يجب تركيز واشنطن على جنوبها بدل التوجه شرقاً

يجب تركيز واشنطن على جنوبها بدل التوجه شرقاً
الإثنين ٢١ نوفمبر ٢٠١١ - ٠٣:١٥ بتوقيت غرينتش

اعتاد النقاد في هذه الفترة اعتبار أن مركز جاذبية العالم بدأ يتجه نحو الشرق، لكن قد يكون الواقع مغايراً، بل قد تقضي المناورة الجيواستراتيجية الأكثر أهمية حتى الآن بوضع أميركا الجنوبية في موقعها المناسب، بصفتها الركيزة الثالثة للغرب إلى جانب أوروبا وأميركا الشمالية.

مع تركيز إدارة باراك أوباما على آسيا ومع توجه الرئيس الأميركي الآن إلى هاواي لحضور قمة التعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ (قبل أن يقصد أستراليا وإندونيسيا)، يجب أن نتذكر أن أهم رحلة قام بها أوباما خلال عهده الرئاسي لم تكن باتجاه الشرق بل الجنوب.

 في شهر مارس، ووسط الانشغال بتداعيات التسونامي في اليابان والمشكلة النووية هناك وتصعيد الوضع في ليبيا، قام أوباما برحلة دولية لكن تجاهلتها وسائل الإعلام الغربية بشكل شبه كامل، وقد توجه حينها إلى البرازيل وتشيلي والسلفادور، فعُلم أن أوباما خضع لضغوط كثيرة كي يلغي هذه الزيارات، وكشفت الصور والتقارير الإعلامية أن أوباما سافر برفقة مستشاريه العسكريين وكان يطلع على آخر المستجدات بشأن الأزمتين من مصادر أمنية خاصة.

 لم يتغير تاريخ الرحلة طبعاً، لاسيما أنه كان يتزامن مع الذكرى الخمسين لإعلان الرئيس جون كينيدي عن “التحالف من أجل التقدم” الذي مهد لحصول توسع صناعي من المكسيك إلى الأرجنتين. كانت رحلة أوباما ترمي إلى تحقيق هدف استراتيجي كبير أغفلت عنه النخب الحاكمة المهووسة بالشرق الأوسط والصين في واشنطن (ولا ننسى موقف الإدارات السابقة- قيل إن جورج بوش الابن تعجب في عام 2005 لدى رؤية خارطة أميركا الجنوبية فهتف بدهشة: “يا للعجب! البرازيل بلد كبير حقاً!”). من خلال التحرك لعقد تحالفات جديدة بين الأميركتين، يكون أوباما قد اعترف ضمناً بالواقع الجيوسياسي الناشئ، أي أن أميركا اللاتينية تشكل الركيزة الثالثة للكيان الغربي إلى جانب أوروبا وأميركا الشمالية.

 لا شك أن الولايات المتحدة لا تستطيع التأكد من ولاء أميركا اللاتينية، إذا ما اعتبرنا أن هذا الولاء موجود أصلاً، إنه زمن الاصطفافات المتعددة حيث تتلاعب معظم القوى بجميع الأطراف. لقد رحبت أميركا الجنوبية بالقوة الآسيوية الناشئة، فأعلنت برازيليا وبكين عقد شراكة استراتيجية منذ سنوات، ويدين عدد كبير من مصدّري السلع في أميركا الجنوبية، مثل تشيلي والأرجنتين، بمعظم نموهم إلى تهافت الصين على المواد الخام.

يتعلق أول هدف من الخطط الجيوسياسية بالوصول إلى الموارد، ومن المعروف أن أميركا الجنوبية تملك موارد فائضة، فهي تضم حوالي 30% من مجموع الطاقة الإنتاجية الحيوية في العالم. ربما من المكرر أن نقول إن غابات الأمازون المطيرة هي أشبه بِرئتي العالم، ولكن الأمر صحيح. تُعتبر هذه القارة أيضاً سلة غذاء العالم بوصفها أبرز مصدر للأغذية الأساسية في العالم، فأميركا الجنوبية هي مصدر معظم الإمدادات العالمية من الموز، والسكر، والبرتقال، والقهوة، وحبوب الصويا، والسلمون، فضلاً عن مساهمتها في حصة كبيرة من إنتاج لحوم البقر والخنازير.

 على صعيد آخر، تضم هذه المنطقة كميات هائلة من الثروات المعدنية: الفضة والنحاس والرصاص والقصدير والزنك وخام الحديد والليثيوم.

 لكن أهم ما في الأمر هو أن أميركا اللاتينية تُعتبر مكاناً محورياً لتطبيق أي استراتيجية تضمن الاكتفاء الذاتي في قطاع الطاقة. يبدو مستقبل أميركا الشمالية في ما يخص تأمين مصادر الطاقة واعداً منذ الآن نظراً إلى توافر احتياطيات النفط والغاز في قاع المحيط المتجمد الشمالي، والرمال النفطية العملاقة في كندا، وآبار النفط في خليج المكسيك، واحتياطيات الصخر الزيتي والغاز المكتشفة حديثاً في الولايات المتحدة.

 وبفضل الاكتشافات الكبرى للنفط على طول الساحل الأطلسي في البرازيل، إلى جانب مخزون فنزويلا الاحتياطي الهائل، يبرز حل شامل يضمن استقلالية قطاع الطاقة بالكامل عن الاضطرابات الحاصلة في أوراسيا وإفريقيا، وأفضل ما في الأمر هو أن هذه الموارد تبدو مستدامة في هذه المنطقة. كما أن الإيثانول المستخرج من قصب السكر البرازيلي يتمتع بفاعلية إنتاجية تفوق الإيثانول المستخرج من الحبوب في أميركا الشمالية بأربعة أضعاف.

 وفق دانيال يرغين الخبير في مجال الطاقة، يبدأ محور الطاقة الغربي الجديد من ألبرتا في كندا- علماً أن الولايات المتحدة تحصل منها على 1% من وارداتها النفطية سنوياً- ويمر بتكساس وخليج المكسيك وصولاً إلى فنزويلا وغويانا الفرنسية والبرازيل، يجب أن تركز سياسة الطاقة في الولايات المتحدة على هذا المحور الغربي، وذلك تزامناً مع توجه سياسة الطاقة الصينية نحو الشرق الأوسط. في هذا السياق، يمكن تأخير المرور بخط أنابيب “كيستون إكس إل” من ألبرتا إلى تكساس، لكن لا يمكن تجنبه.

 من الضروري أن نبني اقتصاداً جديداً في ذلك النصف الغربي من العالم لضمان استقلالية قطاع الطاقة فضلاً عن معالجة مسألة القدرة التنافسية الصناعية. يشكل عدد السكان في أميركا اللاتينية (900 مليون نسمة، أي ما يساوي 12% من سكان العالم تقريباً) نظاماً اقتصادياً بقيمة 6 تريليونات دولار، وهو يساوي حجم الاقتصاد الصيني. فضلاً عن ذلك، من المعروف أن مجتمعات أميركا اللاتينية هي أكثر شباباً وتمدناً من شعوب آسيا، ما يجعل هذه المنطقة شريكاً عالي الإنتاج بالنسبة إلى الولايات المتحدة.

 على صعيد آخر، تشعر الأنظمة الاقتصادية اللاتينية الآن بخطر الاقتصاد الصيني بقدر ما تشعر به الولايات المتحدة. لقد أغرقت الصين المنطقة بجميع أنواع السلع، بدءاً من الملابس ووصولاً إلى الهواتف الخليوية، ما يهدد حوالي 90% من صادرات الصناعة في أميركا اللاتينية (وهي تساوي 40% من مجموع صادراتها) وما يُضعف قطاع التجارة أيضاً.

 يتجه حوالي نصف صادرات الصناعة البرازيلية نحو دول أميركا اللاتينية الأخرى، وقد أصبح ثلثا تلك الأسواق (بجميع السلع التي تطرحها، بدءاً من الأحذية ووصولاً إلى السيارات) عرضة للخطر بسبب المنافسة الصينية.

بدل اللجوء إلى آسيا لشراء المنتجات وتسريع نمو المنافسين الاقتصاديين، يمكن أن تنظر الشركات الأميركية إلى منطقة أقرب إليها ويمكن أن تنظم مشاريع مشتركة في مجال الطاقة والتصنيع في أنحاء تلك المنطقة. بدأت هذه الخطوات تُنفّذ لدرجة معينة، لكن لم يتم استغلال جميع الفرص المتاحة بعد. مع ارتفاع أجور الصينيين في المناطق الساحلية، عمدت بعض الشركات الأميركية إلى تغيير تمركزها وتوجهت إلى المكسيك المجاورة التي تقدم سعر صرف أقل تقلباً وتضمن توثيق العلاقات السياسية الثنائية. تعني جميع هذه المعطيات تراجع المخاطر المطروحة وتحقيق مكاسب أكبر في نهاية المطاف. وحتى صناعة تكنولوجيا المعلومات التي ترتكز على المصادر الخارجية وتبلغ قيمتها 100 مليار دولار يمكن إعادة توجيهها من الهند إلى المناطق المجاورة للولايات المتحدة. على المدى البعيد، ستكون هذه السياسة الصناعية الغربية الطريقة الوحيدة التي تضمن بقاء الأميركتين ضمن المنافسة مع آسيا التي تتمتع بيد عاملة قوية وبدأت تواكب الغرب في الابتكار.

 نظراً إلى انتشار المخاوف من نمو المنافسة التي تطرحها الصين، ومع تزايد شكوك الجهات الدولية باحتمال الاحتكام إلى النزعة البراغماتية لتلبية الحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، حان الوقت للعمل باتجاه عقد ميثاق جديد في القارة الأميركية. في الوقت الراهن، بدأت الجهات المعنية تنظر باتفاقيات التجارة الحرة الأميركية مع كولومبيا وبنما، لكن قد يعني تكثيف هذه الاتفاقيات في أنحاء المنطقة زيادة عمليات التصدير وفرص العمل في الاقتصاد الأميركي المضطرب. لكن في المقابل، لا يمكن تعزيز الروابط بين هذه الدول من خلال فرض رسوم جمركية على الفولاذ البرازيلي والتردد في عقد اتفاق تجاري حر مع كولومبيا مثلاً. ستستفيد الولايات المتحدة من تسريع عملية خلق فرص العمل وتحريك النمو الاقتصادي في “جمهوريات الموز” السابقة من أميركا الوسطى (وهي الدول التي يعتمد اقتصادها على إنتاج الفاكهة)، ولن تقتصر مكاسب الولايات المتحدة على تراجع حركة توافد المهاجرين بطريقة غير شرعية، بل إنها ستكسب دولارات حقيقية: تصدر معظم هذه البلدان سلعها عن طريق فلوريدا وتستعمل الخطوط الجوية والموانئ الأميركية.

 يتمثل أبرز تحدٍّ يواجهه أوباما بجعل أميركا اللاتينية جائزة استراتيجية كبرى بدل أن تكون موضوع نقاش في الكونغرس. يمكنه السير على خطى وزير الخارجية البرازيلي سيلسو أموريم الذي أعلن حديثاً: “التكامل أمر ضروري لأننا سنكون أقوى إذا اتحدنا وسط هذا العالم المؤلف من تكتلات كبرى”.

 اعتاد النقاد في هذه الفترة على اعتبار أن مركز جاذبية العالم بدأ يتجه نحو الشرق، لكن قد يكون الواقع مغايراً. بل قد تقضي المناورة الجيواستراتيجية الأكثر أهمية حتى الآن بوضع أميركا الجنوبية في موقعها المناسب، بصفتها الركيزة الثالثة للغرب إلى جانب أوروبا وأميركا الشمالية. خلال العقود المقبلة، قد تحتاج الولايات المتحدة إلى توجيه قوتها نحو الشرق، لكن سيكون الجنوب مصدر تلك القوة. يظن البعض أن مستقبل المنافسة سيتوقف على الوضع في الجهة الأخرى من منطقة المحيط الهادئ، وقد يكونون على حق، لكن إذا نجحت الولايات المتحدة في إنشاء اقتصاد غربي جديد مع أميركا اللاتينية، فسيضطر الشرق حينها إلى بذل الكثير لمواكبة الغرب.

*مجلة فورين بوليسي - باراغ خانا