دور القواعد العسكرية الأمريكية في البلدان، من الشرق الی الغرب

الأحد ٠٦ يوليو ٢٠٢٥
٠٤:٥٦ بتوقيت غرينتش
في غرب الكرة الأرضية، توجد دولة صغيرة تتوسط دول أمريكا الوسطى، أو المنطقة الواقعة بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية. اسم هذه الدولة هو هندوراس. في ثمانينات القرن الماضي، كان يُطلق عليها لقب "يو إس إس هندوراس" على اسم سفينة حربية أمريكية اشتهرت خلال الحرب الأهلية الأمريكية، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

من المفيد الإشارة إلى أن جميع السفن الحربية الأمريكية تبدأ أسماؤها بلفظ "يو إس إس"، وهو اختصار لـ "United States Ship" أي "سفينة أمريكية".

السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا تُسمى دولة بلقب هو اسم سفينة حربية أمريكية؟ ما علاقة هذا الموضوع ببلادنا؟ الجواب هو أن هندوراس كانت تلعب دور الدولة التي تحتضن القواعد الأمريكية. في المرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انطلقت في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي سلسلة من الثورات الاشتراكية والحركات السياسية التي كان هدفها التحرر من الهيمنة الأمريكية وتشكيل تعاون فعال بين شعوب هذه المنطقة للاستفادة من الطاقات البشرية والموارد الطبيعية، إضافة إلى تحقيق الاستقلال والحرية.

من كوبا إلى فنزويلا وكولومبيا وتشيلي وبوليفيا، كانت غالبيّة دول أمريكا اللاتينية تشهد صراعًا متصاعدًا للتحرر من الهيمنة. وهنا جاء دور هندوراس، الدولة التي كانت تُقدّم كنموذج ديمقراطي مناهض للأنظمة الاشتراكية والديكتاتورية المحيطة بها. بحسب الإعلام الأمريكي، كانت هندوراس مجرد واجهة لحكم عسكري ديكتاتوري.

السفارة الأمريكية والاستخبارات الأمريكية وقاعدة "صوت كانيون" العسكرية التابعة لسلاح الجو الأمريكي، سمحت لأمريكا بالسيطرة التامة على أجواء الدول المحيطة. لكن الدور الأهم الذي ساهم في إشاعة لقب "يو إس إس" كان عمليات الكونترا الشهيرة. عمليات الكونترا هي عبارة عن مشاريع قتالية نفذتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) عبر تجنيد عشرات الآلاف من المرتزقة من المنطقة ومن العالم لقتال الحكومات والقوى التي تشكل تهديدًا لهيمنة الولايات المتحدة.

في فترة الثمانينات، شكلت هندوراس مقرًا وممرًا لحملة عسكرية، ووصفها الكاتب الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي بأنها أكبر حرب إرهابية تُشن ضد دولة، حيث استهدفت تحديدًا دولة نيكاراغوا، التي استطاعت قبل فترة قصيرة من بدء حرب الكونترا التخلص من الديكتاتور التابع لأمريكا وتشكيل حكم ديمقراطي.

الحرب الإرهابية الأمريكية على نيكاراغوا لم تضعف الثورة والدولة فحسب، بل أدت أيضًا إلى قتل أكثر من 50,000 مواطن في البلاد بسبب العصابات الإرهابية التي كانت تُدار وتُسلح وتُموّل من خلال القواعد الأمريكية. لهذا السبب، تم تسمية البلد كله على اسم سفينة حربية أمريكية تُدعى "يو إس إس". في الكتاب المرجعي الشهير "الحجاب" أو "The Veil"، قام الكاتب الأمريكي بتوثيق فترة رئاسة ويليام كيسي لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، حيث يكشف إدوارد أن السفير السعودي السابق في أمريكا، الذي أصبح لاحقًا رئيس الاستخبارات السعودية، هو الأمير بندر بن سلطان، الذي حصل على دعم من حكومته، أي من الخزينة السعودية في ثمانينات القرن الماضي جزء كبير من الأموال التي احتاجتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) لتمويل عمليات الكونترا جاء من السعودية. وقد مرّ هذا الأمر عبر وسائل الإعلام السعودية، مثل صحيفة عكاظ، التي تعتبره من ضمن الإنجازات التي حققتها المملكة العربية السعودية في إطار محاربة الشيوعية. لكن هل تكشف واقعة التمويل السعودي لعمليات إرهابية أمريكية عبر هندوراس عن جانب مهم من موضوع حلقتنا، وهو القاعدة الأمريكية أو القواعد العسكرية الأمريكية؟

على الهامش، كانت هناك عمليات عبر هندوراس توفر فرصة لتهريب المخدرات من أمريكا اللاتينية إلى أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، برعاية الاستخبارات المركزية الأمريكية نفسها. ومن يرغب في معرفة المزيد عن هذا الموضوع يمكنه مشاهدة فيلم "American Made" المبني على قصة حقيقية تكشف بعض الأعمال الأمريكية القذرة في أمريكا الوسطى وأمريكا اللاتينية عمومًا.

في هذه المرحلة، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، نجد قاعدة أمريكية أخرى لا تقل أهمية عن القواعد الأمريكية في الغرب أو منطقتنا، وهي قاعدة أوكيناوا في اليابان. أوكيناوا هي جزيرة يابانية بالطبع، تقع في المحيط الهادئ، واحتلتها الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية. بعد مجازر مروعة، قررت الولايات المتحدة في عام 1952 إعادة الجزيرة إلى السيادة اليابانية مع الاحتفاظ بقاعدة عسكرية فيها تُسمى قاعدة كادينا، التي تضم أكثر من 20,000 جندي أمريكي وعددًا لا يحصى من الطائرات الحربية والقاذفات الاستراتيجية، بالإضافة إلى الكثير من أجهزة الرصد والتجسس.

الجدير بالذكر أن قاعدة كادينا تبعد عن مدينة شنغهاي الصينية حوالي 650 كيلومترًا فقط، ويشمل نطاق عملها وسيطرتها الاستخباراتية كل منطقة شرق آسيا. تلعب قاعدة كادينا دورًا أساسيًا في إدارة العدوان الأمريكي على فيتنام، حيث كانت نقطة انطلاق لقاذفات B-52 التي أدت إلى قتل عشرات الآلاف.

رغم أن قاعدة كادينا موجودة لحماية اليابان، إلا أن دورها الفعلي في الزمن الحاضر هو تشكيل تهديد عسكري وأمني واستخباراتي ضد الصين. والأهم من دور القاعدة نفسها هو أن اليابان كدولة تحدد توجهات سياستها الخارجية بناءً على توجهات قاعدة كادينا، بالإضافة إلى القواعد الأمريكية الأخرى في اليابان. لهذا السبب، تستمر اليابان في سياستها المعادية للصين رغم التطور الاقتصادي الصيني، حيث تسعى الصين إلى إقامة علاقات جيدة مع دول الجوار، وهو ما يتناسب مع مصالحها.

ومع ذلك، لا تزال اليابان بعيدة عن اليد الصينية الممدودة، تماشيًا مع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة قاعدة كادينا. تأثير القاعدة في اليابان لا يقتصر على التوجه السياسي للدولة، بل يمتد أيضًا إلى الصعيد الاقتصادي والاجتماعي. تشير الوثائق اليابانية إلى أن تأسيس القاعدة الأمريكية تم بعد مصادرة أراضي 50,000 أسرة من الجزيرة، وتم توسيع القاعدة لتسيطر على 20% من أراضي جزيرة أوكيناوا.

هذا الأمر أدى إلى إعادة هندسة شبكة الطرقات والبناء في الجزيرة بما يتناسب مع القاعدة الأمريكية، مما أحدث تغييرات ديموغرافية بنيوية في سكان جزيرة أوكيناوا. الأمور لم تقف عند هذا الحد، بل وصل تأثير القاعدة العسكرية إلى الصعيد الاجتماعي. في عام 1995، تم الكشف عن جريمة اغتصاب طفلة يابانية عمرها 12 عامًا على يد عدد من الجنود الأمريكيين في القاعدة. هذا الحدث أشعل ثورة غضب في الشارع الياباني لأنه جاء بعد سلسلة من القصص المشابهة التي شملت تحرشات واعتداءات على الممتلكات وإهانة لسكان الجزيرة طوال عقود وجود الجنود الأمريكيين عليها. وعلى صعيد الثقافة، اشتكى جزء كبير من أبناء الجزيرة من التغيرات الثقافية التي تؤدي لفقدان مكونات أساسية من هويتهم، مثل اللغة والموسيقى والطعام، وغيرها من عناصر الثقافة الأمريكية التي تنبع من قاعدة كادينا إلى جميع أنحاء الجزيرة واليابان. لهذا السبب، شهدت جزيرة أوكيناوا حلقات متواصلة من التحركات السلمية الرافضة لوجود قاعدة كادينا والداعية إلى خروج القوات الأمريكية منها. هذه التحركات لا تدعو فقط لتحقيق الاستقلال السياسي لليابان، بل أيضًا تحاول الحفاظ على الهوية الثقافية والقيمية لمجتمع يواجه آثار القاعدة العسكرية الأمريكية.

للمفارقة، تتهم الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الشخصيات اليابانية التابعة لها الصين بتمويل الحراك السلمي. وهنا يجب أن نلاحظ أن اليابان نفسها تعرضت لأبشع عملية تغيير اجتماعي وثقافي بعد الاحتلال الأمريكي في نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن المفيد في هذا المجال قراءة مقال الكاتب نوال العلي بعنوان "هل اليابان يابانية؟".

شاهد ايضاً.. بدء العملية الصاروخية الإيرانية ضد القواعد الأميركية

في 23 يونيو 2025، أعلن الحرس الثوري الإيراني عن انطلاق عملية "بشائر الفتح" ردًا على الهجوم الأمريكي على إيران الذي وقع فجر 22 يونيو 2025. وتم توجيه الضربة الإيرانية الأولى في هذه العملية إلى قاعدة العديد في قطر، حيث تم استهداف القاعدة بصفتها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة، وأيضًا بصفتها شريكًا في الهجوم الأمريكي على إيران.

هذا الحدث كان غير مسبوق في تاريخ الصراع في المنطقة، وأنتج ردود فعل غريبة وظواهر غير مسبوقة. على سبيل المثال، في الوقت الذي كانت فيه وسائل التواصل الاجتماعي تزدحم بصور وفيديوهات الصواريخ الإيرانية والاعتراضات الجوية القطرية أو الأمريكية، كانت قناة الجزيرة القطرية، التي تعتبر الوسيلة الإعلامية الأقرب جغرافيًا وتقنيًا لموقع الحدث، تكتفي بنقل تصريحات المسؤولين القطريين والنقاش مع المحللين لفترة طويلة قبل أن تقرر نشر صور وفيديوهات القصف.

بعد سنوات من المطالبات المتكررة بتصعيد الحرب وإعلان الحرب الشاملة، والتي وصلت إلى حد التخوين والتشكيك في غالبية القوى الداعمة لإرادة الشعب الفلسطيني، كانت هذه الدعوات تصدر من نخب ومثقفين وإعلاميين محسوبين على المؤسسات الإعلامية القطرية. بعد الضربة الإيرانية على قاعدة العديد، كانت الشخصيات المؤثرة تتباين في ردود أفعالها؛ بين من يعتب على إيران ويتهمها بخرق سيادة دولة عربية، وبين ناقلين لأخبار محايدة لا يدينون إسقاط الصواريخ الإيرانية المتجهة بوضوح نحو أهداف معادية، تمامًا كما يفعل النظام الأردني، نجد أن نفس الأشخاص والصفحات المحسوبة على قطر، بالإضافة إلى فئة ثالثة ولكنها محدودة العدد، كانت ترحب بقصف قاعدة أمريكية وتتناول دورها في دعم الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

في الحالتين الأولى والثانية، كان المشهد في سوريا، حيث كانت نفس الجهات التي كانت تبارك ضرب إيران لإسرائيل تدعو إيران لتصعيد الحرب. هذه الجهات نفسها تتحول الآن إلى حمامات سلام ودعاء، رافضةً انتهاك سيادة الدول العربية.

الإعلام القطري والمحسوبون عليه يمثلون جزءًا من المشهد الذي رافق الضربات، والتي لم تسرع فقط من عملية التراجع الأمريكي الإسرائيلي عن أهداف الحرب على إيران، بل أيضًا فتحت الباب على السؤال الأساسي في الوعي العربي: هل القواعد الأمريكية في بلادنا تفصيل هامشي يمكن تجاهله؟

لقد ذكرنا الأمثلة من أقصى غرب الكرة الأرضية إلى أقصى شرقها لنؤكد أن القواعد العسكرية الأمريكية ليست مجرد مراكز لإدارة العمليات القتالية، بل إن تأثيرها أكبر بكثير. بشكل عام، يمكننا تحديد ثلاثة آثار أساسية للقواعد العسكرية الأمريكية في أي دولة:

تحقيق التفوق الميداني: تساهم القواعد العسكرية الأمريكية في تحقيق التفوق الميداني لقواتها في أي بقعة مستهدفة في العالم من خلال تركيز القواعد في مناطق جغرافية استراتيجية. بدلاً من أن تضطر الولايات المتحدة لعبور محيطات لتحارب النفوذ الصيني المتنامي، يمكنها إنشاء قواعد عسكرية في الدول المحيطة بالصين وبالتالي تحصل على أفضيلة مباشرة في القتال داخل المجال الحيوي للطرف الآخر، وهو في هذه الحالة الصين. وقد رأينا ذلك بوضوح في الحالة الأخيرة مع إيران، عندما سخنت الولايات المتحدة جميع قواعدها العسكرية في المنطقة لتسهيل مهمة العدوان الإسرائيلي على إيران وللدفاع عن الكيان الصهيوني أمام الهجمات الإيرانية.

توجيه السياسة العامة للدولة المستضيفة: على عكس ما يظهر في الإعلام، والذي يحاول أن يرسخ في عقول الناس أن الوجود الأمريكي هو مجرد أدوات حماية عسكرية قائمة على اتفاق ندي بين الدولة المضيفة والولايات المتحدة الأمريكية، فإن الدولة المضيفة لا تملك سيادة كاملة على قراراتها أو على تحديد سياستها الخارجية.

يبدو أن الجنود والطائرات الأمريكية مجرد موظفين أمنيين، وكأنهم ليس لديهم عمل سوى تأمين الحماية للدول. بالطبع، هذه الدعاية تكذب على نفسها والدليل هو أن كل الدول التي تنتشر فيها قواعد أمريكية برضا الحكومات هي دول خاضعة بشكل كامل للإرادة الأمريكية، دون أي تمييز بسيط عن السياسة الخارجية الأمريكية، سواء في القضايا الداخلية للدول أو في قضايا لا تعني هذه الدول من قريب أو بعيد.

المثال الذي ذكرناه في بداية الحلقة عن تمويل السعودية لعمليات الكونت هو أبرز دليل على ما نقول. نيكاراغوا، على سبيل المثال، هو بلد بعيد لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا، ولا توجد بيننا وبينه أي مصالح سياسية أو اقتصادية. ومع ذلك، قدم النظام السعودي المال لأمريكا لتمويل عمليات إرهابية عندما كانت الإدارة الأمريكية في نهاية القرن الماضي بحاجة ماسة إلى المال بسبب صعوبات تأمين التمويل عبر الكونغرس.

هذا المثال يكشف بوضوح العلاقة بين أمريكا والأنظمة والدول. وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جاسم، الذي تحدث قبل أكثر من 20 عامًا في مقابلة مع الجزيرة، كان واضحًا جدًا عندما سُئل عن الملاحق السرية في الاتفاقية القطرية الأمريكية التي بموجبها تم إقامة قاعدة العديد على الأراضي القطرية. قال حمد بن جاسم بصراحة شديدة إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف الأقوى في هذه الاتفاقية، وبالتالي من الطبيعي أن تكون الاتفاقية لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وليس لمصلحة قطر أو حتى لمصلحة أكبر من مصلحتكم.

حتى هذه الصراحة لا تكفي لشرح حقيقة العلاقة بين واشنطن والدول المستضيفة للقواعد. العلاقة تتجاوز التابع والمتبوع، والأمر والمأمور، حيث تتحول الدولة الموجودة فيها القاعدة الأمريكية إلى قاعدة أمريكية. وهذا هو السبب الذي يفسر كيف تدافع الأنظمة العربية عن إسرائيل.

للمزيد من التفاصيل شاهد الفيديو المرفق..

0% ...

آخرالاخبار

إنطلاق المرحلة 2 من مناورات القوات البحرية لحرس الثورة الإسلامية


منتخب إيران للتايكواندو یحصد ذهبيتين في بطولة العالم للشباب


اتفاق غزة بين الاعتداءات الإسرائيلية وخطة ترامب


بعد هلاك 'أبو شباب'.. داخلية غزة تدعو المرتبطين بالاحتلال للاستسلام


الرئيس الروسي.. سنواصل 'دون انقطاع' تصدير الوقود للهند


متحدث الفيفا يرحب بحضور ممثلي إيران في حفل قرعة كأس العالم


فنزويلا تواجه عزلة جوية بعد وقف شركات طيران رحلاتها إليها


منصّات التواصل تغلي.. تعيين"كرم" يفجّر عاصفة جدل على المنصّات اللبنانية!


مسؤول أممي يدعو للضغط على كيان الإحتلال لإنهاء خروقاته


بيان لرئاسة العراق حول إدراج حزب الله وأنصار الله على قائمة الإرهاب