثر من واحدة من كبريات شركات العلاقات العامة، وفي لحظة إنقاذية لسمعتها، الانسحاب من صفقة تجني منها المال وتخسر فيها مستقبلها.

بين رسوخ صورة القاتل والمتغطرس والمتعطش للدم، ومحاولات دؤوبة من فريق ابن سلمان لمحوها، كان الأمل معقودا على إحداث تغيير جوهري في "الذاكرة القريبة" للرأي العام المحلي والعالمي.

فكانت مقابلته الاستعراضية مع مجلة "ذي أتلانتيك" الأميركية بمنزلة رهان أخير لمحو شخصية القاتل السادي والمحشو رعونة وبلاهة، وإحلال شخصية المصلح، والمنقذ، والمنطقي، والمنفتح. جعل ابن سلمان من المجلة الأميركية منصة لإطلاق "مانيفستو" الدولة الأفلاطونية بنسخة سعودية معدلة جينيا، وهي التي سوف يعتلي عرشها ذات يوم، أو هكذا يحلم. وابتهج المراهنون، حقا أم نفاقا، على وعدين فارقين:

ـ وقف عقوبة الإعدام إلى الأبد.
ـ الاعتراف بالتنوع المذهبي ومستوجباته في التمثيل البيروقراطي، في شقه الديني على الأقل.
في الأول، وفي المعلومات، زار مسؤول في مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، الرياض أخيرا، ونقل عن بندر بن محمد العيبان، رئيس "هيئة حقوق الإنسان" في السعودية، أن بلاده أوقفت العمل بصورة نهائية بعقوبة الإعدام.

وقرأنا ذلك التأكيد في مقابلة ابن سلمان مع المجلة الأميركية بما نصه: "في ما يتعلق بعقوبة الإعدام، لقد تخلصنا منها جميعا، ما عدا فئة واحدة..."، قاصدا بذلك الحق الخاص، أي من ارتكب جريمة قتل ضد شخص آخر، تطبق عليه عقوبة الإعدام في حال رفض أهله التنازل أو قبول الدية.

أطنب فريق من الكتاب ورجال الدين والثقافة والشعراء في التطبيل لـ"خطة الإنقاذ" التي بشر بها ابن سلمان عبر المجلة المذكورة، وأوهموا أنفسهم ومن حولهم والأبعدين بأن زمن "الواحدية" كما سماه ذات يوم، أحد سدنة البلاط الحاليين، قد أدبر، وكان هذا ناقدا للنظام قبل أن ينضم إلى حلقة البروباغندا لولي العهد، وبات هذه الأيام مهووسا بالخصومة مع الآخر.

الرواية الجديدة التي أراد ابن سلمان إيصالها عبر المجلة الأميركية، والقائمة على فكرة طلاق، بائن أو رجعي، بين السعودية والوهابية، والتبشير بسعودية جديدة خالية من الوهابية، في لعبة إيحاء ماكرة، تفتقر إلى الأدنى من الذكاء المطلوب لتمريرها في عالم يكتظ بمصادر المعرفة بالتاريخ وبالحاضر أيضا.

وكما هي العادة في مجمل صور الأداء السياسي لابن سلمان، فقد أراح ناقديه من عناء البحث عن "النقيض" في مواقفه، إذ تكفل شخصيا بتقديم كل ما هو "عكس الصورة" التي يريد الترويج لها، وهذه سمة راسخة في شخصية ابن سلمان المضطربة وغير المتوازنة.

كانت "مجزرة السبت" صدمة وحجرا في أفواه الذين دخلوا للتو في "هلوسة" تطبيل غير مكتملة. هي صدمة لأولئك الذين اعتقدوا بأن ثمة "قبل وبعد" في عهد ابن سلمان، واكتشفوا، أو هكذا يفترض أن يكون الحال، أن الأمر ليس كذلك إطلاقا، وبالخصوص على مستوى العواقب، وإن اختلفت المقدمات.

ما هو جديد في "مجزرة السبت"، أن ابن سلمان ينفرد هذه المرة بالمسؤولية القانونية والجنائية وحتى الأيديولوجية. في كل السنوات السابقة، كان يتم التلطي وراء الوهابية الحنبلية بصفتها مرجع "القضاء الشرعي" وما يصدر عنه من أحكام جزائية، ضمن التنظيم التشريعي الصادر في المملكة منذ قرار عبد العزيز بعد احتلاله الحجاز سنة 1926، والقاضي بإلغاء كل الأحكام الصادرة عن المذاهب الإسلامية الأخرى وإقرار الفقه الحنبلي كمرجعية وحيدة في التقاضي وإصدار الأحكام.

وبناء على التحول الخطابي لدى ابن سلمان بتخفيض الوهابية إلى سوية دنيا، وإدماج بقية المذاهب كجزء من التنوع المذهبي الذي يعيد رسم المشهد الديني في المملكة السعودية، ملحقا بالسردية الجديدة حول "يوم التأسيس" بمضمونها التاريخي والعقدي والسياسي، وتمهيدا لتدابر قريب ونهائي بين الشريكين التاريخيين: آل سعود وآل الشيخ، يكون الحاصل النهائي أن التشدد والعنف بأشكاله السادية وقطع الرؤوس كل ذلك ليس امتيازا وهابيا حصريا ولا حتى "داعشيا" بالاقتداء، وأن الراعي الرسمي لكل ذلك هو آل سعود، وأن الوهابية ما هي إلا الأداة المشرعنة للعنف، بدليل بسيط أن فصل الوهابية عن آل سعود لم يخفف من مستوى التوحش المتأصل في العائلة المالكة.

ما يجدر إلفات الانتباه إليه أن مضمون بيان وزارة الداخلية يشي بحقيقة أن ابن سلمان تخلى عن محمد بن عبد الوهاب وتمسك بالوهابية.

في الشكل، نعم هناك عملية تصفية حساب طويل ومؤلم مع الوهابية، ولكن في المضمون، لا تزال "الذخيرة" الأيديولوجية والتشريعية للوهابية صالحة للاستعمال، كلما دعت المصلحة السياسية إلى ذلك.

في مقارنة بيان وزارة الداخلية السعودية حول الإعدامات الأخيرة مع بياناتها في عهود سابقة منذ فيصل (1964 ــ 1975)، ومرورا بعهود كل من خالد (1975 ــ 1982)، فهد (1982 ــ 2005) وعبدالله (2005 ـ2015)، يظهر أن مفردات الخطاب الديني هي ذاتها لم تتبدل، وتقع ضمن ثنائية تنزيه الذات (الوهابية) ووصم الآخر (كل ما عداها) بأفعال من قبيل مخالفة "طريق الحق"، واتباع "الأهواء" "وخطوات الشيطان"، وانتهاج "الفكر الضال" و"المناهج والمعتقدات المنحرفة".

ويتأكد ثبات سلمان على النهج التنزيهي والإقصائي في آن في ختام بيان الداخلية، بالتأكيد "أن هذه البلاد... اتخذت من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - منذ قيامها دستورا ومنهاجا...".

وهنا لفتة ذات دلالة إلى أن لا تغيير بتاتا في النظام التشريعي، وأن تحقيق العدالة وفق المفهوم السعودي يكمن، في نهاية المطاف، في "تنفيذ أحكام الشرع المطهر"، ومن يجرم بأعمال إرهابية فإن "العقاب الشرعي سيكون مصيره"، مشفوعا بآية قرآنية لزوم المشروعية الدينية للعقوبة.

في التحليل، فإن ما تحرر منه ابن سلمان هو القسمة والغنم المشترك مع سلالة محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، فيما ألقى عليهم تبعات الحرائق التي أشعلها آل سعود في الداخل والخارج، تلك الحرائق المتصلة بالإرهاب والتطرف - والوهابية هي، من دون ريب، شريك كامل في تلك الحرائق -، وفي الوقت نفسه احتفظ لنفسه بحق الاستعمال الحصري للإرث الوهابي، خطابا وفقها جنائيا.

في النتائج، تعيد "مجزرة السبت" ابن سلمان إلى مربعه الذي وضع نفسه فيه، بفعل حماقاته، فيما "تثبيت" صورته قاتلا مهووسا بالمختلف، والاستثنائي، والصادم، هو فعل كارثي، ويلحق ضررا معنويا وأخلاقيا بالمراهنين عليه، لأنه يظهرهم في هيئة بلهاء وحقراء لاستنزاف أذهانهم في جولات تمجيد فارغة وخاوية.

المصدر: جريدة الأخبار