سلمى.. سقوط أول "إمارة" في سوريا

سلمى.. سقوط أول
الأربعاء ١٣ يناير ٢٠١٦ - ٠٩:١٩ بتوقيت غرينتش

دشّن الجيش السوري، في الآونة الأخيرة، مرحلة جديدة، بات يهدد فيها عروش «الإمارات» التي انتشرت على بقاع عدّة من الأراضي السورية، وذلك بعد سنوات من المشاغلات على خطوط تماس ترسخت طويلاً، بفعل الدعم الخارجي الكثيف لأمراء الحرب المهيمنين.

ويبدو واضحاً أن الغطاء الجوي الروسي استطاع خلال أشهر قليلة أن يقلب المعادلة، ويغير مجريات الأحداث ويزيح المعارك عن خطوط التماس القديمة، وينقلها إلى قلب مناطق سيطرة المسلحين، وهو ما أسهم يوم امس في استعادة السيطرة على بلدة سلمى الاستراتيجية في ريف اللاذقية.
وتأتي استعادة سلمى من سيطرة المجموعات المسلحة في سياق أوسع، يؤكد ما سبق. وفي جبهات القتال المتعددة، ثمة الكثير من الأمثلة على ذلك، ففي الغوطة الشرقية سُجل اختراق نوعي في مرج السلطان وبعده البلالية، جعل الجيش على بعد كيلومترات قليلة من مدينة دوما، عاصمة «جيش الإسلام». وفي ريف حلب الشرقي، بات الجيش السوري على مشارف معقلين أساسيين من معاقل تنظيم «داعش»، هما دير حافر ومدينة الباب، أما في ريفها الجنوبي فبات الجيش السوري يملك مروحة واسعة من خيارات التحرك باتجاهات مختلفة، سواء نحو حدود محافظة إدلب «عاصمة القاعدة» في سوريا، أو نحو ريف حلب الغربي، وما يعنيه ذلك من قطع خطوط الإمداد القادمة من تركيا.
غير أن بلدة سلمى في ريف اللاذقية الشمالي تشكل النموذج الأفضل لإظهار المرحلة المتقدمة التي وصل إليها الجيش السوري في تهديد قلب «الإمارات» وهز عروشها، وذلك في تطور استراتيجي يمثل بداية موسم الحصاد لما تمّ زرعه خلال الأشهر الثلاثة الماضية تحت وابل الطائرات الروسية.
وسيطر الجيش السوري، أمس، على بلدة سلمى التي شهدت ولادة أول «إمارة إسلامية» على الأراضي السورية، بعدما استباح المسلحون طبيعتها الخلابة ومنتجعاتها السياحية وحوّلوها إلى معقل من معاقل التطرف والخراب.
وجاءت هذه السيطرة، التي أكدها مصدر عسكري تحدث لوكالة الأنباء السورية ـ «سانا»، بعد 96 يوماً من المعارك المستمرة في ريف اللاذقية الشمالي، تمكن الجيش خلالها من قضم العديد من التلال والقرى التي كانت تهيمن عليها «جبهة النصرة» و«الشيشانيون» و«التركستانيون» وبعض الفصائل التركمانية مثل «الفرقة الساحلية الأولى»، وبالتالي الاقتراب أكثر فأكثر من بلدة سلمى وتطويقها من ثلاث جهات.
ولم يطل الوقت بعد سيطرة الجيش السوري، في ساعات الصباح، على ضاحية سلمى الملاصقة للبلدة من جنوبها الشرقي، حتى انهارت دفاعات الفصائل داخل الأحياء، وسط انسحاب المسلحين باتجاه قرية المارونيات، ومن تبقى منهم باتجاه جبل التركمان.
وأكد مصدر مقرب من «جبهة النصرة»، لـ «السفير»، أن «سلمى سقطت بالفعل منذ سيطرة جيش النظام على قرقفة والقلعة اللتين سقطتا بدورهما، نتيجة سيطرته قبل يومين على قرية كدين والمغيرية»، مشيراً إلى «تعذر استمرار المجاهدين في حرب شوارع طويلة، لأن جوهر المعركة هو حرب تلال وتغطية نارية، وبالتالي لا فائدة من القتال داخل سلمى بعد خروج التلال الحاكمة من يد المجاهدين، لأن ظهورهم باتت مكشوفة من جميع الاتجاهات».
ومن المتوقع أن يترك خروج سلمى من يد المسلحين تداعيات كبيرة، سواء على الصعيد العسكري الميداني أو على الصعيد السياسي.
وعلى المستوى السياسي، لم يكن محض صدفة أن يختار الجيش السوري توقيت استعادة سلمى قبل أيام من انعقاد مؤتمر «جنيف 3» لمحادثات الحل السياسي للأزمة السورية. وبذلك، فإنّ الوفد السوري سيدخل قاعة التفاوض - إذا نجحت الجهود الدولية في عقد الاجتماع - وبيده أوراق قوة تثبت تفوقه الميداني.
أما على المستوى العسكري، فإن سلمى وغيرها من قرى جبل الأكراد تقع في مركز مثلث يصل بين أرياف اللاذقية وإدلب وحماه، ولا تفصل بينها سوى مسافات قصيرة لا تتعدى كيلومترات قليلة، علاوة على التأثير المباشر الذي سيطال جبل التركمان الذي لن يستطيع البقاء وحده بعدما أفقده الجيش السوري توأمه الجغرافي.
وقد عبّر أحد النشطاء عن خطورة ما جرى في سلمى بقوله «إنّها بداية تحويل الثورة من مشروع سياسي إلى جيوب متمردين متفرقة ومنفصلة».
وترتفع سلمى قرابة 800 متر عن سطح البحر، وبالتالي تؤدي السيطرة عليها إلى سقوط قرية المارونيات (ارتفاع 600 متر) في شمالها الغربي عسكرياً، لأن الجيش يشرف عليها أيضاً من جبل النوبة الذي سيطر عليه في وقت سابق. كما يؤدي إلى فتح الطريق باتجاه الغنيمية التي تعتبر معقلاً مهماً، وفيها مقر قيادة ومستودعات أسلحة، وإلى بلدة كنسبا التي تبعد عنها حوالي 10 كيلومترات في الشمال الشرقي، وتعتبر بوابة ريف اللاذقية باتجاه إدلب وتركيا حيث تبعد عن الحدود التركية مسافة 12 كيلومتراً فقط، وعن بداما في ريف إدلب مسافة مماثلة. غير أن الوصول إلى كنسبا يتطلب أن يسيطر الجيش على بعض القرى الواقعة على الطريق، مثل دويركه وبروما، وهو أمر لن يكون عسيراً بحكم إمساكه بالتلال الحاكمة في المنطقة. وقد يكون وجه الصعوبة الوحيد هو وجود مجموعة من التلال المرتفعة لحوالي 900 متر غرب كنسبا، مثل تلة قلعة شلف وتلة قلعة العبدو.
وكان الجيش السوري قد ضيّق الخناق، صباح أمس، على بلدة سلمى من خلال سيطرته على تلال وقرى تشكل خط الدفاع الأول عنها بالنسبة للمسلحين، فانتزع سهلة حسيكو وتلة الخزّان وقرية ترتياح وقلعتها، وكذلك شيش القاضي وضهر العدرة ورويسة الطيور وتل قراقفي، مستكملاً الهجوم الذي بدأه، الأسبوع الماضي، من الجهتين الشرقية والجنوبية وسيطر بموجبه على المغيرية وتلال القاموع وكدين ومناطق أخرى. وبذلك أصبح الجيش على تماس مباشر مع بلدة سلمى، وهو أول تواصل بري منذ خروج البلدة عن سيطرته في حزيران من العام 2012، الأمر الذي دفع النشطاء وقادة الفصائل إلى نعي سلمى وتوديعها، لإدراكهم أن خروجها من بين أيديهم أصبح مسألة وقت فقط، خاصة بعد انهيار دفاعات المسلحين في ضاحية سلمى الواقعة إلى الجنوب من البلدة، والتي شكلت قبل أسابيع حجر عثرة حال دون تقدم الجيش، رغم اختراقه أطرافها الجنوبية.
ومما له دلالته على مدى الإحباط الذي أصاب المسلحين، وكان له دور حاسم في تحديد نتيجة المعركة وسيطرة الجيش على سلمى، أن قادة الفصائل، التي يتبع لها هؤلاء المسلحون، رفضوا إرسال تعزيزات إلى بلدة سلمى، في إشارة واضحة إلى عدم جدوى ذلك بعد التقدم الأخير للجيش، الذي سيطر بموجبه على التلال الحاكمة في المنطقة. لكن ذلك لم يمنع قادة بعض الفصائل من تحميل مسؤولية سقوط سلمى إلى «المتخاذلين» الذين امتنعوا عن دعم جبهة الساحل برغم النداءات المتكررة، وهم يقصدون الفصائل الموجودة في إدلب وحلب خاصة.
وفي محاولة للتخفيف من حدة التشنج الذي أعقب هذه الاتهامات، اعتبر «قاضي عام جيش الفتح» عبد الله المحيسني أن الأمر ليس «تخاذلاً بل اختلاف في تحديد الأولويات»، واصفاً معركة الساحل بأن «لها بعداً عسكرياً واستراتيجياً كبيرا».
وتُعدّ سلمى من أولى المناطق التي خرجت عن سيطرة الجيش السوري، واستوطن فيها المسلحون، محاولين، للمرة الأولى، إقامة «إمارة» خاصة بهم. فكانت سلمى أول منطقة سورية تشهد إقامة مخفر خاص بالمسلحين ودار بلدية وقضاء، وكان المشروع يقضي بتحويل البلدة السياحية إلى بؤرة «جهادية» لتهديد الساحل السوري برمّته، بناءً على قناعة مفادها أن الساحل السوري هو وحده ما يصيب النظام السوري في مقتل. وكان أحد أهم المخططات لإقامة هذا المشروع هو تطوير سلاح كيميائي لتنفيذ عمليات إبادة ضد الموالين للنظام في عقر دارهم، وما زال فيديو التجربة الكيميائية لكتيبة «ريح صرصر» متاحاً على الشبكة العنكبوتية.
عبد الله سليمان علي / السفير