سحب الجنسية سلاح انتقامي غير مشروع

سحب الجنسية سلاح انتقامي غير مشروع
الأحد ٢٢ فبراير ٢٠١٥ - ١١:٢٧ بتوقيت غرينتش

يفترض ان يكون حكام الخليج (الفارسي) أكثر استيعابا لحقيقة مهمة ارتبطت باجواء الجزيرة العربية ونمط عيش ابنائها. فقد نشأت اجيال متعاقبة على مدى قرون لا تعرف الحدود ولا الجنسية ولا جواز السفر، فكانت تشعر بحرية كاملة وهي تنتقل في الصحراء العربية الشاسعة بدون معوق أو بروتوكول. هذا مع مراعاة مناطق نفوذ هذه القبيلة او تلك.

وقد أكد الاسلام على مفهوم الشراكة المجتمعية في الاحتياجات الاساسية للحياة البشرية: الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلأ. وطبقا لهذه الشراكة يمنع الاستغلال او حرمان الانسان من حقه في ما يقوم حياته او يسهل حركته. وتعتبر «الجنسية» مفهوما طارئا على الثقافة العربية والاسلامية، فهي احد مصاديق الدولة القطرية التي استبدلت مفاهيم الامة والملة والانسانية التي تتجاوز الحدود التي وضعها الانسان بقيم الجغرافيا والتاريخ.
ومن يفكر مليا في هذه الحدود يكتشف ان وضعها ساهم بشكل مباشر في هيمنة فئات محدودة من البشر على الآخرين، سواء كانت هذه الفئة متمثلة بالحكومات ام الشركات المتعددة الجنسية ام رجال الاعمال. وفي الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس الشهر الماضي قالت منظمة «اوكسفام» ان واحدا بالمائة من سكان العالم سيملك اكثر مما يملكه 99 بالمائة من بقية البشر، اي اكثر من نصف الثروة العالمية، بحلول العام المقبل.
هذا الجشع البشري يعتبر احد اهم اسباب الظلم والاستغلال على الصعيد التجاري، والقمع والاستبداد على صعيد الحكم. ويوما بعد آخر يتضح ان المنظومة «الديمقراطية» الغربية تتلاشى تدريجيا بعد فشلها الذريع في تطبيق مفاهيم الشراكة الاقتصادية ومكافحة الاحتكار والتصدي للاستبداد والدفاع الحقيقي عن حقوق الانسان.
برغم مناشدة الامم المتحدة حكومات العالم التقليل من حرمان المواطنين من الجنسية وتحويلهم الى «بدون»، يعتبر استهداف المناوئين بهذه الوسيلة واحدا من الاسلحة التي تستخدم ضد المعارضين. وهذا ما فعلته «اسرائيل» مع العديد من الفلسطينيين. ففي كانون الأول/ديسمبر الماضي رفض وزير الداخلية الاسرائيلي تجديد جواز سفر مهران خالدي، المتواجد حالياً في تركيا وأعلن نيته سحب مواطنته. وخالدي فلسطيني من عرب 48 سافر الى سوريا والعراق للانضمام الى تنظيم الدولة الإسلامية.
وفي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي اصدر وزير الداخلية الاسرائيلي قراراً يقضي بسحب الجنسية الإسرائيلية من أحد المشاركين في تنفيذ عملية «الدولفناريوم» على شاطئ تل أبيب عام 2001، التي قتل فيها 21 إسرائيلياً وأصيب العشرات.
وقد طرح بنيامين نتنياهو مشروع قانون ينص على سحب الجنسية الإسرائيلية من منفذي العمليات والمخالفات التي وصفها بالخطرة والتي تم تنفيذها بدافع قومي. وكان وزير الداخلية الإسرائيلية «جلعاد أردان» قد صرح بأن المواطنة الدائمة والحقوق الاجتماعية يجب أن تسحب من سكان القدس المحرضين على الأعمال «الإرهابية» والعنف على حد تعبيره.
وفي الاسبوع الماضي ارتفع عدد من تخلوا عن الجنسية «الإسرائيلية» بنسبة 65% وبلغ 785 «إسرائيليا» سنة 2014 حسب البيانات الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء، وفق ما أوردته صحيفة «يديعوت أحرونوت»، بسبب «شعورهم بالخجل من حمل جواز سفر يُذكر فيه أن الجنسية إسرائيلية»، إضافة إلى أن قانون الإحتلال يمنع دخول الإسرائيليين الذين يحملون جنسيات مزدوجة بجواز غير الإسرائيلي او خروجهم، كما تسحب الجنسية ممن تقلد مناصب حساسة في دولة أخرى، وهناك من تخلى عن الجنسية لأسباب إيديولوجية أو رفض الخدمة في جيش الإحتلال أو لصعوبة الأوضاع الاقتصادية.
ولا تحصي سلطات العدو ضمن المتخلين عن الجنسية سوى الذين لم يجددوا جوازاتهم ولم يزوروا فلسطين ولو مرة واحدة لمدة معينة. ويقدر عدد من لم يقع إحصاؤهم بنحو 800 ألف مستوطن سابق .
بالاضافة لسياسة الترحيل التي مارستها قوات الاحتلال منذ العام 1948 ضمن ما سمي سياسة «الترانسفير» عمدت عام 1993 لإبعاد اكثر من 400 فلسطيني إلى منطقة «مرج الزهور» في الجنوب اللبناني، لكن الضغط الدولي اجبرها على السماح بعودتهم لاحقا.
وهنا تطرح التساؤلات حول مدى شرعية استخدام السلطة السياسية لقمع المعارضين وحرمانهم من حقوقهم التي نصت عليها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، في المواطنة والاقامة والجنسية والتنقل والحماية من التعذيب او اية معاملة حاطة بالكرامة الانسانية.
اما العالم العربي فيعيش اهله في ضنك من العيش على الصعدان الاقتصادية والسياسية والانسانية. هذه حقيقة تؤكدها تطورات الاوضاع الداخلية لهذه المنطقة في مرحلة ما بعد الربيع العربي. فليست هناك ممارسة ديمقراطية حقيقية واحدة في اي من البلدان العربية، خصوصا التي انطلقت شعوبها ثائرة ضد الاستبداد والظلم السياسي والاقتصادي.
ويمكن الاشارة الى مصر، الدولة العربية الكبرى، لاستيعاب حقيقة التخلف الذي تضاعف بعد ان استطاعت قوى الثورة المضادة الاجهاز على حركات الشعوب واجهاض ثوراتها. كما يمكن الاشارة ايضا الى تجدد اساليب القمع وتوسع دوائره في اغلب البلدان العربية وعودة ما كان يسمى «الدولة العميقة» لواجهة السياسة ودورها في الاجهاز على محاولات التغيير.
كما يمكن الزعم بان الاعداد الكبيرة من الشباب التي تلتحق بالمجموعات الارهابية، انما هو احد مظاهر الاحباط واليأس من امكان اصلاح الاوضاع في عالم العرب والمسلمين، حتى تساوى امام هذه القطاعات الشبابية الموت والحياة. ماذا يعني ذلك؟ وما مظاهر توسع القمع والاضطهاد؟ وما مصاديق تغول الدولة وتقزم المواطن؟ لماذا توسعت دائرة العنف في مصر حتى اصبحت سيناء ساحة مواجهة اخرى تزداد دموية بمرور الوقت؟ ولماذا تمثل تونس اكبر مصدر للشباب الذين انضووا في المجموعات الارهابية.
من مظاهر القمع الجديدة التي لم تمارس من قبل بشكل واسع سحب الجنسية من المواطنين الذين تشك الدولة سواء في «ولائهم» للنظام او نشاطهم السياسي المعارض للنظم القائم. وقد تكرست هذه الظاهرة بعد اندلاع الثورات العربية، وعمدت دول خليجية عديدة لاستخدامها ضد معارضيها.
وكانت دولة الامارات العربية اول بلد خليجي يستخدم الجنسية سلاحا ضد معارضي نظام الحكم فيه. ففي عام 2011 أصدر رئيس دولة الامارات أمرا يقضي بسحب جنسية الدولة عن ستة مواطنين هم: حسن منيف عبدالله حسن الجابري وإبراهيم حسن على حسن المرزوقي وشاهين عبدالله مال الله حيدر الحوسني وعلي حسين أحمد علي الحمادي ومحمد عبدالرزاق محمد الصديق العبيدلي، بدعوى قيامهم بنشاطات تعتبر خطرا على أمن الدولة وسلامتها.
وفي شهر يوليو 2012 ابعدت الامارات الناشط الحقوقي احمد عبد الخالق الى تايلاند بسبب نشاطه من اجل تجنيس المواطنين الاماراتيين المحرومين من الجنسية والذين يقدر عددهم ما بين 10 آلاف و 100 الف.
ويبدو ان سحب الجنسية اصبح سياسة خليجية مشتركة وسلاحا ضد المعارضين. ففي الخريف الماضي قامت الحكومة الكويتية بسحب الجنسية من 18 شخصا في مقدمتهم الاعلامي، سعد بن طفلة العجمي، الذي كان وزيراً للاعلام. وتحدث بن طفلة عن قضايا حرية الرأي في الكويت، كما تحدث عما سماه «ملاحقات انتقائية للمعارضة الكويتية»، و«انتقائية سحب الجنسية من أشخاص معينين بسبب مواقفهم السياسية»، وقال إن «السلطة بالكويت تعتقد أن هذه هي الطريقة الوحيدة لإسكات المعارضين». اما التطبيق الاوسع لسحب الجنسية فقد حدث في البحرين.
فقبل أسبوعين اصدرت السلطات البحرينية قرارا بسحب جنسية 72 مواطنا بدون قرار قضائي. وسعت لخلط الاوراق بان شملت ضمن القائمة عددا من الذين ارتبطوا بتنظيم داعش، الامر الذي انتقدته منظمات حقوقية عديدة خصوصا العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما.
وأغلب المشمولين بسحب الجنسية ناشطون من السكان الاصليين المطالبين بالحقوق السياسية. وفي نوفمبر 2012 اصدرت الحكومة قائمة بـ31 شخصا قررت سحب جنسياتهم، يتصدرهم كاتب هذا المقال، بدون اللجوء لقضاء عادل. وفي العام الماضي سحبت جنسية اكثر من ثلاثين شخصا على دفعات، بسبب مواقفهم المعارضة للحكم.
ماذا يعني لجوء الحكومات لاستخدام اساليب لا تنسجم مع القوانين الدولية خصوصا الاعلان العالمي لحقوق الانسان ضد مناوئيها؟ فالمادة الخامسة عشرة من ذلك الاعلان تنص على بندين: الاول يقول: لكل فرد حق التمتع بجنسية ما، وينص البند الثاني بالقول: لا يجوز، تعسفا، حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حقه في تغيير جنسيته. هل ستحقق هذه الاجراءات امن الانظمة الحاكمة ام ستزيد الاحتقان وتعمق الفجوة بين الحكام والمحكومين؟


٭ د. سعيد الشهابي – الخليج (الفارسي) الجديد