شكراً السعودية أم "تبّاً"؟

شكراً السعودية أم
الإثنين ٢٩ فبراير ٢٠١٦ - ٠٨:٤٢ بتوقيت غرينتش

السعودية «تحب» لبنان. تريده على هواها. تنفق فيه ما يؤهله لطاعتها. «تسخو» عليه ليريحها. خطر لبنان على محيطه بسبب ما لديه من فائض الحرية. ولبنان عاصٍ وأهواؤه كثيرة. يحب شرقاً، يهيم غرباً، ولا يركن إلى حضن. مشاكس بالطبيعة. لا كلمة سواء بين أهله، فكيف مع من هم على ثبات في السلطة ومن هم على تعميم الصمت على شعوبهم. تطويعه ليس سهلاً وترويضه عسير. حدوده لينة، تعبرها الولاءات والانتماءات. ومن المتوقع أن تكون السعودية قد فهمت عصيان هذا الكيان واختلافه عن أنظمة الصمت العربية وأنظمة الاستبداد. تخسر السعودية لبنان. ما تريده منه، يريد غيرها عكسه، وهو بين الاثنين يجود.

السعودية «تعاقب» لبنان. تمنع عنه «مكرمة» ملكية. استردت ما كانت تنوي التبرّع به. أربعة مليارات تسدّ ثغرة في الحرب على اليمن. أنفق قرشك الأسود في ليل هذه الأمة الطويل. تقول المملكة «الحنون»: الحق على لبنان العقوق. من معها في لبنان يتعجَّل المبايعة، يعظّم الأمور، يهدد بما تملكه المملكة من خيارات عقابية مؤلمة... من ليس معها يتجاهل الوعيد ولا يخاف التهديد، ويقرأ الخريطة الإقليمية بطريقة أخرى. هو والسعودية لا يلتقيان.
السعودية مخطئة في حق لبنان. كان يجب أن تعرف أنه ليس «إمارة» لها، ولا هو «ولاية» لغيرها. من زمان، للبنان طموح فوق طاقته. هكذا هو. يطمح أن يكون الشرق والغرب، وعنده يلتقيان ويتنافسان، أن يكون «جسر عبور»، أن يكون الصحراء والبحر، أن يكون العقائد كلها والمذاهب كلها والقضايا كلها، بكلفة باهظة: الانقسام والاقتسام. لا شبيه للبنان في العالم. يُحْكَم من تحت لا من فوق. وما هو تحت، هو قاعدة الحكم... «الحكمة» السعودية تناست ما تعرفه حق المعرفة عن لبنان. «الطائف»، بعضه من صنْعها ورعايتها. اجترحت أموالاً وأفكاراً ومبادرات لِلَمِّ جناحي لبنان المسيحي والمسلم إلى الجسد المعطوب بحرب دامت خمسة عشر عاماً.
السعودية تعرف جيداً أن لبنان هو اللبنانيون. لبنان، ليس دولته ولا سلطته ولا حكومته ولا رئيسه. وهي تتعامل معه، من خلال ملحقين بها وتابعين لسياستها. لها شريحة واسعة تصيبها المكرمات العلنية والهبات الانتخابية والعطاءات السياسية... وعليه، هي تعرف أن في لبنان من لا يطيعها ومن لا يطيقها كذلك. صورتها عنده، نفط ومال ووهّابية وتخلّف وفبركة تطرف. لبنان الآخر، يعرف ذلك ولكنه مستفيد، لإقامة توازن ضروري، كي «يستقيم الحكم» على علّاته. هذا اللبنان، يسايرها. يفيض عليها عبارات التقدير والعرفان والشكر. يقف إلى جانبها، من دون تكلفة. أما في المواقف الحرجة فيتلعثم. تعرف السعودية أنها إذا دعته إلى الحياد، ينأى نصفه والآخر ينخطر. تريد من «حزب الله» أن ينسحب من الحرب السورية، ولكنها في المقابل، هي النموذج الفج للتدخل، بكل الأشكال. هي تحارب حروبها كلها، في اليمن والبحرين والعراق وسوريا وغيرها. وحروبها تأتي من خارج «الإجماع العربي». هي ليست بحاجة إليه، إلا قليلا. سبق أن كانت خزان المجاهدين المرسلين إلى أفغانستان، من دون إذن دولي أو سماح عربي. شكلت القاعدة السياسية والعَقيدية لتنظيم «القاعدة» الذي منه «داعش». سبق أن كانت على خلاف مع الجزائر بسبب دعمها للإسلاميين المتشددين، مالاً وتنظيما. سبق أن دعمت إسلاميي السودان، وسبق أن دعمت إسلاميي تونس، وهؤلاء، وسواهم، قادوا البلاد إلى الخراب... السعودية ليست النموذج الصالح الذي يقتدى، في أي مكان. وصلت مواصيلها إلى أميركا الوسطى.
ومع ذلك، تريد المملكة من لبنان أن يسحب «حزب الله» خبراءه وكوادره من اليمن. فيما هي تدك اليمن، بما يشبه دكّ النظام السوري لبلده. وتريد أن يكف «حزب الله» عن التحريض ضد المملكة في البحرين والعراق و... فيما هي قامت باجتياح البحرين، وأقامت درعاً عسكرية لحماية النظام المستبد، وفيما هي تمنع العراق من محاربة «داعش» بسبب خوفها من ولاءات «الحشد الشعبي» المؤيد إيرانياً... ما تطلبه السعودية من لبنان اللبنانيين، تخرقه هي. انها في حرب ضد إيران، أينما كان. هنا بيت القصيد، وهنا بيت النار. لم تقبل نصائح واشنطن وموسكو ودول أوروبية بالجلوس على طاولة واحدة مع إيران، لحل رزمة المشكلات البينية.
اللغة الوحيدة التي تستعملها السعودية هي لغة الحرب. ربما تدرك، بعد تجربة اليمن، أن ربح الحروب في هذا الزمن بات صعباً. لذا، تتبع الحكمة التالية: «إذا كان متعذّراً الانتصار عليها، فدعها تنزف»، وهكذا كان وسيكون.
تريد السعودية من لبنان أن يذهب معها. ولبنان، نصفه ضدها. لذا، فليدفع لبنان واللبنانيون كلهم ضريبة عدم الولاء... من ظن أن هبات السعودية هي لوَجه لبنان، مخطئ. لا هبات مجانية في السياسة. قالها الرئيس الأميركي الأسبق: «إن مساعداتنا الإنسانية هي توظيفات». فقدت السيولة السعودية النفع. مردودها غير مجدٍ.
هل كان ممكناً غير ذلك؟ ألم يكن من الأفضل الاعتصام بحبل «الإجماع العربي»؟ أليست العروبة هي الجامع المشترك؟ الإجماع العربي حجة تالفة. الدول العربية صاحبة خبرة في نقض هذا الإجماع. القوة هي القول الفصل. «الجامعة» تمثال من تمر، تأكل منه الأنظمة ولا تشبع. السعودية ليست بحاجة إلى إجماع. قادت حرباً بتحالف ضد اليمن، وأمرت الجامعة بالسير فيه. هكذا هي الجامعة. والسعودية ماضية في حروبها، بإجماع ومن دون إجماع، بأكثرية أو من دونها. الحكاية أن فريقاً لبنانياً، مشترك جدي في الحرب ضدها، وتريد أن تخوض حربها ضده بأدواتها المالية وعقوباتها الديبلوماسية. حفلة ضغط على لبنان ليحرج «حزب الله». فات الأوان. «حزب الله»، ان كنت معه أم كنت ضده، منخرط وفاعل ولا يتراجع. دفع أثماناً وما زال. القضية، هل يحتمل لبنان نظام العقوبات السعودي أم لا؟ هنا مكمن القضية. لا علاقة لذلك لا بالعروبة ولا بالإجماع ولا بقرارات نأي لبنان بنفسه عنها.
ليس سراً أن السعودية لم تكن يوماً مع «حزب الله»، حتى عندما كان يواجه "إسرائيل". وهي تريد قطع يده في المنطقة، لأنها تورطت في حرب سبقها فيها «حزب الله» وبات في المواجهة، الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامية.
ليس أمام اللبنانيين إلا تأمل ما آلت إليه خياراتهم. السعودية تعاقب لبنان، لأسباب إيرانية. إيران هل تعوِّض؟ هل إذا فعلت، اختصت بالعطاءات أهل ملّتها؟ أليس لهذه الأسباب يبقى لبنان لبنانين: واحد ليس لي وآخر ليس لك؟
أخيراً، شكراً السعودية أم «تبَّا»؟

نصري الصايغ / السفير
2-109