الثّورة التونسيّة ثمّ ما بعد ذلك

الثّورة التونسيّة ثمّ ما بعد ذلك
الثلاثاء ١٥ نوفمبر ٢٠١١ - ٠٤:٣٤ بتوقيت غرينتش

الثّورة التونسيّة ثورة شعبيّة بامتياز انطلقت شرارتها من الطّبقة الكادحة التي عانت الكثير وتحمّلت هموم الحياة المعقّدة وهي لا تزال إلى اليوم تحت وطأة الفقر وكأنّ الثّورة لا جدوى منها باعتبار ذلك يعود أساسا إلى عدم مراعاة الظروف الاجتماعية الأليمة التي يعيشها مختلف أفراد الشعب التونسي.

إنّ هذه المعاناة قد أكّدت على أنّ الثّورة لم تولد من فراغ وإنّما كان هناك حراك اجتماعي برزت فيه مختلف شرائح المجتمع التونسي من مطالبها القطع الجذري مع النظام الاستبدادي الذي تمارسه سياسة الحزب الحاكم التي دمّرت البلاد والعباد طيلة عقدين من الزّمن وذلك باستعمال شتى أنواع العنف تجاه كلّ فئات الشّعب وكذلك أيضا تفاقم ظاهرة التّعذيب داخل السجون التونسية التي أزهقت فيها أرواح العديد من الأشخاص على اختلاف مستوياتهم بسبب معارضتهم ورفضهم لكلّ القرارات السياسية الزّائفة والمستبدة.

ومن المؤلم جدّا أنّ سياسة الحزب الواحد قد اكتسحت كلّ مجالات الحياة وعلى سبيل الذكر منها الاجتماعية، الاقتصادية، الفكريّة وهو ما أدّى إلى تغيير كلّ الأنماط الثقافية والرّكائز الأساسيّة التي تبنى عليها الحضارة بما أنّّها تشكّل الرّابط الأساسي بين الفرد والدّولة. ورغم كلّ هذه الانتهاكات والممارسات الفظيعة التي قصفت كلّ القيم الانسانيّة وغرّبت الانسان عن وطنه فإنّها لم تمنع بعد من استمرار التّماسك الاجتماعي الذي توحّد من أجل مجابهة الطّاغية بأسمى مقتضيات التّفكير ألا وهو العقل الذي رفض كلّ مظاهر الدّكتاتورية مثل الظـّلم، التّعذيب، التهميش والاقصاء، بدلا من ذلك أراد الشعب التونسي واقعًا سياسي أفضل يعمل على تحسين كلّ المعضلات القاسية التي عاشها في كافة المجالات الحيويّة المختلفة.

هذه الثّورة الاجتماعية التي تحوّلت فيما بعد إلى ثورة عقليّة أذهلت العالم برمّته ومن أهدافها أنّها تسعى إلى تفكيك النظام الفاسد بكلّ وسائله الدّفاعية ورموزه الاستبدادية وتقويض الرّقابة المفروضة على الشعب التونسي دون تحقيق ما نطمح إليه. وإنّنا على يقين من أنّ حالة الكبت لدى المجتمع التونسي عميقة وعميقة جدّا أدّت به إلى مسار الموت.

يبدو أنّ هذه الحجّة الدّامغة من ايجابيات الثّورة وهو ما ساهم في رفع الأقنعة عن كلّ المكبوتات الفرديّة التي خوّلت للشعب االتونسي أن يقول كلمته تجاه سياسة الحزب البائد. وأشير مجدّدا إلى أنّ هذه المرحلة الثّورية ستقطع مع كلّ مخلّفات النّظام الاستبدادي وتسعى حسب ارادة المجتمع إلى بناء الدّولة المثلى بأحدث مصادر الفكر الرّاهن حتّى تتجلّى فيها كلّ المقوّمات الضّروريّة للعيش مشدّدة في ذلك على مواصلة التضافر الشعبي القويم الذي أزاح الرئيس من سدة الحكم.

هذا الانجاز العظيم سيحقّق للعالم العربي الاسلامي نهضة فكريّة شاملة تصل كلّ أقطاب الواقع الانساني وفي بدايتهم البلاد التونسيّة التي برهنت للعالم الأجمع أنّ الشعب استطاع أن ينتزع «زين العابدين بن علي» عن السلطة. ويمكن القول أيضا إنّها غيّرت جزءًا من العالم. ذلك ما نلاحظه من تدفّق الثّورات العربيّة الرّافضة للأنظمة الاستبداديّة المتوحشة التي تزداد غطرستها من حين إلى آخر لكن ستؤكد نصرها قريبا ثمّ أنّ هذه الحقبة الثّورية لم تقف عند هذا الحدّ وإنّما أدخلت الارباك والبلبلة بالنسبة إلى كلّ الأنظمة السياسية في العالم.

لقد أثبت هذا التغيّر الطارئ استفاقة العقل من فشله الدّغمائي كي يحدّد مسار الثّورة وتحقيق أهدافها التي من سماتها الموضوعيّة وهذا ما يؤكّد أنّها ثورة لها من الحكمة والتغفّل بما أنّها ساهمت في تحرير كلّ العقول من المعتقدات السائدة وبرهنت على انعتاق الانسان من هاجس الخوف الذي كان يسكنه طيلة خمسين سنة، رفضت كلّ العوائق التي تفضي إلى التراجع والانتكاسة معتبرة أنّ حريّة التفكير والتعبير من أهمّ الشّروط الأساسيّة التي يجب أن تقوم عليها الدّولة بما أنّها جعلت من مبدإ الانصاف مطمح كلّ مظلوم تعرّض للإهانة والاضطهاد بسبب الدّفاع عن حقوقه المشروعة.

المطلوب اليوم هو إعادة الاعتبار للعلاقات الاجتماعية التي يبدو أنّها دخلت في طور الاضمحلال وهذا يؤدّي مباشرة إلى غياب الثقة بين كلّ مكوّنات الشّعب التونسي وما ينجرّ عن ذلك هو انهيار كلّ الأسس التي تقوم عليها الدّولة عندئذ تنتهي إلى السقوط فيما يسمّى بالفوضويّة واللاسلطوية التي بإمكانها أن تحوّل البلاد إلى حرب أهليّة تكون عواقبها وخيمة جدّا ولا سبيل إلى الخروج منها خصوصا أنّنا في مرحلة انتقاليّة على غاية من الصعوبة، إذ يعود ذلك إلى التشاجر داخل الأحزاب السياسيّة ثمّ المنظمات الحقوقيّة حول مسألة السلطة وطبيعة النظام السّياسي بحيث نفهم من ذلك أنّهم يفكّرون في استغلال النّفوذ ليحْصُلوا على الحكم ولا يبالون بما يعانيه الشّعب من الفقر والخصاصة.

وعلى ما يبدو أنّ هذا التّضارب البراغماتي من مشمولات النظام الاستبدادي لكن إرادة الشّعب التونسي أجدر من ذلك بكثير بحيث لا مجال للاستحواذ على الثّورة كلّ الأهداف التي ينتظرها أبناء هذا الوطن.

يمكن القول بأنّ عصر المغالطة قد انتهى بالنّسبة إلى التّونسيين والآن ما يجب فعله هو ثورة العقل حتّى نكرّس لقيم انسانيّة حديثة مع الدّعوة إلى تفعيل الوعي الجماعي كي تتحقّق الأرضيّة اللاّزمة في بناء الدولة بمختلف أطوارها وتصوّراتها النّظرية والعمليّة. بهذا انّ ضرورة اعمال العقل قد حتّم على المجتمع التونسي تغيير نظرته نحو المستقبل والمهمّ هو أن نلتقي كلّ الجهود الفرديّة والجماعيّة للخروج أوّلا من تردّي الأوضاع المعيشيّة وثانيا من حالة البؤس الثقافي والاندراج في منظومة النّهوض بالفكر إلى أرفع درجاته حتّى يتسنّى لكلّ فرد التّعبير عن آرائه مع احترام الرأي المخالف.

إنّ هذه الوضعيّة الحاليّة للبلاد تقتضي البحث عن السّبل الكفيلة المتعلّقة بتركيبة النظام السياسي للدّولة ورغم أنّ الثّورة الآن في مقتبل العمر فإنّ أهدافها لم تكتمل بعد اذ يتحقّق ذلك من خلال التّوافق الاجتماعي وفتح المجال أمام الحوار والنّقاش الموضوعي بدل الانحياز للرّأي الواحد الذي يفضي إلى تفشّي ظاهرة الانتقام. وإجمالاً إنّه ليس من السّهل أن تتوفّر كلّ المكتسبات في فترة وجيزة من الزّمن والحال أنّ البلاد التونسية في وضعيّة شائكة تفتقر إلى المزيد من التفكير وذلك بمنأى عن الأطماع السّياسيّة التي قد تجعل البلاد في نفس المسار السّابق. ويجب أن تكون السياسة لأهل السّياسة وأعرف ما أقول جيّدا، فالسّياسة ليست صناعة بل هي تفكير ينبع من العقل الذي يدافع عن الموضوعيّة والوضوح وليس الدّهاء والمكر والكذب والخداع.

ما يمكن القيام به هو تطهير الدّولة من كلّ القواعد التنظيميّة الزّائفة المعمول بها طيلة النّظام السّابق فهي بمثابة عقبة أمام إرساء نظام سياسي يتفق عليه الجميع وهو ما يدفع إلى صياغة دستور للبلاد يعلو عن كلّ المصالح الشّخصية مع الحفاظ علي هويّة الدّولة بما أنّها دولة عربيّة اسلاميّة.

وفي خضمّ هذه المسيرة الثّورية لا يمكن الرّجوع فيها الى الوراء يعني أن نتقدّم وفق مقتضيات العصر الرّاهن حتّى نساير الواقع بمبادئ عقليّة لها من الجرأة والحنكة كي نحقّق ما نصبو إليه جميعا. إذ يجب التخلّص التامّ من كلّ الوعود التي أجهضت طموحات الشّعب التونسيّ، إنّها مرحلة التّطبيق والتقدّم والتطوّر مع مجابهة كلّ العثرات التي تنبئ بالفشل والخمول من ذلك مثلا الجلوس كثيرا في المقاهي والتّساؤل عن فقدان المواد الاستهلاكيّة. إنّه طور الانجاز والفعل ولا يتحقّق ذلك الاّ من خلال التفكير في التفكير حتّى يضمن الانسان كينونته والدّخول في معترك الحياة.

إنّ المشاركة الفعليّة في بناء هيكلة الدّولة تفترض أوّلا عدم التّلاعب بالمفاهيم السّياسية التي تحوّلت الى مجرّد عبارات جوفاء وفاقدة لكلّ المقاييس العمليّة، كذلك أيضا الرّفض القطعي للتدخّل الأجنبي في بلادنا وما يبرّر ذلك أنّ الشّعب التونسي هو الذي أنجز ثورته وألقى بنفسه في لائحة الموت وما عليه الآن هو أن يقرّر مصيره بذاته دون اللّجوء إلى أيّ من الأنظمة المعمول بها في عديد من بلدان العالم.

فالزّمن يقتضي منّا اليوم التّفكير بالمعنى الشّمولي للكلمة بحيث أنّ حريّة الفكر تتطلّب وجود انتاج معرفي يعبّر فيه أصحابه عن مواقف ووجهات نظر معرفيّة تهمّ قضايا الانسان والمجتمع. ويبدو أنّ فترة المخاص التي هي على وقعلها المرحلة الثّورية التاريخيّة التي كانت في 17 من ديسمبر 2010 لم تنتهي بعد بحث يجب أن تتوفّر فيها كلّ المتطلّبات اللاّزمة والضّروريّة لإنجاح مسارها السياسي والاجتماعي وما نؤكّد عليه هو أنّ هذه الثورة أنجزت من أجل الدّعوة إلى رفض التمييز الطّبقي والتمييز العنصري وكأنّنا نعيش على واقع الجدليّة الفلسفيّة «لهي?ل» حين قال إنّه من الضّروري أن يصبح العبدُ سيّدًا والسيّدُ عبدًا وهذا سيفتح المجال للقوى العقليّة والأخلاقيّة التي من مشمولاتها إعادة الاعتبار إلى الكرامة الانسانيّة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة بين كلّ أطياف المجتمع التونسي.

وما نتج عن الثّورة التونسيّة خصوصا على المستوى العالمي أنّها ساهمت في فشل السياسية الاستراتيجيّة للكيان الصهيوني في الشرق الأوسط وهذا يؤدّي إلى زعزعة العقل الغربي بمختلف تقلّباته. وأخيرًا المسعى الذي أفكّر فيه هو أن تكون البلاد التونسية وفق متطلّبات المدينة الفاضلة التي قال بها الفيلسوف اليوناني «أفلاطون» وهكذا أقول بأنّ الثّورة التّونسيّة أيقظت العالم من سباته العميق والحياة المسالم بها لا تنفع الكائن الحيّ على حدّ قول «سقراط».

*عبد النّور النّوري