لبنان يرفض المال إذا كان ثمنه «اللبننة»

لبنان يرفض المال إذا كان ثمنه «اللبننة»
الأربعاء ٠٢ مارس ٢٠١٦ - ٠٧:٣٠ بتوقيت غرينتش

لبنان مستهدف في سياسته واقتصاده وأمنه وتجربته الديمقراطية. ولكن السؤال: هل يستجيب أهله لـ «مغريات» الفتنة؟ أم ان العقل والحكمة وتجارب الماضي القريب ستوفر لهؤلاء الأهل حصانة ضد تلك الامراض المعدية؟ لقد استطاع هذا البلد ان يعيش بحكومة مؤقتة ردحا كبيرا من الزمن، كدولة تمارس سيادتها وترفض تمزيق شعبها المؤلف من أديان ومذاهب وطوائف عرقية، وكنظام سياسي يسمح بالتعددية من جهة وباستضافة الآخرين الذين لا يجدون ملجأ من جهة أخرى.

وها هم خصماء الأمس اصبحوا حلفاء اليوم، وها هي خيوط التمايز الديني تتلاشى مع إصرار عقلاء البلد على التعايش الايجابي الذي يحول دون سيطرة طرف على آخر. لقد قرر لبنان التصالح مع نفسه، فرفض عقلاؤه ما يحول دون ذلك التصالح او يعكر حياة أبنائه. وبعد أربعين عاما على بدء أكثر فصول تاريخه دموية، يواجه هذا البلد تحديات لا تقل عن ذلك الماضي. فقبل عامين كاد يسقط، كما سقط غيره، في مستنقع الأزمة الطائفية. وكاد الإرهاب يعصف بأمنه ويخترق حدوده.

مع ذلك لا يزال التحدي قائما، فلم يستطع هذا البلد انتخاب رئيسه برغم المحاولات المتواصلة، ولم يستطع غلق ملف التدخلات الخارجية او حماية حدوده بشكل كامل من محاولات الاختراق المتواصلة من شتى الأطراف وبأعذار شتى ودوافع متعددة. مع ذلك لا يزال اللبناني المسيحي قادرا على التعايش مع اللبناني المسلم، والسني لم يقطع خيوطه مع الشيعي او الدرزي. بل ان علماء لبنان يستحقون الاحترام لقدرتهم على العمل المشترك ضمن تجمعات واتجاهات مشتركة. وهذا ما يضفي على هذا البلد حيوية لا تتوفر في أغلب بلدان العرب المبتلاة بالعصبية والجهل والتطرف. وما يزال يجذب أموال الأثرياء العرب للاستثمار في عقاراته، المطلة على سواحل البحر المتوسط او تلك التي شيدت على هضابه الخضراء ذات الطقس المعتدل قياسا بما تعانيه دول عربية اخرى من حرارة صيفية لا تطاق.

هذه الايجابيات تخفي تحتها سلبيات غير قليلة. فقلة موارده جعلته متصلا بالخارج. فهو البلد الذي يعيش أغلب سكانه خارج حدوده بدون ان يكون محتلا كفلسطين، وينتظر حوالات مغتربيه لإعالة ذويهم في شتى بقاعه. كما ينتظر المساعدات من الدول الأخرى ذات الوفرة المالية تارة بدوافع انسانية، وكثيرا لأهداف سياسية.

في الأسابيع الأخيرة أعلنت الرياض سحب وعدها بتقديم ثلاثة مليارات دولار كانت قد وعدت لبنان بها، لهدف معلن يتمثل بمساعدة جيشها على تحديث نفسه ولأسباب مضمرة اهمها السعي لاحتواء سلاح المقاومة وتحجيم منظماته خصوصا حزب الله. والسبب المعلن لوقف المنحة بسيط: ان حكومته اصدرت بيانا اظهرت فيه قدرا كبيرا من التوازن بين الدول الأخرى الصديقة، ساعية لعدم الإساءة لأي منها. السعودية اعتبرت البيان دون توقعاتها،  فقررت سحب وعدها بتقديم ذلك الدعم. قد لا يكون ذلك القرار نهاية المطاف بالنسبة للبنانيين الذين يجدون أنفسهم في وضع صعب جدا. فهم يسعون للتعايش في ما بينهم ومنع الوقوع في مستنقعات الحرب الأهلية التي عصفت بهم خمسة عشر عاما أتت خلالها على الأخضر واليابس. وفي الوقت نفسه يبذلون جهدهم لإرضاء داعميهم وأصدقائهم. أصبح عليهم ان يختاروا بين تكرار الحرب الاهلية او خسارة المنحة المالية السعودية. وفي زمن أصبحت التحالفات فيه مؤسسة على استقطابات دينية او مذهبية او عرقية حادة، وجد قادة هذا البلد أنفسهم في وضع صعب وهم يسعون للتوفيق بين سياساتهم الخارجية والداخلية.

يعرف هؤلاء القادة ان سيادتهم مهددة لأسباب عديدة. أولها ان بلدهم يمارس نمطا خاصا من «الديمقراطية» التي تتيح لمكوناته البشرية قدرا من التعايش ضمن توازن قلق يخضع لتأثيرات الخارج. هذه الممارسة تعمقت وأصبحت مصدر فخر لأهله الذين يرفضون التخلي عنها، خصوصا بعد تجربة الحرب الآهلية المقيتة.

ثانيها: ان طوائفه وأعراقه لها ارتباطات بدول اخرى تشترك معها في الدين او المذهب او العرق، ويحرص قادته، الذين يمثلون هذه المكونات، على عدم الإخلال بتجربة التعايش المؤسسة على مستوى معقول من المواطنة المتساوية. وبرغم الانتقادات الموجهة لهذه التجربة ووصمها بمصطلح «الطائفية السياسية» فقد وفرت لشعب لبنان تجربة خاصة حالت دون انطلاق الثورات التغييرية التي شهدتها العديد من البلدان العربية في الأعوام الأخيرة. ولقد حدثت فيه أزمات حادة مثل إضراب عمال القمامة الصيف الماضي التي تحولت الى احتجاجات ضد الفساد، ولكنها خمدت بعد ثلاثة شهور.

ثالثها: ان لبنان كان، وما يزال مضيافا. فقد آوى المعارضين السياسيين من جميع البلدان العربية على مدى نصف القرن الماضي. فقد وجد هؤلاء فيه انفتاحا ثقافيا وفكريا وانسانيا لم يتوفر في اي بلد عربي آخر. فكانت بيروت ملجأ المناضلين الذين لا يجدون ملجأ ولم تنفتح أمامهم أبواب اللجوء للدول الغربية. هذه الحقيقة كانت، وما تزال، مصدر إزعاج للأنظمة العربية التي ترغب ان توصد الأبواب كافة أمام معارضيها لكي تزج بهم في السجون. ونظرا للتعدد الفكري والايديولوجي على الأرض اللبنانية فقد وجد اغلب اللاجئين جهات لبنانية تحميهم، فكأن بيروت تحولت الى برلمان عربي للمعارضين، لا يستطيع اي بلد آخر توفيره.

هذه الحقائق لا تلغي حقائق مهمة اخرى قد تؤدي لتغيير في المشهد اللبناني. فالعالم العربي اليوم ليس كما كان قبل ثلاثة عقود او اربعة. فقد تعمقت فيه حالة الاستقطاب الديني والمذهبي بشكل كبير. ولربما واجه كل من مكوناته مصيرا مختلفا لو كان يعيش في بلد آخر. فالمسيحيون في العراق، برغم تاريخ وجودهم الذي يصل الى اكثر من ألفي عام، وجدوا انفسهم مستهدفين.

فهدمت كنائسهم وقتل رهبانهم، وسبيت نساؤهم وبيعت في أسواق النخاسة. واستهدف المسلمون بشتى مذاهبهم لأسباب مذهبية تارة وايديولوجية اخرى. ولذلك يعتبر لبنان بوضعه الحالي غير منسجم مع الوضع العربي المحيط. فسوريا التي كانت هي أيضا ملاذا لمعارضي أنظمة الحكم في بلدانهم، استهدفت بلا هوادة ودمر شعبها وتاريخها وهويتها لأسباب عديدة.

ومع خروج مصر بشكل كامل من ساحة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، خصوصا بعد الانقلاب العسكري قبل ثلاثة اعوام، لم يبق الا لبنان مصدرا لازعاج الاحتلال الاسرائيلي. ولذلك اصبح استهداف قوى المقاومة، التي تنطلق من أراضيه، هدفا لقوى الثورة المضادة التي تضم «اسرائيل».  وليبيا اصبحت هي أيضا مهددة بالتقسيم الى دويلات ثلاث، وهو تهديد يجب ان يحظى باهتمام جاد. فاستقرار ليبيا قد يجعلها قادرة على احتضان ضحايا القمع السلطوي في البلدان العربية الاخرى، او قد يجعلها قادرة على تقديم أنموذج إيجابي جذاب للتحول الديمقراطي الممنوع في الدول العربية الاخرى.

ومع تصاعد احتمالات التسوية في كل من العراق وسوريا، أصبح شبح المجموعات المسلحة التي قد يضطر افرادها للعودة الى بلدانهم، كابوسا يقلق العديد من الدول العربية. وما تزال الذاكرة تختزن ما حدث في أفغانستان بعد خروج القوات السوفياتية من أراضيها في 1989.

يومها كانت البداية مع من أطلق عليهم «الأفغان العرب»، وهم النويات الاولى لتنظيم «القاعدة». فقد اجبر الرئيس الافغاني آنذاك، برهان الدين رباني، على طردهم، الأمر الذي ادى الى انتشارهم في الامصار من الشيشان الى البوسنة فالسودان والصومال. كانت نتيجة ذلك قيام تنظيم «القاعدة» وما نجم عن ذلك من تصاعد وتيرة ارهاب لم يشهد العالم مثله من قبل.

وبعد خمس سنوات من الحرب في سوريا وتصاعد احتمالات التسوية اصبح واضحا ان هناك مجموعات مسلحة تفوق في امكاناتها العسكرية وجنوحها للعنف غير المحدود ما كان لدى «الافغان العرب»، فأين يذهب هؤلاء؟ خصوصا ان اتفاقات وقف النار ومفاوضات جنيف لا تشمل المجموعات الاكثر تشددا مثل "داعش" والنصرة. ولذلك اصبح اللبنانيون، على اختلاف مشاربهم، يستشعرون الخطر ويرفضون السماح بثغرات أمنية تفتح الباب أمام تلك المجموعات.
 

اذا كانت الضغوط الخليجية على لبنان تهدف لتفتيت وحدته، او إضعاف نظام حكمه المركزي ليضعف ويسير في خطى افغانستان او باكستان او سوريا او العراق او ليبيا، فمن الضرورة بمكان ان يعي من يسعى لذلك انه يخدم السياسات الاسرائيلية التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية وإضعاف المجموعات المناوئة لها. وليس مستبعدا ان تشن قوات الاحتلال الاسرائيلية حربا جديدة على غزة بذريعة «تدمير الأنفاق» التي تبنيها حركة حماس.


فإذا ضعفت جبهة المقاومة في لبنان فمن المؤكد ان ذلك سينعكس على مجموعات المقاومة الفلسطينية، خصوصا حركتي حماس والجهاد الاسلامي. فقوة لبنان ووحدته وتماسك شرائحه الاجتماعية والسياسية ضرورة لوقف تداعي جبهة المقاومة من جهة، والقضاء على آخر أرض عربية ما تزال ترحب بعناصر المعارضات العربية التي ضاقت بهم بلدانهم التي اكتظت سجونها بالمناضلين.


ان استهداف لبنان يهدف لإلغاء ساحة الفكر الحر الذي نشأت فيه أجيال من النخب العربية، وتابعت من شواطئه أخبار شعوبها وتوجهات أمتها. المال النفطي يجب ألا يستخدم لبسط النفوذ او قمع الشعوب او دعم انظمة الاستبداد او تخطيط الانقلابات العسكرية او كسر إرادة الأمة، بل يجب ان يكون، كما كان النفط قبله، سلاحا في معركة الحرية والاستقلال والبناء، وإلا أصبح نقمة تصيب الجميع ولا يفلت من شرورها أحد.

د. سعيد الشهابي/ القدس العربي

3