واكد المدير العام للمستشفيات في وزارة الصحة الدكتور محمد زقوت أن الوزارة تسلمت 120 جثماناً من الاحتلال على ثلاث دفعات متتالية، بينها عشرات الجثامين مجهولة الهوية، مؤكداً أن الفحوصات أظهرت آثار تعذيب وحروق وطلقات نارية من مسافة قريبة، إضافة إلى جثث تحمل آثار جنازير دبابات وقيود بلاستيكية حول الأيدي والأرجل.
وأوضح زقوت أن الوزارة تمكنت حتى الآن من التعرف على هوية ستة شهداء فقط، بينما يتعذر تحديد هويات الباقين بسبب غياب التحاليل الوراثية المتخصصة، مشيراً إلى أن سلطات الاحتلال رفضت تزويد وزارة الصحة بالبيانات الجينية التي أجرتها على الجثامين باستثناء ثلاث حالات.
وحسب زقوت، فإن ثلاجات الموتى يمكنها الحفاظ على جثامين الشهداء لأسبوع فقط، ما سيضطر وزارة الصحة إلى دفنها خلال مدة زمنية قصيرة.
وكشف أن الوزارة أنشأت رابطا لأهالي الشهداء وتعرض صورا وبعض مقتنياتهم، مبينا أن الإجراءات تتمثل في تعرف الأهالي على الجثامين والمقتنيات لأن التحاليل الوراثية المعنية غير متوفرة في قطاع غزة.
وفي تعبير عن الصورة المأساوية التي سلمت بها الجثامين، قال المدير العام لوزارة الصحة منير البر: “الجثامين التي استقبلناها كانت مقيدة كالحيوانات، معصوبة الأعين، وعليها آثار حروق وتعذيب تكشف حجم الإجرام الذي مورس في الخفاء. هؤلاء لم يموتوا موتاً طبيعياً، بل أعدموا بعد أن قُيدوا واحتُجزوا لأشهر طويلة في ثلاجات الاحتلال”.
اقرأ المزيد:
وفي وصف مروّع، قال طبيب مختص في الطب الشرعي إنهم عاينوا جثامين في حالة كارثية، منها جثة تحمل رقم H32 NMC 14/10/2025، أظهرت بوضوح تعرض صاحبها للإعدام شنقاً بعد تقييده وعصب عينيه، مؤكداً أن المشاهد “لم يسبق أن رآها طوال سنوات عمله”، بحسب شهادة نشرها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
حلقة من الإبادة الجماعية
ما يجري “حلقة جديدة من مسلسل الإبادة الجماعية في غزة”، وفق تأكيد المحامي سمير المناعمة من مركز الميزان لحقوق الإنسان، مشيراً إلى أن الاحتلال يواصل احتجاز مئات الجثامين منذ عقود في “مقابر الأرقام”، وأن عائلات الضحايا تعيش مأساة مركبة بين الفقدان والانتظار والعجز عن وداع أبنائها.
ووفق اتفاقية جنيف الرابعة، تلتزم قوة الاحتلال بتحديد مكان الوفيات وأوقاتها وظروفها وأسبابها، وتمكين ذوي الضحايا من التعرف عليهم. لكن الواقع، كما يقول المناعمة، يكشف نمطاً ممنهجاً من الإخفاء القسري والتعذيب والقتل العمد يرقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
دلائل دامغة على تنكيل وحشي وإعدامات ميدانية
المعطيات الميدانية التي وثقها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عززت هذه الشهادات، إذ أكد أن الجثامين المسلّمة “تحمل دلائل دامغة على تعرض أصحابها لتنكيل وحشي وإعدامات ميدانية”، موضحاً أن تقارير الطب الشرعي وفريقه الميداني كشفت عن آثار شنق، وطلقات نارية من مسافة قريبة، وأطراف مقيدة، ووجوه معصوبة، وعلامات حروق وكسور وجروح غائرة.
وقال المرصد إن ما حدث “لا يمكن فصله عن السياق العام للإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة”، مشيراً إلى أن هذه الممارسات تمثل سياسة ممنهجة تهدف إلى “إلحاق أقصى درجات المعاناة الجسدية والنفسية بالمحتجزين وصولاً إلى قتلهم”، في انتهاك صارخ لاتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني.
وطالب المرصد بالسماح العاجل بدخول بعثات طبية وحقوقية مستقلة إلى القطاع لإجراء الفحوصات الجنائية وتوثيق الأدلة قبل تلفها، كما دعا إلى تعاون فوري مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لتسريع عملية تحديد هويات الضحايا وتسليمهم لعائلاتهم، وتوفير دعم نفسي وإنساني للأسر التي ما تزال تعيش بين الأمل والحداد.
وأشار المرصد إلى أن تسليم الجثامين بهذا الشكل “يكشف تعامل سلطات الاحتلال مع الأسرى والمعتقلين خارج أي إطار قانوني أو إنساني، كقوة منفلتة تمارس القتل والتعذيب بلا قيد أو محاسبة”، مؤكداً أن التحريض الرسمي والإعلامي الإسرائيلي الذي نزع الإنسانية عن الفلسطينيين مهّد الطريق لتقبل هذه الجرائم وتبريرها ضمن سياسة الإبادة الجماعية.
وطالب المرصد الأورومتوسطي لجنة التحقيق الدولية المستقلة بإدراج هذه الوقائع ضمن تحقيقها القائم في جرائم الحرب على غزة، كما دعا المحكمة الجنائية الدولية لتوسيع نطاق تحقيقها ليشمل عمليات الإعدام والتعذيب والاحتجاز القسري للجثامين باعتبارها جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية.
وخلص التقرير إلى أن استمرار الغموض حول مصير آلاف المفقودين في غزة، واحتجاز مئات الجثامين دون هوية، يعمّق مأساة إنسانية وقانونية غير مسبوقة، ويضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي لمدى التزامه بمبادئ العدالة الدولية وحق الضحايا في الحقيقة والكرامة والمحاسبة.