الامام موسى الصدر.. فقه نهضة وانسانية وطن

الامام موسى الصدر.. فقه نهضة وانسانية وطن
السبت ٣١ أغسطس ٢٠١٣ - ٠٨:٣٢ بتوقيت غرينتش

وسط البارود الذي يتطاير في كل مكان وكل حين، والنار المثقلة برائحة الدم والدمار، يتضارب الناس حتى الجنون. يتناقضون ويعاندون، ويتلاعبون بعقولهم وقلوبهم، وبهوياتهم وصفاتهم، في حكاية تارة عنوانها المذهب وطوراً عنوانها الطائفة. فهي الحكاية التي تربى عليها الكثيرون في هذا الوطن، ودخلوا عن قصد أو غير قصد، زمن التصنيف والتمييز.

في هذا الظلام، حيث الأديان تلون وفق الحاجة، والمذاهب تحمل ما لا طاقة لها به، من تفريق وتصنيف، يحضر في ذكرى تغييبه، من صرخ في البراري والساحات والقاعات والمساجد والكنائس، بأن أصل تلك الحكاية في مكان آخر اسمه الإنسان، وطريقه الإنسانية، طريق يصان فيه الوطن والمواطنية، ويحترم فيه الدين بصدق.
في لبنان من يستحق في هذا اليوم، التحية الحقيقية، وهو الإمام المغيّب السيد موسى الصدر. ذلك الإمام الذي سار على فقه نهضوي، استلهمه من أسباب الدين ومن تعاليمه الصائبة وعلياء مفاهيمه، فمنح العمامة رقيا قل مثيله بين رجال الدين في القرنين الأخيرين. وأصبح مع رفيقيه، في السجون العربية المظلمة.
أتقن الإمام الصدر فقه المنطق وعمل على بث الجرأة لاستخدام العقل، محاكيا بعض ما أتى به إيمانويل كانط الذي رفع المجتمع الغربي المتطور. وإذا كان هذا المجتمع أخذ من كانط جزئية العقل وترك في حالات عدة، باسم "التنوير"، الاعتقاد الديني، مهملاً توصيات الفيلسوف الألماني، فقد ارتقى الإمام موسى الصدر بمفهوم جديد للعلاقة ما بين الدين والسياسة. وهي علاقة جعلها تلين أمام المواطن وكرّسها مطية للإنسان، فرفض أن تخضع السياسة للحسابات الطائفية فتمعن احتقاراً في إنسانية المواطن وتضرب الوطن والدولة، كما رفض أن تلتحق الأديان بالسياسة فتتلون اجتهاداتها وتتبدل طاعة لهذه السياسة وجنوحها.
قالها الإمام الصدر بوضوح ومن دون مواربة، فــ"تجار السياسة هم الذين يغذون النعرات الطائفية للمحافظة على وجودهم بحجة المحافظة على الدين في الوقت الذي يكون الدين فيه بحاجة إلى من يحميه منهم"، ورأى أن الوطن عند تجار السياسة في لبنان "كرسي وشهرة ومجد وتجارة وعلو في الأرض وفساد".
اجتهد موسى الصدر لترويض الممعنين في المذهبية والطائفية، معلنا أن "دم المسيح يجري في عروقنا وصوت محمد يدوي في مسامعنا". وخطب في الكنائس، واعتصم احتجاجا على استمرار الحرب الأهلية، وأعلن أن من يطلق رصاصة على قرية مسيحية "كأنه يطلقها على صدري ومحرابي وعمامتي". حارب الحرمان والإقطاع والتمييز في التنمية، وكافح التقسيم، معتبرا أن "لبنان أصغر من أن يقسم وأكبر من أن يبتلع"، ودافع عن حرية التعبير، مؤكدا أن "الحريات هي الدعامة الأساسية لكيان لبنان". وأطلق مقاومة إسرائيل أولا بـ"أسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعا"، وثانيا من خلال وحدة لبنان، وسلامه الذي هو "أفضل وجوه الحرب مع إسرائيل".
لم يسقط السيد موسى الصدر، رجل الدين المعمم من جهة والمواطن من جهة أخرى، في أتون الصراع على الأولوية بين الدين والوطن، وهو صراع داخل لائحة مصطنعة غير علمية، وعربية الهوى. فللدين والوطن بعدان مختلفان لا تجمعهما لائحة ولا يخضعان لسباق أولوية، خاصة في بلد مثل لبنان، الذي اعتبر الإمام الصدر أن "التعايش الإسلامي – المسيحي" فيه، "ثروة حضارية يجب التمسك بها"، ومن دون هذه الثروة يسقط وينتهي، فـــ"الطوائف نعمة والطائفية نقمة".
كان الإمام يصرخ ليدعو الناس إلى كلمة سواء وإلى الحوار وإلى الثقافة الدينية الصحيحة، فغاب ليتحول لبنان أكواما من البشر، يلهثون في كل حين، من شدة البارود الذي يخرج من قلوبهم، وتعبا من ثقل كلمة "حوار". واستشرى الغلو والجهل وتناثرت أنوار الدين، وتعمقت التفرقة الطائفية والمذهبية، واستحكم الكره، وباتت حتى العمامات، تحارب الدين باسم الدين، وتزيد من الحضيض حضيضا.
غُيب موسى الصدر، فانقطع في لبنان، كما عند معظم العرب، مسار "التصحيح"، فضرب التقارب المذهبي في مقتل، لينهض شذاذ الدين يتسكعون بين فوارق المذاهب، فيجافون الدين ويجلون الفوارق، ويرقصون على حطام الإنسانية وبين مخالب الكره، وفي أحضان التنظير والتكفير.
في ذكرى تغييب الإمام الصدر، تحضر مخاطبته السياسيين بالقول: "أنتم أيها السياسيون آفة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكل مصيبة، إنكم الأزمة، إرحلوا عن لبنان". ويحضر قوله: "ليس في العالم شعب صغير وشعب كبير بل شعب يريد الحياة وشعب لا يريدها".
فهلا يهب الشعب صونا لحياته ولوطنه وللأجيال، فيرفض الاقتتال والدم ويكافح الخراب والتمييز والتصنيف والفساد؟

بقلم : جهاد الملاح

كلمات دليلية :