قراءة في خطاب الإمام خامنئي أمام شباب الصحوة

قراءة في خطاب الإمام خامنئي أمام شباب الصحوة
الخميس ٠٢ فبراير ٢٠١٢ - ١٢:٥٥ بتوقيت غرينتش

يمكن اعتبار خطاب الإمام السيد علي خامنئي في جموع الشباب العربي الثوري بمناسبة مؤتمر الشباب والصحوة الإسلامية، لحظة مفصلية وتاريخية ليس فقط على صعيد فعاليات المؤتمر، بل على صعيد مآلات واتجاهات المشهد الثوري في المنطقة.

لا يسوغ لقراءة سياسية دقيقة تتناول حدث احتضان طهران لمؤتمر الشباب والصحوة الإسلامية أن تقف بنا عند حدود التوقيت ودلالاته، أي من كون المؤتمر ينعقد على أعتاب عشرة الفجر؛ ذكرى انتصار الثورة الإسلامية، وبعد نحو عام من تفجّر الثورات في العالم العربي، لتوكيد الصلات الروحية والمعنوية بين الثورة الإسلامية و ما تطلق عليه إيران عنوان "الصحوة الإسلامية".

ففي الواقع هذا الاحتضان يتجاوز ذلك لينسلك في دائرة صراع شرس؛ أصبحت تجلياته واضحة؛ بين إرادة أميركية تعمل على تدجين حركة الأمة وتفريغ ثوراتها من أي مضمون قد يشكل تهديدا لمصالحها على المدى القريب أو البعيد، وذلك عبر إخضاعها لما يسمى بخطط الانتقال الديمقراطي باعتباره سقف الممكنات السياسة المقبولة أميركيا وإسرائيليا..وبين إيران الثورة والتي تجد في ثورات الشعوب عمقا إسلاميا يتناغم مع هويتها الدينية وتطويحا بنظام عربي رسمي متأمرك تآمر عليها طيلة عقود وحوّلها إلى عدو، بل وشكل حاجزا بين نموذجها الثوري والشعوب العربية؛ نظام متأمرك عطل انبثاق الأمة الموحدة الشاهدة على عصرها والمنخرطة في المعركة ضد الاستكبار العالمي.

فبينما تجد إيران في وقائع الصحوة الإسلامية رافعة في المعركة ضد الاستكبار والصهيونية، وتثمين لموازين القوى بما هو في صالح الأمة، تراهن أميركا على تحريف الثورات وحصرها في حدود مجرد انتقال ديمقراطي قابل لأن يتعايش مع نزعتها في الهيمنة بل ويتسالم مع حليفتها (إسرائيل).
في هذا الإطار يمكن وضع الخطاب الهام للإمام خامنئي والذي مثلّ اللحظة المفصلية الأكثر ثورية في فعاليات مؤتمر الشباب والصحوة بطهران.

وبتأمل في خطاب الإمام خامنئي، نجده - كالمعهود من سماحته- محكما في بناءه المنهجي، متميزا بتلك الإنسايبية في محاوره ومفاصله، متسما بالاستيعاب للحظة التاريخية على وفق ثابت الصراع مع جبهة الاستكبار..وأهمية الخطاب ليست نابعة فقط من لحظته الثورية الجامعة بين قائد ثوري ومرشد لواحدة من أعظم الثورات في التاريخ وبين طلائع ثورية شبابية خرجت من هامش الصمت والقهر، فغيّرت المعادلة السياسية في عالمنا المعاصر والتي إلى حين كانت تبدو عصية على الحلحلة. بل إن الأهمية المضافة هي في ما يقدمه الخطاب من قراءة في المشهد الثوري تخرجه من التفصيلي والجزئي المشوِّش إلى حيز التجلي الواضح ضمن الأبعاد الجيواستراتجية ومن منطلق رؤية إسلامية يتمحض فيها الإمام بحكم مكانته الفقهية وزعامته السياسية والدينية.

ابتدأ الخطاب من مدخل يتماهى فيه الماهوي بالتاريخي، فحركة الشعوب هي انتفاضة ضد الديكتاتوريات العميلة وهي مجرد بداية للتحرك ضد الديكتاتورية العالمية لما سماه الإمام بـ "الشبكة الصهيونية الخبيثة والفاسدة والاستكبارية"، منوها بدور الشباب في هذه المهام التاريخية الكبرى. ورأى سماحته فيما حصل مفصلا تاريخيا وانعطافة كبرى تضع البشرية على أعتاب تطور عظيم، تستكمل معه تجاوزها لمختلف المدارس والايديولوجيات المادية لتنفتح على الله وعلى معطيات الوحي. وفي هذا الطرح تقويض جذري لأطروحة الفيلسوف الأميركي- الياباني الأصل- فرنسيس فوكوياما صاحب فكرة نهاية التاريخ، والذي أكد على أن الديمقراطية الليبرالية هو الطريق الوحيد الذي يجب سلوكه لدخول التاريخ الكوني، معتبرا أن كل المراحل السابقة على الديمقراطية الليبرالية مراحل ما قبل التاريخ، وبأن وبوصول المجتمعات البشرية إلى هذه المرحلة من التاريخ الكوني ينتهي التاريخ، متجاهلا في كتابه المجتمعات الإسلامية ودورها في مستقبل الصراع العالمي وبناء المجتمع الدولي الجديد، حيث لم يورد عنها إلا معطيات هزيلة ومحدودة.

وبدل الاتجاه القهري للتاريخ الذي تخيله فوكوياماـ فإن الإمام خامنئي يؤكد على دور الإرادة الإنسانية في حركة التاريخ وفق السنن الإلهية، لذلك نجده في الموضعة التاريخية يدرج انتفاضة شعوب المنطقة في إطار الكفاح الإنساني المتواصل للتحرر من الديكتاتورية العالمية للصهانية، ويرى "أن المجتمع البشري وباجتيازه لهذا المنعطف التاريخي الكبير، سيتخلص من هيمنة هذه الديكتاتوريات الخطيرة، كما أن هذا التطور العظيم سيفضي بالتالي إلى تحرر الشعوب وسيادة القيم المعنوية والإلهية وفقا للوعد الالهي الصادق". وهذه العقبة أي اجتياز هذا المنعطف الحاسم في الصراع مع الديكتاتوريات لا يمر عليه الإمام من دون بسطٍ للرؤية، خاصة وأن السؤال الملح هو في كيف يمكن تخطي هذه العقبة؟ هنا يستعين الإمام بنظرية الممكن والمستحيل في التجارب التاريخية، وهي ما لا يمكن إغفالها في قراءة المشهد الثوري للشعوب، فقد عمدت المقاومة على كسر المستحيل كما في تحرير جنوب لبنان عام 2000، وانكسر المستحيل ثانية مع انتصار حزب الله في حرب 2006 على (إسرائيل)، ثم تكسر ثالثا على أيدي المقاومة الفلسطينية مع فشل أهداف العدوان في الحرب على غزة أواخر 2008 وبداية2008، وهذا الكسر للمستحيل تسلل إلى الوعي الجمعي للأمة، ومثّل أحد بواعث صحوتها وانتفاضتها المشهودة. من هنا يرى الإمام أنّ هذا اليقين في تحويل المستحيل إلى ممكنات تاريخية هو من تجليات القوة الإلهية بوجه الطغيان، مشددا على لزوم الأخذ بالأسباب حيث يقول:"إن الحضور الواعي للشعوب في الساحة وصمودها، مهد الأرضية لتحقيق النصرة الإلهية".

وهي النصرة التي ستتوج الكفاح حتى نهايته مادام موصولا بالله ومشدودا إلى قيّم العدل والحرية، فالإمام يعتبر ما تحقق هو نتيجة الاتجاه الصحيح في حركة الأمة من حيث مبادرتها إلى التخلص من عوائق الطغيان في طريقها، معتبرا أن ما تحقق من انتصارات هو مجرد بداية، والقارئ للأوضاع في البلدان التي أزاحت فيها الشعوب الحكام الطواغيت يتيقن من تعقيدات المرحلة الانتقالية وتحدياتها المتعددة وبالتالي فلا مجال للاسترخاء، يقول الإمام خامنئي: " بل علينا مواصلة الكفاح ضد متغطرسي العالم وعملائهم من خلال المجاهدة والاعتماد على إرادة الشعوب والاتكال على الله تعالى والإيمان بنصرته"، وهي لعمري معادلة الخلاص من شرور الديكتاتورية والى الأبد.

ولأن الإنسان بحاجة إلى الحس لتعزيز قناعاته الإيمانية، فقد عطف الإمام خامنئي القول على تجربة إيران الإسلامية والتي لم تبارح جبهة الاشتباك مع العدو وعلى كل الجبهات، واستطاعت برغم ما جمع لها العدو من إمكانات وتحالفات من أن تحقق الاختراق وتبني نموذجها الإسلامي الحداثي وتحصنه بالخصوصية والاستقلال..ولأن الثورة تحدّ وصراع ولا مجال فيها لمنطق التطمينات على غرار ما بادر إليه الإسلاميون في كل تونس ومصر والمغرب، فالإمام يقول: "إن الشباب المؤمن في إيران الإسلامية ورغم كافة العراقيل التي وضعها الأعداء أمامهم، حققوا انجازات يمكن أن تكون درسا وأنموذجا لشباب كافة الشعوب الإسلامية"، ومن هنا فهو يؤكد على أهمية الوعي وثقة الأمة في قدراتها لإحباط مخطط العدو الذي يوحي للأمة بأنها غير قادرة على التخلص من القوى المهيمنة على مقدرات الشعوب، واصفا القرن الحالي في سياق حركة الوعي هذه؛ بأنه "قرن الإسلام والقيّم المعنوية"، محفزا الأمة على حسم المعركة مع الديكتاتوريات، لتنهض بمسؤولياتها تجاه الشعوب الأخرى والارتقاء إلى أفق انتظاراتها، فالإسلام وكما يقول الإمام : "جاء إلى الشعوب بالعقلانية والمعنوية والعدالة معا".

ولم يفت السيد خامنئي وعلى ضوء نقطة الضعف الكبرى في انتفاضات الشعوب؛ والمتمثلة في غياب قيادات سياسية لهذا الحراك؛ ومن منطلق تجربة مديدة مع جبهة الاستكبار الرافضة لمبدأ حرية الشعوب وسيادتها؛ أن ينبّه من مخاطر الاحتواء والسرقة والتمييع لهذه الثورات، وقد وجه كلامه بشكل خاص إلى الطلائع الشبابية الثورية صاحبة هذه الانجازات الثورية، يقول:" إن العدو يخطط للتآمر ويجب على الشعوب المسلمة وخاصة شباب الأمة الإسلامية الذين هم محرك الصحوة الإسلامية أن لا يسمحوا لشبكة الاستبداد العالمية من خطف ثوراتهم، والانحراف بها عن مسارها في الحاضر والمستقبل".
كما نجد السيد خامنئي يحذر من خطة العدو في تقسيم المشهد الثوري على أسس مذهبية، فيتم تغييب ثورة شعب عن المشهد الإعلامي؛ وبمباركة جهات علمائية نافذة كما يعلم الجميع، مع أنه يواجه نفس الأوضاع وله نفس الأهداف والتطلعات شأنه في ذلك شأن الشعوب الثائرة، لا لشيء سوى أن المعطيات الديمغرافية تجعل من الشيعة أغلبية شعب البحرين، وهنا يؤكد الإمام خامنئي:" إن حركة الصحوة الإسلامية لا تميز بين الشيعة والسنة، وأن أتباع جميع المذاهب الإسلامية حاضرون في ساحة النضال بوحدة ووفاق".

وكانت إشارة دقيقة من الإمام خامنئي حين شدد على ضرورة تثبيت التناقض الرئيسي مع العدو، فالاختلافات في واقع الأمة متعددة ولا يجب أن تتحول هذه الاختلافات إلى عناوين اشتباك تستنزف قوى الأمة، منوها إلى أن " الأمر المهم هو أن الجميع يعارض هيمنة الصهاينة والأميركان ولا يطيقون وجود الغدة السرطانية (إسرائيل)".

ولم يكن الخطاب بحكم شموليته أن يقفز على الحدث السوري؛ على مع ما فيه من حساسية بفعل التضليل الإعلامي الممنهج والذي لعب على وحدة السياق للتحريض على النظام السوري وشطب سوريا من محور المقاومة والممانعة خدمة لأميركا و(إسرائيل)، نعم لم تتم الإشارة إلى سوريا بشكل مباشر، لكن عندما وضع السيد الإمام معيارا لتحديد المواقف من التطورات في المنطقة، فالأمر أصبح جليا، يقول:" يجب توخي الحذر، فأينما يوجد نشاط ومخطط يصب بمصلحة (إسرائيل) وأميركا يجب عندها توخي الحذر، وأن نعتبرها حركة غريبة ومعارضة لمصالح الشعوب. وأينما توجد حركة إسلامية معادية للصهيونية والاستكبار والاستبداد والفساد، فإن جميع الشعوب المسلمة ستكون مؤيدة وداعمة لها".

وبالفعل فبرغم ان النظام السوري استجاب لمطلب الإصلاح وشرع فيه بجدية، وبرغم دعوته المعارضة الداخلية لمائدة الحوار كمدخل لتحصين سوريا وموقع سوريا ودورها في الصراع، ولتنزيل مشروع الإصلاح، فإن المخطط الأميركي الإسرائيلي العربي الرجعي تمكن من اختراق الحراك المطالب بالإصلاح، وهو يعمل الآن على قصم ظهر محور الممانعة، والأمر صار مكشوفا، خاصة بعد تصريح برهان غليون رئيس "المجلس الاسطنبولي" الذي وضع تصوره لسوريا خارج سياق محور الممانعة، ولا يخطئ في قراءة الحدث السوري إلاّ من تعنت أو من أسلم نفسه لآلة التضليل الإعلامي.

ولأن خطاب الإمام استيعابيّ للحظة التاريخية وتحدياتها، فقد جاء الحديث عن الثورة المظلومة؛ ثورة شعب البحرين؛ مشوبا بالمرارة والألم، خاصة أنها لم تلقى الإهتمام المطلوب حتى من الثورات الظافرة، والتي على الثوار وشباب الصحوة أن ينصفوها، يقول الإمام:" إن وسائل الإعلام الغربية أو تلك المرتبطة بالغرب تريد ومن خلال بث الخلافات، الإيحاء بأن قضية البحرين هي قضية الشيعة والسنة، والحقيقة أنه لا يوجد أي فرق بين حركات الصحوة الإسلامية في مختلف الدول"، وهذا ما يلزم منه خلق فضاء ثوري قائم على التلاحم بين الثورات والتآزر في ما بينها، فلن يتغير شيء كبير في العالم العربي إن تمكن بعض الطغاة العملاء من الحفاظ على كراسيهم، ليستثمروا أموال الأمة في شراء الوقت، وفي إثارة الفتن بين شعوب الأمة الواحدة.

وبلغة الواثق بربّه، وببصيرة المؤمن المنقطع إلى مولاه، المنتظر لوعده، وبخبرة القارئ للأحداث، المستشرف لاتجاهاتها على ضوء السنن الإلهية، توقع الإمام خامنئي أفقأ مشرقا لهذه الصحوة التي انبثقت في العالم الإسلامي، مشددا على أن الاختلافات في واقع الأمة هي تنوع في إطار الوحدة؛ وحدة الأمة السائرة على هدي دينها، متوقعا أن يشهد هؤلاء الشباب الذين حجوا إلى عاصمة الثورة مرحلة مجد وعزة واقتدار الأمة الإسلامية.

هو إذا خطاب تاريخي بامتياز جاء في مستوى تاريخية ومصيرية التطورات التي تشهدها المنطقة، خطاب أعاد التذكير بالعديد من تيمات الخطاب الإسلامي الثوري ومفاهيمه من قبيل: الصراع مع الاستكبار العالمي، الوحدة الإسلامية، العزة والاستقلال، الصمود بوجه القوى المعادية، متغطرسي العالم..وهي المفاهيم التي أنصت إليها الشباب الثوري العربي بإرهاف، ومن دون شك بأنها ستجد طريقها إلى خطاب إسلامي ننتظر تبلوره على قاعدة ما تحقق من منجز ثوري؛ منجز يحتاج بالإضافة إلى الإرادة الثورية لاستكماله، صرامة الخطاب وأصالته.
*  عبد الرحيم التهامي?