العالم- العراق
إحدى أبرز هذه المذكرات جاءت عبر شهادة طباخ القصر الجمهوري، الذي خدم صدام قرابة عقدين، ونُشرت قصته ضمن كتاب "كيف تطعم الديكتاتور؟" للكاتب البولندي ويتولد زابلوفسكي، حيث أضاءت هذه السيرة جانبًا آخر من الطغيان: طغيان الرفاهية والترف في قصر زعيم يقود بلاده من حرب إلى أخرى، تاركًا الملايين تحت خط الفقر والجوع.
من مطبخ بسيط إلى مطبخ الديكتاتور
بدأ الطباخ المعروف بـ"أبو علي" رحلته في عالم الطهي منذ طفولته في مطعم عمه ببغداد، حيث تعلم إعداد الأطباق العراقية التقليدية مثل الكباب، الكبة، الدولمة، والباچة. لاحقًا، انتقل للعمل في أحد فنادق الخمس نجوم، لكنه أُجبر على تركه للالتحاق بالخدمة العسكرية، شأنه شأن آلاف الشباب العراقيين الذين زُجوا في آلة النظام الحربية.
مصادفة قادته إلى المطبخ العسكري، حيث أظهر مهاراته في الطهي، ما مكنه لاحقًا من دخول القصر الجمهوري. كان القصر في تلك الفترة رمزًا للفجوة المتزايدة بين حاكم مستبد وشعب يتخبط في أزمات اقتصادية وأمنية لا تنتهي.
مطبخ صدام.. حيث يُقاس الولاء بالإكراميات والعقوبات
داخل القصر، كان "أبو علي" جزءًا من فريق يضم ستة طهاة مسؤولين عن إعداد موائد فاخرة لرئيس لم يعرف الجوع يومًا. يصف الطباخ كيف كان صدام يوزع الإكراميات حين يكون بمزاج جيد، بينما يخصم من رواتب الطهاة إذا غضب، في تجسيد مصغر لنهجه في حكم العراق، حيث كانت المكافآت والعقوبات سلاحه في التحكم بالمقربين منه كما بالملايين من أبناء شعبه.
في حين كان العراقيون يصطفون في طوابير طويلة للحصول على الحصة التموينية المتواضعة، كان مطبخ القصر يعج بأفضل أنواع البهارات والمكونات الفاخرة، وكان الطهاة يحصلون على ملابس مصممة خصيصًا لهم في إيطاليا، إلى جانب سيارات جديدة سنويًا، في مشهد يعكس البذخ الفج الذي ميز حياة الطاغية.
اطباق صدام المفضلة
كان صدام مغرمًا بوجبات تقليدية مثل مرقة البامية، البيض، السمك، والشوربات المتنوعة، فيما كان الغداء يتألف من ثمانية أطباق مختلفة يوميًا. لم تكن هذه مجرد رفاهية عادية، بل كانت جزءًا من أسلوب حياة قائد يحرص على توفير كل ما يشتهيه بينما يُحرم العراقيون من أبسط أساسيات الحياة.
حتى خلال الحرب المفروضة من جانب النظام البعثي على ايران، كان الطهاة يرافقونه إلى الجبهات لإعداد الطعام، في محاولة منه لصنع صورة "القائد القريب من جنوده"، بينما كان في الواقع يحتمي خلف أسوار القصر، ويترك أبناء العراق يُقتلون في معارك عبثية لا طائل منها.
من غزو الكويت إلى الحصار.. قصر لا يجوع
مع غزو الكويت عام 1990، تغيرت ظروف العمل في القصر، لكن ما لم يتغير هو نمط حياة الرئيس. بينما كان العراقيون يعانون بسبب العقوبات الدولية، كان مطبخ صدام لا يزال مجهزًا بأفضل المكونات، حتى وإن اضطر الطهاة لنقل الطعام معه من مكان إلى آخر بسبب القصف الأمريكي.
كانت العقوبات تعني الجوع والفقر للملايين، لكنها لم تؤثر على موائد القصر الرئاسي، حيث بقي الطعام وفيرًا، وظلت الأطباق المفضلة لصدام تُحضَر دون انقطاع. في المقابل، تحول المطبخ العراقي الشعبي بسبب الحصار إلى وجبات تعتمد على النشويات الرخيصة، ما غير تركيبة النظام الغذائي للعراقيين، وترك آثارًا واضحة على صحتهم وحياتهم.
بعد حرب الخليج الفارسي الثانية، وبينما كانت العقوبات الدولية تحول حياة العراقيين إلى كابوس من الجوع والحرمان، لم يكن مطبخ القصر يعاني من أي نقص. كانت كل المكونات متوفرة، والأسماك الطازجة تصل إلى موائد صدام يوميًا، في وقت كان الناس يُجبرون على استهلاك الخبز الأسود والعدس الفاسد الذي توزعه الحكومة.
حكاية مطبخ.. تكشف قصر الدماء
تكشف مذكرات "أبو علي" عن الهوة السحيقة بين حياة الحاكم وحياة المحكوم في عراق صدام. ففي الوقت الذي كانت طاولته تكتظ بأشهى الأطباق، كانت آلاف العائلات العراقية تعاني من نقص الغذاء والدواء. إنها شهادة أخرى على أن الطغيان لا يُقاس فقط بقبضة أمنية حديدية، بل أيضًا بكيفية استئثار الحاكم بكل مظاهر الرفاهية بينما يترك شعبه يغرق في الفقر والحرمان.
لم تكن هذه مجرد قصة طباخ في قصر صدام، بل شهادة على حقبة كاملة، كان فيها الجوع والفقر نصيب العراقيين، بينما عاش الديكتاتور في قصره محاطًا بالطعام، الإكراميات، والولائم التي لم يعرف طعم فقدانها يومًا.