ثورة الحسين (ع): دروس وعبر (2)

ثورة الحسين (ع): دروس وعبر (2)
الأربعاء ١٣ نوفمبر ٢٠١٣ - ٠٤:٣٣ بتوقيت غرينتش

لما دخل الحسين بن علي مكة فرح به أهلها فرحا شديدا وجعلوا يختلفون اليه غدوة وعشية، وأقام باقي شهر شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة في مكة ، دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس على الحسين. وأشار عبد الله بن عمر على الحسين أن يدخل في صلح مع يزيد. فقال له الحسين: يا أبا عبد الرحمن ! انا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال رسول الله فيه وفي ابيه ما قاله؟

فقال ابن عباس: صدقت يا أبا عبد الله ! قد قال النبي: "ما لي وليزيد، لا بارك الله في يزيد، فإنه يقتل ولدي، وولد ابنتي الحسين بن علي، فوالذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه، الا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم".
فقال الحسين: " يابن عباس ! فما تقول في قوم اخرجوا ابن بنت رسول الله من وطنه وداره؛ وموضع قراره ومولده؛ وحرم رسوله ومجاورة قبره؛ ومسجده؛ وموضع مهاجرته وتركوه خائفا مرعوبا: لا يستقر في قرار، ولا يأوي في وطن، ويريد بذلك قتله، وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئا، ولا اتخذ من دون الله وليا، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله (ص) وخلفاؤه من بعده.
فقال ابن عباس: ما أقول فيهم، إلا أنهم كفروا بالله ورسوله (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) التوبة 54، (يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا* مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) النساء،142 و 143، فعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى   .
واجتمع أهل الكوفة  في منزل سليمان بن صرد الخزاعي وخطب فيهم ودعاهم الى نصرة الحسين بن على وقد وعدوا بأن ينصروا الحسين، فأخذ سليمان بن صرد عهدا وميثاقا منهم أن لا يغدرون ولا ينكثون فكتبوا كتابا الى الحسين دعوه للقدوم الى العراق... فلعل الله تعالى أن يجمعنا بك على الحق. ثم ارسل أهل الكوفة رسلا الى الحسين ومعهم نحو خمسين ومائة كتاب يسألونه القدوم عليه، والحسين يتأنى في أمره ولا يجيبهم في شيء .
فعندها قام الحسين وتوضأ وصلى ركعتين بين الركن والمقام، ولما انفتل من صلاته، سأل ربه الخير فيما كتب اليه أهل الكوفة، ثم رجع الى الرسل، فقال لهم "إني رأيت جدي رسول الله (ص) في منامي، وقد أمرني بأمر، وأنا ماض لامره، فعزم الله لي بالخير، فانه ولي ذلك والقادر عليه.
وارسل الحسين الى أهالي الكوفة كتابا أعلمهم فيه بانه بعث اليهم ابن عمه مسلم بن عقيل وطلب منهم ان يبايعوه ولا يخذلوه، وأرسل الكتاب مع ابن عمه مسلم، وأوصاه بأن يخبره اذا كانوا مجتمعين على بيعته ثم عانق مسلم وودعه .
توجه مسلم بن عقيل الى الكوفة ولما وصلها نزل في دار مسلم بن المسيب وهي دار المختار بن يوسف الثقفي، فجعلت الشيعة تختلف اليه وهو يقرأ عليهم كتاب الحسين والقوم يبكون شوقا الى مقدم الحسين .
وبلغ النعمان بن البشير امير الكوفة نبأ قدوم مسلم بن عقيل، خرج من دار الامارة وصعد المنبر في المسجد الاعظم فحذر الكوفيين من مبايعة مسلم بن عقيل، وهددهم بالسيف والقتل وارسل عبد الله بن مسلم كتابا الى يزيد بن معاوية، فأخبره بقدوم مسلم بن عقيل ومبايعة الشيعة للحسين طالبا منه ان يبعث رجلا قويا مكان النعمان بن البشير .
عندها كتب يزيد كتابا عين فيه عبيد الله بن زياد وكان واليا للبصرة، واليا على الكوفة وأخبره بقدوم مسلم بن عقيل الى الكوفة ومبايعة الشيعة له وطلب منه ان يأخذ بيعة مسلم أو أن  يقتله إن لم يبايع .
دخل عبيد الله بن زياد الكوفة متخفيا، فظن الناس انه الحسين وقد أجتمعوا حوله ولما علموا بانه عبيد الله بن زياد تفرقوا عنه، وقد سمع مسلم بن عقيل وصول عبيد الله الى الكوفة فانتقل الى دار هاني بن عروة وطلب منه ان يأويه، ففعل هاني بن عروة، ولكن عبيد الله بن زياد علم بان مسلم قد لاذ بدار هاني بن عروة، واستدعى هاني وطلب منه تسليم مسلم ولكن هاني امتنع عن ذلك فقال والله لا آتيك بضيفي فتقتله أيكون هذا من العرب؟ ولكن عبيد الله بن زياد ضرب هاني بن عروة في وجهه وامر بحبسه خشية من قومه وعشيرته .
جمع مسلم بن عقيل أهل الكوفة وقد بلغ عددهم ثمانية عشر الفا أو يزيدون وحاصر قصر الامارة ولكن اعوان عبيد الله بن زياد أرهبوا أهل الكوفة وأخافوهم بقدوم جنود أهل الشام  لمحاربتهم، فانفض الاصحاب عن مسلم بن عقيل وما غابت الشمس حتى بقي مسلم بن عقيل في عشرة من أصحابه واختلط الظلام فدخل مسلم المسجد الاعظم ليصلي المغرب فتفرق عنه العشرة ، فلما رأى ذلك مضى في بعض ازقة الكوفة فطلب ماء من صاحبة دار فروته، عندها طلب منها ان تأويه بعد ان اعلمها باسمه، ولكن ابنها وشى به عند عبيد الله بن زياد وارسل عبيد الله رجالا للقبض عليه ولكن مسلم حاربهم وقاتلهم قتال الابطال وقد وقع في اسر جنود عبيد الله وامر عبيد الله ان يضرب عنقه وصلبه مع هاني بن عروة.
كتب ابن زياد الى يزيد كتابا ذكر فيه كيف انه اخذ مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وكيف قتلهما ثم قال: بعثت برأسيهما مع هاني بن حية الوداعي والزبير بن الاروح التميمي. فلما ورد الكتاب والرأسان جميعا نصبهما على باب دمشق .
ثم  كتب يزيد كتابا لابن زياد قال فيه: بلغني ان الحسين بن علي قد عزم على المسير الى العراق فضع المراصد والمناظر والمسالح واحترس واحبس على الظن واقتل على التهمة واكتب في ذلك اليّ كل يوم بما يحد من خبر .
وبلغ الحسين ان مسلم بن عقيل قد قتل، فاستعبر الحسين باكيا ثم قال: "إنا لله وإنا اليه راجعون" رحم الله مسلما، فقد صار الى روح الله وريحانه وجنته ورضوانه، أما أنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا .
عزم الحسين على المسير الى العراق . وقد أشار العديد من  أصحابه وأنصاره عليه بأن لا يخرج الى العراق ومنهم ابن عباس ولكن جواب الحسين كان قراره بالتوجه الى العراق وقال لابن عباس: "والله يابن عم، لئن قتلت بالعراق احب الى من ان اقتل بمكة وما قضى الله فهو كائن". فالحسين اراد الخروج من مكة لكي لا تستحل من قبل يزيد .
وسار الحسين عليه السلام حتى صار على مرحلتين من الكوفة فإذا بالحر بن يزيد في الف فارس، فتردد الكلام بينهما حتى قال له الحسين: فإذا كنتم على خلاف، ما أتتني به كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم، فإني أرجع الى الموضع الذي اتيت منه، فمنعه الحر وأصحابه من ذلك .
فقام الحسين خطيبا في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه وذكر جده فصلى عليه ثم قال: "إنه قد نزل بنا من الامر ما قد ترون، وأن الدنيا قد تنكرت وتغيرت وأدبر معروفها وأستمرت حِذاء، ولم تبق منها الا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فإني لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الا برما".

شاكر كسرائي