واللافت أكثر أن قنواتٍ فضائيةً عربيةً معروفة، تجند مئات الكتاب والمحللين والخبراء، مهمتهم الرئيسة تبرير هذه الفوضى وتلك السلوكيات الصادمة للسلطات السورية، بطريقة مضحكة، حيث لا يتم تبريرها فحسب، بل يجري الحديث عن أن وراء تلك السلوكيات حنكة وحكمة وكياسة وعبقرية وذكاءً منقطع النظير لتلك السلطات التي "حررت سوريا" و"فتحت العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن"، أمام المسؤولين السوريين.
العالم كله شاهد كيف استقبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الشرع في البيت الأبيض، ورش عليه عطرًا فاخرًا، وكأنه يقول: أنا أطهرك من تاريخك، بعد أن وافق على شروط ترامب مقابل بقائه في السلطة. وفي مقدمة هذه الشروط، ليس التطبيع مع الكيان الغاصب للقدس فحسب، بل إقامة علاقات أمنية وعسكرية وثيقة مع الكيان؛ لنقل الفوضى إلى لبنان والعراق تحت يافطة "حرب شيعية -سنية"، ومحاصرة المقاومة في فلسطين والمنطقة واقتلاعها من جذورها تحت يافطة "الحرب على الإرهاب".
والصادم واللافت أكثر، أن كل هذه التنازلات لم تشفع للشرع وحكومته ودبلوماسيته التي يقودها "المحنك" الشيباني، كما تصفه الفضائيات التي كانت وما زالت تدافع عن كل الفظائع التي شهدتها سوريا منذ أكثر من عقد، وما تزال، كالمجازر بحق الأقليات الدينية والمذهبية، بل بحق السنة المعتدلين. لم تشفع هذه التنازلات لدى الكيان الإسرائيلي الذي "يلعب" بسوريا بضوءٍ أخضر أمريكي كما يشاء، حتى وصلت قواته إلى بُعد كيلومترات من العاصمة دمشق.
الفضائيات العربية تنقل أخبار "فتوحات" الجولاني في الغرب وأمريكا، والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي، وكأنه كان من المستحيل على الرئيس السوري السابق بشار الأسد زيارة هذه العواصم، التي كان المسؤولون الغربيون يتمنون زيارته لها. إلا أن الرجل كان يعلم أنه لا بد من التنازل عن استقلال سوريا وسيادتها وفتح أبوابها أمام المحتل الإسرائيلي، وهو ما لم يفعله حتى آخر يوم من حكمه.
أما اللسان الطويل لتلك الفضائيات، التي كانت تسخر من عبارة "إن سوريا تحتفظ بحق الرد" في عهد بشار، فقد ابتلعت اليوم لسانها السليط وخرست وهي ترى نتنياهو يقضم الجغرافيا السورية ويتجول فيها في زمن نظام يخشى أن يكرر حتى تلك العبارة: "إنه يحتفظ لنفسه بحق الرد".
ما ذكرناه حتى الآن قاله معظم الخبراء والمحللين والكتاب. ولكن ما لم يقله هؤلاء هو أن العارف بطبيعة العلاقة بين أمريكا والكيان الإسرائيلي وبين الجماعات التكفيرية، لن يُصدم بالتنازلات التي يقدمها الشرع أو الجولاني لأمريكا و"إسرائيل". فمن وجهة نظر هؤلاء، هذه ليست تنازلات يقدمها الجولاني، بل أوامر لا خيار له إلا تنفيذها حرفيًا دون نقاش. فالرجل لا يملك من أمره شيئًا حتى يقول إنه يتنازل أو لا يتنازل؛ فالذي جاء به إلى الحكم هو الذي يتحكم به، وهذا ما يفسر صدمة البعض تجاه سلوكيات وأداء النظام في سوريا.
ثانيًا، إن أمريكا التي احتضنت الشرع، تعرف جيدًا أن الرجل الذي كان مسجونًا في معسكر بوكا مع أبي بكر البغدادي في العراق، لم يتورط في قتل أي أمريكي؛ لأنها لا تتسامح مع مَن يقتل أمريكيًا. ولذلك تم احتضانه اليوم، فالجولاني ذهب إلى العراق لقتل العراقيين حصريًا، وإشعال فتنة سنية–شيعية، ولم يتعرض لأي أمريكي. وهي مهمة نجح فيها بامتياز، ولذلك تم نقله إلى سوريا لتنفيذ الجزء الخاص بسوريا من المخطط الأمريكي، وهو ما نجح فيه أيضًا.
ثالثًا وأخيرًا، هناك أمر في غاية الأهمية قلما توقف عنده أحد، وهو أن الجولاني وجماعته لم يتركوا مناسبة دون أن يذكروا أنهم أحفاد بني أمية، وأن الشام لا بد أن تعود تحت حكم بني أمية مرة أخرى. والمعروف تاريخيًا أن السياسة الأموية معروفة، حتى لدى أغلب المؤرخين والمفكرين المسلمين السنة، فهي تقوم على مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة". فقد ارتكبوا الأفاعيل في حق المسلمين من أجل الوصول إلى السلطة، وتجاوزوا على أقدس المقدسات لتحقيق هذه الغاية.
ويبدو أن أمريكا والصهيونية العالمية كانتا على دراية بنقطة الضعف هذه لدى تلك المجاميع التكفيرية وداعميها من الطائفيين، فمهدوا لهم الأرضية لتحقيق هذا الهدف، حتى لو كان الثمن أن يدخل نتنياهو القصر الجمهوري في دمشق ما دام الحكم عاد إلى بني أمية. لذلك لا يمكن فهم هذه الفوضى وهذه التصرفات والسلوكيات والأداء الكارثي للسلطات السورية الحالية، إلا بعد فهم أبعاد هذه النقطة التي تدفعهم إلى تنفيذ أوامر بن غفير وسموتريتش، قبل أوامر ترامب ونتنياهو. والأيام القادمة حبلى بالمفاجآت.