بعض من جماليات الثورات العربية

بعض من جماليات الثورات العربية
الجمعة ٢٣ سبتمبر ٢٠١١ - ٠٩:٢٦ بتوقيت غرينتش

يمكن لأحدنا أن يحلل ويكتب عن الثورات العربية من أي منظور يريده , ذلك أن الثورة هي حدث تاريخي هائل ومتشابك ومتداخل ومتعدد الأوجه , وهو أشبه بزلزال في الأرض , أو تسونامي منطلق من المحيط يقلب الأوضاع رأسا على عقب , ولكنه حدث هائل لا يقع في الطبيعة , وليس من صنعها إنما في المجتمع ومن صنعه , ويقطع بين ما قبل وما بعد , ليؤسس لما هو جديد , إن الثورة فعل ضروري لانتقال المجتمعات من حال إلى حال.

ولأن الثورة حدث استثنائي هائل ومركب ومعقد في الوقت نفسه, فهو جدير بالمقاربات المتعددة والمتنوعة , وأيضا, لأن الثورات العربية المستمرة في كل مكان من ارض العرب لا تخرج عن هذا القانون الذي تسير بمقتضاه الثورات والأنشطة البشرية , فهي أيضا قابلة لأنْ ينظر إليها من زوايا متعددة وتقبل كل المقاربات والتحليلات والتعليلات والتأويلات .

وعليه يمكن للمهتم بالفلسفة أن يقارب هذه الثورات من منظور فلسفي كلي , وآخر من منظور اجتماعي , وثالث من زاوية اقتصادية , ورابع من زاوية سياسية , وخامس من منظور أخلاقي , وسادس من منظور ثقافي أو ديني... الخ.

وأظن أن الثورات العربية ومن خلال متابعتي المتواضعة لمجرياتها , أنها قد أشبعت تحليلا ومقاربة من نواح متعددة , وهي كلها بتقديري مقاربات تسلط الضوء على جانب أو بعد محدد من أبعاد الثورة حسب المنظور , بمعني أن كل منظور يحلل جانبا دون أن يستغرق بقية الجوانب , بما أن الثورة إذا جاز القول هي أشبه بحجر الألماس المتعدد الأوجه والزوايا.

ولاشك أن المقاربات المتعددة للثورات العربية تزيدنا معرفة وعلما بأسبابها وسيرورتها وبمآلاتها وهي أمور مهمة جدا. لكن هناك جانبا من المقاربات قلما تنبه له المهتمون بتلك الثورات وهو لا يقل أهمية عن بقية المقاربات الأخرى على أهميتها , عنيت بذلك , البعد الجمالي في الثورات , أو ما يعرف بجماليات الثورة أسوة بجماليات أي شيء كقولنا جماليات المكان أو جماليات الكتابة أو جماليات البخل أو الكرم أو جماليات المدينة - وكأن الثورة بمعنى من المعاني لوحة فنية فسيفسائية فيها من تناغم العناصر والألوان الكثير , وفيها من التناقض الكثير , وفيها من التناظر الكثير , وفيها من التكامل الكثير , وفيها من التوازي الكثير أيضا , وفيها من التنافر الكثير , وفيها , وفيها.

فكما أن لكل ثورة نكهتها وخصوصيتها وأوجهها المتعددة, وأسوة بباقي الأشياء والأحداث فإن لها جمالياتها أو وجهها الجمالي وهي أمور تمثل جزءا من خصوصيتها التي تميزها عما عداها , أو مما هو مشترك مع غيرها.

وفي الثورات عادة ما يظهر البعد السياسي في الغالب , وهذا بدوره يغطي على الأبعاد والجوانب الأخرى , لكن حينما نتعمق قليلا فيما وراء السياسة أو المظاهر الخارجية , نجد أن تلك الثورات اقل ما يقال فيها , أنها تمثل مشروع حياة بديلا لما هو قائم , وهذا ما رأيناه في ميدان التحرير أثناء الثورة المصرية حيث تقوم حياة مليئة بكل ما هو جميل في الإنسان وكل ما هو رائع , تجلى ذلك في الفن وفي الصورة , في فن الخط في العلاقات الإنسانية الراقية بين الثوار في التعليقات والقفشات , في الإعلام والأعلام والهتافات , في الرقص والغناء , في الشعارات والنكات, في الرسومات والصور وفي الإبداع الخطابي , في الفكر والسياسة والثقافة في الأدب والشعر في المناظر والطقوس , في العمل التطوعي وحسن التنظيم, في الاحترام المتبادل بين المرأة والرجل , في الحب والزواج , في المودة والإخاء , في الحكايات والأدب, في اللغة والتعبير , في احترام الرأي والرأي الأخر , في التنوع والتعدد الفكري والديني والسياسي والانسجام فيما بينها , في تقديم الخدمات التي تتطلبها الثورة بطيب خاطر وبفرح غامر , في كل شيء الذي وضع في مكانه المناسب , الاحتفالات وأنشطة التسلية , الجد والهزل, في الاختيار الموفق لمكان الثورة ( ميدان التحرير وما له من دلالات في الذاكرة المصرية ) , والأهم من كل ذلك في جماليات الالتقاء العفوي فيما بين الناس / الجمهور وكأنهم يعرفون بعضهم بعضا منذ زمن , تظللهم جميعا الأخوة والمحبة والبراءة في الإعلاء من قيمة الإنسان , في الإعلاء من قيمة الحياة وحب الحياة , كلها عناصر وجوانب تمثل ما يعرف بجماليات الثورة.

ولا تختلف جماليات الثورة التونسية عن شقيقتها في مصر. فالثورة التونسية هي الأخرى أثبتت بما لا يدع مجالا للشك في تجمع ساحة القصبة أنها من بين أجمل الثورات العربية , وقد تجلت هذه الجماليات في إبداع المحتجين والثوار في أكثر من مجال في الفنون التشكيلية في الجلسات الحوارية , في الأناشيد الجميلة , في حضور الشاعر التونسي العظيم أبو القاسم الشابي , الذي تحققت نبؤته من خلال قصيدته ( إرادة الحياة ), والجماليات كثيرة من خلال الصور والرموز الثورية التي رفعها المحتجون , هذا فضلا عن الهتافات المتنوعة والموقعة من قبل الجمهور والمعبرة عن الروح المنطلقة من أعماق الشعب التونسي نحو الحرية والكرامة.

أما الثورة البحرينية التي بدأت في 14فبراير وما تزال مستمرة برغم محاولات النظام البحريني اليائسة في إسكاتها بالعنف فقد أبدعت جمالياتها بطريقتين ومن خلال مرحلتين.جماليات مرحلة دوّار اللؤلؤة والتي استغرقت شهرا واحدا وانتهت يوم 16/3/ 2011 يوم هجوم قوات النظام على المحتجين وبطريقة عنيفة ودموية , وجماليات المرحلة الثانية أو ما بعد الدوّار والتي مازالت مستمرة على الرغم من البطش الأمني.

في المرحلة الأولى أصبح دوّار اللؤلؤة مكانا ذا قيمة جغرافية وتاريخية وسياسية وفكرية واجتماعية , وكما حدث في ميدان التحرير بمصر من إبداعات وجماليات منقطعة النظير , فقد حدث ذلك في دوّار اللؤلؤة من قبل ثورة 14 فبراير.

فقد كان دوّار اللؤلؤة الذي كان قبل الثورة مجرد دوّار لتنظيم السير أصبح من خلال الثورة مكانا يحتل أهمية استثنائية في تاريخ البحرين المعاصر , وبات احد معالم البحرين المهمة على صعيد الواقع وعلى صعيد الذاكرة بعد إزالة النظام له من على وجه البسيطة , لأنه بات يمثل ذكرى سيئة وفقا لعقلية النظام الاستبدادية.

مثل الدوّار ساحة مناسبة لإظهار ما لدى الشعب البحريني من إمكانيات ليس في السياسة فحسب بل في مختلف مجالات الحياة , حيث أبدع الثوار والمحتجون والأدباء والمعلمون والأطباء والصحفيون والمفكرون والتجار والمثقفون والمرأة والرجل والناس العاديون وكل قطاعات المجتمع البحريني , أبدعوا ما لم يدر بخلدهم فيما قبل الدوّار , أبدعوا شعرا جميلا , أبدعوا جداريات لا أحسن ولا أجمل منها , أبدعوا منتديات متنوعة للكبار والشباب والصغار , في السياسة كما في الفكر , في الخطابة , كما في شئون المرأة , كان الدوّار مليئا بمختلف ورش العمل.

كان البعد الإنساني طاغيا في علاقات أفراد الجمهور , كان التعاون الجميل بين الناس لا يحده حدود , كانت البحرين تعيش من خلال الدوّار أفضل أيامها وأجمل أحلامها , وكل ذلك بفعل الثورة وما قدمته من جماليات افتقدها الشعب البحريني على امتداد سنوات , كانت جماليات عفوية من صنع الناس وباختيارهم وليس من صناعة النظام.

أصيب النظام البحريني بصدمة من جراء الإبداعات والمنجزات المتنوعة التي كانت كلها تعبر عن جماليات مكان الثورة ( دوّار اللؤلؤة ) وعن روحية جماهير الثورة وسلميتها , حيث أثبتت الثورة البحرينية للنظام وللعالم أنها سلمية وهذه إحدى أهم جماليتها.

أما المرحلة الثانية من جماليات الثورة البحرينية فتجلت في مرحلة ما بعد الدوّار منذ 16مارس حتى الآن. ومن أمثلة هذه الجماليات استلهام مجسم دوّار اللؤلؤة في أشكال مجسمة وفي أشكال طائرة , هذا فضلا عن الشعارات المكتوبة على الجدران ونوعية الخطوط والتفنن فيها , كما لا يغيب عن البال تلك الجمالية التي تمثلت في ما عرف بطوق الكرامة , أو طوق المنامة كما أسمته cnn العربية أو على وزن طوق الحمامة عنوان كتاب ابن حزم الأندلسي , وهو كتاب في جماليات الحب.

وأيا كانت الظروف التي تمر بها هذه الثورة أو تلك من صعوبات وعراقيل فإنها لا تتخلى عن جمالياتها وما يميزها من لمسات عما سواها , أما القاسم المشترك الجمالي في الثورات العربية على ما يبدو فهو حضور غيفارا الثائر الاممي , الرمز والصورة , فقد كان حاضرا في الثورة المصرية كما كان حاضرا في الثورة التونسية , وكان حاضرا في الثورة البحرينية , وهو حاضر ولا تخطئه العين في الثورة اليمنية. باختصار أن الثورات تظهر في الإنسان أجمل ما فيه , في حين أن الطغيان يظهر في الإنسان أقبح ما فيه.

*يوسف مكي – القدس العربي