عبد الباري عطوان يكشف المسكوت عنه في اتفاق التهدئة بالقاهرة

عبد الباري عطوان يكشف المسكوت عنه في اتفاق التهدئة بالقاهرة
الأحد ١٩ أغسطس ٢٠١٨ - ١٢:٠٥ بتوقيت غرينتش

في البداية كانت أهداف "الثورات" الفلسطينية تحرير كل فلسطين، ثم جرى تعديلها إلى دولة ديمقراطية علمانية تتعايش على أرضها جميع الأديان على أسس من المساواة، وبعد دخول الغرب المتحضر الداعي إلى البراغماتية على الخط، اختصروا هذه الدولة بحيث تكون على أقل من 20 بالمئة من حدود فلسطين التاريخية، والقبول بالقرار الأممي الملغوم 242.

العالم - مقالات وتحلیلات

لأن إسرائيل التي كانت تتلهف إلى أي لقاء مع الفلسطينيين، وتتطلع إلى الاعتراف باغتصابها للأرض، رفضت كل هذه التنازلات من قيادة منظمة التحرير، وخرجت علينا بضغوط دولية وعربية بمفهوم السلام مقابل التهدئة، وغدا التهدئة مقابل رغيف الخبز، وبعد غد التهدئة مقابل القبول باحتلال مذل مغموس ببعض ساعات من الكهرباء، وبضعة أميال إضافية للصيد في بحر غزة، وميناء في قبرص تحت إشراف إسرائيل.

وضع فلسطين الراهن هو الأسوأ، ويؤشر القادم إلى ما هو أكثر سوءا، فالفصائل تجتمع في القاهرة لتوقيع، أو الشهادة على توقيع اتفاق صاغته المخابرات المصرية بعد مفاوضات مع حركة "حماس" ودولة الاحتلال، ما زال غامضا، ربما يؤسس "لحل إنساني"، أي تخفيف الحصار على قطاع غزة، وفتح المعابر مقابل هدنة لمدة عام تتمدد لأربعة أخرى، شريطة وقف فوري لكل مسيرات العودة، وإطلاق البالونات الحارقة، وقيام شرطة "حماس" بمنع أي فصيل من إطلاق الصواريخ.

هذا التحرك جاء ليس حرصا على الشعب الفلسطيني وأمنه وحقوقه الوطنية، وإنما بعد نجاح مسيرات العودة، واستشهاد 160 فلسطينيا، وإصابة أكثر من ثلاثة آلاف آخرين، معظمهم باتوا مقعدين، وحرائق فرغت غلاف غزة من المستوطنين، ونجاح نهج "النار مقابل النار" والصواريخ مقابل الغارات، فهل الثمن المطروح على الشعب الفلسطيني، وفي القطاع خاصة، يرتقي إلى مستوى هذه التضحيات؟

***

إسرائيل التي استمتعت بتهدئة "مجانية" استمرت أربع سنوات ومنذ حرب عام 2014 وحتى أشهر معدودة، تشعر بالقلق، القلق على صورتها العنصرية الدموية التي فضحتها مسيرات العودة والخوف من اقتحام مليوني جائع فلسطيني الحدود، والزحف سلميا نحو مدنهم وقراهم المحتلة، ولهذا تريد التهدئة ووظفت السلطات المصرية للحصول عليها، ورسم خطوطها بنيامين نتنياهو أثناء اجتماعه السري مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في أيار(مايو) الماضي، وجرى التمهيد لها بالمزيد من الغارات، والتهديد باغتيال قادة حماس.

عندما يواجه الشعب الفلسطيني هذه الأيام أخطر مؤامرة على قضيته تتمثل في صفقة القرن، ويتم الاعتراف بالقدس عاصمة للدولة اليهودية، ويصدر الكنيست قرارا عنصريا يجعل كل فلسطين ملكا لليهود الذين يملكون وحدهم حق تقرير المصير، والآخرين أغراب، تنقل أميركا سفارتها من تل أبيب إلى القدس المحتلة، وتتعاظم عمليات التطبيع العربية مع إسرائيل، فهل هذا وقت التهدئة أم التصعيد؟

أبناء قطاع غزة الذين يشكل اللاجئون 80 بالمئة منهم، لا يريدون أن يتحول القطاع إلى سنغافورة، ولا إلى "مونت كارلو"، وإنما إلى جسر للعودة إلى فلسطينهم التاريخية، واستعادة كل حقوقهم المغتصبة ولم يذهبوا إلى الحدود في مسيرات العودة من أجل التهدئة، ولا من أجل عمل خمسة آلاف عامل في مطاعم تل أبيب واللد وأسدود وعسقلان وحيفا ويافا وباقي المدن المحتلة.

وفد حركة "حماس" دعا ممثلي الفصائل إلى القاهرة من أجل أن يكونوا شهودا على توقيع الاتفاق الجديد الذي حمله مهندسه اللواء عباس كامل، رئيس المخابرات المصرية، إلى تل أبيب لإقراره، وكنا نأمل أن يكون هذا الاجتماع الفصائلي غير المسبوق، للاتفاق على كيفية مواجهة صفقة القرن، وفرض وقف التنسيق الأمني والتصدي للقانون الإسرائيلي العنصري.

القطريون والمصريون في حال عداء غير مسبوق، ولكنهم وضعوا خلافاتهم وعداواتهم جانبا، واتفقوا على التهدئة، مصر تخطط، وقطر تمول، واللواء كامل يحمل الاتفاق إلى تل أبيب والسيد محمد العماري، السفير القطري في غزة، يلتقي إفيغدور ليبرمان الذي يهدد باجتياح قطاع غزة سرا في قبرص.. إنه لغز محير يستعصي على الفهم، فهمنا على الأقل، ومن يملك حل هذا اللغز نأمل أن يطلعنا وغيرنا عليه.

الرئيس عباس يعقد اجتماعا للمجلس المركزي الذي لا يضم غير الموالين له من أعضاء تنظيمه "فتح"، ودون مشاركة أي فصيل فلسطيني آخر، وكان أبرز قرارات هذا الاجتماع ليس تنفيذ قرارات سابقة بوقف التنسيق الأمني وسحب الاعتراف بدولة إسرائيل، وإنما دعوة عباس المناضلة عهد التميمي وبعض الأشقاء "المعاقين" إلى الجلسة المقبلة، وهذه خطوات جيدة، ولكن لماذا تذكرهم الان، هل هي الأهم؟ وهل تحول المجلس المركزي إلى منظمة إنسانية تناغما مع الحل الإنساني المطروح؟ ولماذا تأجيل القرارات إلى ما بعد دورة الأمم المتحدة؟

***

المعادلة في الحياة السياسية الفلسطينية كانت تقول إن هناك سلطة مستسلمة في رام الله ورطتنا في اتفاقات أوسلو، ولم نحصد من جراء ورطتها غير ضياع حل الدولتين وحق العودة ومدينة القدس، ووجود 800 ألف مستوطن في الضفة الغربية، وتحول قوات الأمن الفلسطينية إلى أدوات لحماية المستوطنين وقمع الشعب في أكبر "عمالة" في تاريخ الثورات، أما الشق الآخر من المعادلة، أن هناك جبهة مقاومة تنتمي إلى محور الممانعة بقيادة حركة "حماس"، الآن يلتقي ضلعا هذه المعادلة على أرضية التسابق لتوقيع اتفاقات مع الإسرائيليين تعطيهم الأمن والسلام والاستقرار المطلق، وتطبيق استراتيجياتهم العنصرية.

السيد أحمد جبريل، أمين عام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (القيادة العامة) اتفقنا معه أو اختلفنا، قال كلمة جوهرية في خطابه الذي بعثه إلى الوفد الذي يمثل حركته في اجتماعات القاهرة "الثورة الفلسطينية لم تنطلق من أجل أكل وشرب وإنما من أجل التحرير والعودة".

صديق هاتفته في قطاع غزة لكي أتعرف على حقيقة الأوضاع هناك مجددا وردود الفعل على ما هو مطروح من اتفاقات تهدئة، قال لي بالحرف الواحد "قدمنا آلاف الشهداء ودماء الجرحى، بنوايا طيبة، ولكننا نريد رغيف خبز مجبول بالكرامة".

آمل أن يحقق اتفاق القاهرة الذي قيل لنا إنه سيعلن بعد العيد آمال هذا الصديق القريب، والملايين غيره، ولكن يظل لدينا الكثير من الشكوك.

* عبد الباري عطوان