صرخة الطيب صالح القديمة – الجديدة
من أين جاء هؤلاء الناس؟ ألم ترضعهم الأمهات والعمات والخالات؟ ألم يُصغوا للرياح تهب من الشمال والجنوب؟ ألم يروا بروق الصعيد تصعد وتهبط؟ ألم يشاهدوا القمح ينمو في الحقول وعناقيد التمر معلقة فوق قمم النخيل؟ ألم يسمعوا مدائح الحاج الماحي وود سعد وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي ومصطفى؟ ألم يقرأوا شعر العباس والمجذوب؟ ألم يسمعوا الأصوات القديمة ويحسوا بالأشواق القديمة؟ ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذن لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مُسخَّرون لهدمه؟
هذه الكلمات كتبها الكاتب السوداني الأشهر الطيب صالح قبل أكثر من ثلاثين عاماً، لكنها بالتأكيد تنطبق على النخبة العسكرية الحاكمة في السودان التي أدخلت البلاد في حرب أهلية مدمرة منذ عام 2023. هذه الحرب، أحد وجهيها النزاع على السلطة، ولكن وجهها الآخر هو الصراع على السودان نفسه.
من الاستقلال إلى العقود المضطربة
منذ استقلال السودان عام 1956، لم يشهد السودان استقراراً تاماً على كامل أراضيه. انقلابات وتوترات داخلية وصولاً إلى الحرب في الجنوب التي اندلعت بشكلها الأقوى عام 1983 وانتهت بانفصال جنوب السودان وتحوله إلى دولة مستقلة عام 2011. لا داعي للرجوع بالتاريخ إلى فترة ما قبل الاستقلال ومرحلة الحكم المصري البريطاني والثورات والحروب في القرن التاسع عشر، يكفي أن نرجع إلى الاستقلال ونذهب حصرياً إلى ثمانينيات القرن الماضي.
منذ ذلك الوقت، السودان غير مستقر أمنياً على كامل أراضيه، ولكن ما يجري منذ أبريل 2023 جعل البلاد تواجه أخطر لحظاتها التاريخية منذ الاستقلال: حرب أهلية شرسة، مجاعة واسعة، انهيار للدولة، واتهامات بالإبادة الجماعية.
الصراع بين البرهان وحميدتي: أسبابه وجذوره
الصراع الحالي في السودان – نقول عنه حالي لأننا في نوفمبر 2024 والحرب مستمرة لأكثر من سنة وسبعة أشهر – يبدو ظاهرياً بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي". إلا أن هذا الصراع يرجع إلى مجموعة من العوامل التاريخية والسياسية والاقتصادية مضافاً إليها التدخلات الخارجية. كل هذه العوامل تداخلت لتشكل الواقع الحالي في السودان.
السودان: عمق تاريخي وجيوسياسي
السودان ليس منطقة جغرافية هامشية. عُثر فيه على آثار أقدم استقرار بشري بوادي النيل. في السودان قامت مملكة كوش، إحدى أعظم ممالك أفريقيا القديمة على جميع المستويات، وهذه المملكة حكمت مصر نفسها في مرحلة من مراحل التاريخ في القرنين السابع والثامن قبل الميلاد. أهرامات مروي الموجودة اليوم وسط الصحراء السودانية شمال الخرطوم، والتي يفوق عددها عدد أهرامات مصر، هي أكثر من مجرد حجارة، إنها شاهد محفور في الصخر يحكي عن حضارة شعب عرف كيف يحكم وادي النيل ويؤثر في الحضارات المحيطة.
لاحقاً نشأت ممالك مسيحية حافظت لقرون على نموذج رائع من الازدهار الروحي والثقافي، قبل أن تصل موجات الفتح الإسلامي والعربي إلى السودان لتمزج خيوط هوية جديدة من العربي بالأفريقي والإسلامي بالمسيحي وبالديانات المحلية القديمة. هذه الهوية المركبة، لو أُحسنت إدارتها، كان يمكن أن تشكّل واحداً من أجمل نماذج الاندماج الحضاري في العالم. ولكن الدولة الحديثة والتدخلات الخارجية القاسية في السودان لم تسمح بحماية هذا التنوع، بل حولته إلى ميدان صراع. وهكذا كانت النزاعات الداخلية والتدخلات الخارجية تخلق أزمات دائمة في السودان وصراعاً دائماً على السودان.
حقبة البشير: الجنجويد ودارفور والانهيار
عندما استولى عمر البشير على السلطة بانقلاب عام 1989، دخل السودان مرحلة طويلة من الحكم الأمني القاسي، وكان الجيش والأجهزة الأمنية هم القوة الرئيسية في الحكم بالتحالف مع قوى إسلامية مثل الإخوان المسلمين. في هذه الفترة من الحكم برزت مشكلة دارفور، الإقليم الزاخر بالتنوع الإثني، كأحد أكبر مسارح المأساة. تمرد جزء من السكان غير العرب في دارفور، وردّت عليهم الحكومة السودانية بتسليح ميليشيات قبلية عربية عرفت لاحقاً باسم "الجنجويد". هذه الميليشيات نفسها تحولت لاحقاً إلى قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي".
ثلاثة عقود من حكم البشير شهدت انفصال جنوب السودان والحرب في دارفور وصولاً إلى انتفاضة شعبية أسقطت البشير عام 2019. السنوات الثلاثون من حكم البشير شهدت أيضاً عقوبات اقتصادية أمريكية قاسية وملاحقة للبشير نفسه أمام القضاء الدولي بتهمة جرائم الحرب في دارفور. كان الوضع الاقتصادي للسودان ينتقل من سيء إلى أسوأ، والفساد ينخر جسد الدولة والإدارة.
تحولات البشير ومحاور المنطقة
في المرحلة الأولى من حكمه، كان نظام البشير داعماً قوياً لقوى مقاومة" إسرائيل" في المنطقة، وتحديداً في فلسطين، وكانت علاقته بإيران متقدمة. ولكن في آخر خمس سنوات من حكمه انتقل البشير من ضفة إلى أخرى على مستوى المحاور المتصارعة في الإقليم: قطع علاقاته بإيران وبقوى المقاومة، وطور علاقاته بالسعودية والإمارات والولايات المتحدة الأمريكية، وشارك سواء بالجيش السوداني أو بميليشيات الدعم السريع إلى جانب السعودية والإمارات في العدوان على اليمن عام 2015. بدأ نظام البشير في آخر أيامه يعطي إشارات إيجابية تجاه إمكانية إقامة علاقة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي.
سقوط البشير وشراكة المدنيين والعسكر
بعد سقوط البشير تم إرساء حكم شراكة بين المدنيين والعسكر. شهدت هذه المرحلة توافقاً غريباً أدى إلى انضمام السودان إلى محور أنظمة التطبيع مع "إسرائيل" في فبراير 2020 التقى قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مدينة عنتيبي الأوغندية بوساطة أمريكية إماراتية. كانت ذريعة النظام السوداني الجديد للذهاب نحو التطبيع مع كيان الاحتلال هي الرغبة في النجاة من العقوبات الأمريكية المدمرة للاقتصاد السوداني.
بعد أقل من سنتين من التطبيع، انفجر الصراع على النفوذ بين المدنيين والعسكر داخل الحكم وانتهى بالإطاحة بالمرحلة الانتقالية في أكتوبر 2021. بكلام أوضح، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" انقلبا على شركائهما المدنيين في السلطة. ولكن الانفجار بينهما كان محتوماً.
اندلاع الحرب في أبريل 2023
في 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب بين الرجلين، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. هذه الحرب لم تكن اشتباكاً عسكرياً خاطفاً، بل زلزالاً سياسياً واجتماعياً وعسكرياً ضرب كل البلد.
تحولت العاصمة الخرطوم خلال أيام قليلة إلى مدينة محطمة. استُهدفت المستشفيات بالقصف، وانهارت الأحياء تحت وطأة القصف المستمر، وتحول المطار إلى مقبرة للطائرات، وخرج الناس فراراً من الموت. لم يكن هذا المشهد صراعاً عادياً على السلطة، بل كان انهياراً كاملاً للدولة السودانية.
امتداد الحرب إلى الجزيرة ودارفور
لم تقتصر الحرب على الخرطوم، بل امتدت سريعاً إلى ولاية الجزيرة، حيث سقطت مدينة ود مدني بيد قوات الدعم السريع في ديسمبر 2023. كان هذا السقوط ضربة قاسية جداً للجيش، باعتبار أن ولاية الجزيرة تمثل مركز السودان الزراعي وركيزته الغذائية.
في دارفور، الأرض التي لم تلتئم جراحها بعد من حروب البشير، أصبحت مدينة الفاشر مركزاً لمأساة إنسانية جديدة. وثقت منظمات دولية، مثل مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، عمليات قتل جماعي على أساس الهوية العرقية، وعمليات اغتصاب منهجية، وتهجير قسري لبعض المجتمعات. ما حدث في دارفور أقرب ما يكون إلى إبادة جماعية.
بورت سودان: العاصمة المؤقتة
أصبح الجيش السوداني بقيادة البرهان متمركزاً في مدينة بورت سودان، المدينة التي تحولت إلى عاصمة مؤقتة ومركز للحكومة المعترف بها دولياً. ولكن الاعتراف الدولي لم يكن كافياً لمنع قوات الدعم السريع من مواصلة تحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، خاصة في دارفور وكردفان. وعندما سيطرت على مدينة الفاشر في أكتوبر 2025، باتت أقرب من أي وقت مضى إلى تثبيت كيانها السياسي الموازي للحكومة.
غياب الدولة وتعدد القوى
مع سقوط الدولة السودانية والفوضى الناتجة عن الحرب، لم يعد داخل السودان سوى طرفين يمكنهما تحديد مسار الحرب والحدود الجغرافية: الجيش والقوة الموازية التي باتت عينها على كامل الدولة. ذلك لأنه ببساطة لم تعد هناك مؤسسات في السودان قادرة على ضبط الإيقاع، ولا مرجعية وطنية تملك سلطة القرار.
الجيش والدعم السريع: طموحان متصادمان
الجيش، باعتباره الوريث الشرعي للدولة السودانية وهيبتها التاريخية، يخوض معركة يراها دفاعاً عن بقاء الوطن من التفكك. في المقابل، قوات الدعم السريع، التي وُلدت في هوامش الصراع وتغذت على اقتصاد الحرب، تحولت إلى ند لا يقل طموحاً ولا قدرة عن الجيش، وتسعى هذه القوة نحو شرعية جديدة بالقوة لا بالدستور.
نشأة قوات الدعم السريع واتهامات الإبادة
نشأت قوات الدعم السريع عام 2013 على أساس ميليشيا الجنجويد التي اشتهرت بسمعتها السيئة في حرب دارفور بعد عام 2003. وُجهت لقوات الدعم السريع (الجنجويد سابقاً) اتهامات واسعة بارتكاب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد المجتمعات غير العربية في الإقليم.
منذ تأسيسها، استطاع قائدها الفريق محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، بناء قوة عسكرية نافذة لعبت دوراً مهماً في صراعات إقليمية، منها العدوان على اليمن والحرب في ليبيا. كما تنسب إلى حميدتي تهمة السيطرة على عدد من مناجم الذهب السودانية، مع توجيه اتهامات له أيضاً بالعمل على تهريب الذهب إلى الإمارات العربية المتحدة.
اتهامات الجيش السوداني للإمارات وحفتر
يتهم الجيش السوداني دولة الإمارات بتقديم دعم مباشر لقوات الدعم السريع، بما في ذلك الطائرات المسيرة التي تستخدمها قوات الدعم السريع لضرب مواقع في عموم الأراضي السودانية. كما يتهم الجيش السوداني حفتر بإرسال مقاتلين لمؤازرة قوات الدعم السريع داخل الأراضي السودانية.
التقدم الميداني للدعم السريع (2025)
في يونيو 2025، حققت قوات الدعم السريع تقدماً استراتيجياً مهماً بسيطرتها على مناطق واسعة بمحاذاة حدود السودان مع ليبيا ومصر. وبعدها سيطرت على مدينة الفاشر أواخر أكتوبر 2025، لتصبح القوة المهيمنة على معظم دارفور وأجزاء كبيرة من كردفان المجاورة.
مخاوف من انقسام جديد
التقدم الميداني وإعلان قوات الدعم السريع عن تشكيل حكومة موازية في يوليو 2025 جعلا المخاوف تتصاعد من انزلاق السودان إلى انقسام جديد بعد انفصال جنوب السودان عام 2011، الذي أخذ معه الغالبية العظمى من حقول النفط السودانية.
موقف الجيش وسيطرته الجغرافية
في المقابل، لا يزال الجيش السوداني يحتفظ بسيطرته على معظم شمال السودان وشرقه من جهة البحر الأحمر، مستنداً إلى دعم مصري واضح بحكم الروابط الجيوسياسية، خاصة الحدود المشتركة وملف نهر النيل.
نقل البرهان للمركز إلى بورت سودان
نقل الفريق أول عبد الفتاح البرهان المقر السياسي والعسكري، كما ذكرنا، من الخرطوم إلى مدينة بورت سودان على البحر الأحمر، التي أصبحت تعد مقراً للحكومة المعترف بها دولياً. ولكن في هذه المدينة نفسها، لا يزال الأمن هشاً، وظهر ذلك بعد أن استهدفتها طائرات مسيرة أطلقتها قوات الدعم السريع، وكان هذا رداً على انتكاسة كبيرة لقوات الدعم السريع تمثلت في فقدان السيطرة على مدينة الخرطوم، العاصمة السودانية، بما فيها القصر الجمهوري لصالح الجيش.
العاصمة المدمرة وفتح المطار
غادرت قوات الدعم السريع العاصمة وهي أشبه بمدينة مدمرة ومتفحمة. أُحرقت المباني الحكومية والمصارف والمباني بالكامل، وقُصفت المستشفيات بينما كان المرضى لا يزالون بداخلها. وفي منتصف أكتوبر 2025، أُعيد فتح المطار الدولي، الذي كان أشبه بمقبرة للطائرات، أمام الرحلات الداخلية، رغم تأجيل الافتتاح الرسمي يوماً واحداً نتيجة عملية بطائرة مسيرة أصابت موقعاً قرب المطار.
استعادة الجيش لولاية الجزيرة
تمكن الجيش أيضاً من استعادة السيطرة شبه الكاملة على ولاية الجزيرة، التي كما ذكرنا، هي ولاية محورية يعتمد عليها السودان غذائياً.
أزمة داخلية وتدخلات خارجية
إذا أردنا أن نرسم المشهد السوداني بصورة أوضح، يمكننا القول إن السودان يواجه أزمات داخلية عميقة جداً. يمكننا القول أيضاً إن هناك تدخلات خارجية، الأمريكية والإماراتية مثلاً، التي بطبيعة الحال لا تريد الخير للسودان. وهناك أيضاً موقع سياسي للدولة السودانية يؤهلها لتكون مؤثرة في الإقليم.
دور السودان الإقليمي وموقعه الجغرافي
وعندما كان السودان داعماً لقوى مواجهة" إسرائيل" في فلسطين قبل عام 2015، لم يكن دوره في هذا المجال هامشياً أبداً. بالعكس، كان السودان ممراً ومصدراً للسلاح الذي كان يصل إلى قطاع غزة، سواء من خلال التصنيع المحلي أو من إيران. كما كانت الخرطوم حاضنة بأشكال مختلفة للقوى التي قررت أن تواجه "إسرائيل". وبالتالي، هناك قوى ودول مهتمة بالسيطرة على السودان من أجل جعله يؤدي أدواراً لحسابها.
هناك أيضاً الموقع الجغرافي شديد الأهمية على حدود مصر وليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا وإريتريا وطبعاً جنوب السودان، والأهم ساحل على البحر الأحمر، الذي يعد الشريان الأبرز للتجارة العالمية البحرية.
التفاصيل في الفيديو المرفق ...