تركيا تتلقى صفعة قوية بمعركة منبج.. كيف سيكون ردها؟

تركيا تتلقى صفعة قوية بمعركة منبج.. كيف سيكون ردها؟
الخميس ٠٢ يونيو ٢٠١٦ - ٠٦:٢٥ بتوقيت غرينتش

في لحظة من النادر أن تتكرر، اجتمع فيها غياب الدولة السورية الاضطراري لبعد قواتها عن مسرح الأحداث، إلى جانب تردد الدولة التركية بسبب حساسية المعادلة التي تحكم علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، سلّمت واشنطن إلى «قوات سوريا الديموقراطية» جميع مفاتيح مناطق تنظيم «داعش»، الممتدة من شرق مدينة تل رفعت في ريف حلب الشمالي مروراً بمدينة منبج في ريفها الشرقي، وصولاً إلى جنوب بلدة عين عيسى في ريف الرقة الشمالي.

ووراء كل مفتاح هناك إعلان معركة جديدة. فالبداية مع معركة ريف الرقة، التي دخلت، على تباطؤها، أسبوعها الثاني. وبالأمس القريب إعلان معركة منبج، التي يبدو أن أحداثها ستكون متسارعة أكثر من سابقتها، وذلك وسط توقعات ألا يطول الوقت قبل أن تعلن «القوات»، التي يهيمن عليها «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، افتتاح معركة ثالثة انطلاقاً من مدينة تل رفعت.
هذه المعارك المترامية الأطراف تهدف من جهة إلى تشتيت جهود تنظيم «داعش»، ومنعه من تركيز مقاتليه للدفاع عن نقطة محددة بمفردها، ومن جهة ثانية تهدف إلى إرباك التنظيم حول حقيقة الخطة الموضوعة، وهل هذه المعارك المفتوحة ضده جميعها جدية وستستمر، أم بعضها يهدف فقط إلى التغطية على المعركة الأساسية التي تضمر الهدف الحقيقي من وراء هذه الجلبة؟ وفي هذه الحالة ما هي هذه المعركة، وبأي اتجاه ستسير؟.
وتُعَد تركيا الطرف الأكثر تضرراً جراء الاجتياح الكردي لما تبقى من مدن وبلدات الشريط الحدودي مع سوريا، لا سيما ما يتعلق بتقدم «قوات سوريا الديموقراطية» غرب نهر الفرات باتجاه مدينة منبج، والذي اشتهر بكونه خطاً أحمر تركياً، وضعت أنقرة كل ثقلها لمنع تجاوزه طيلة الأشهر الماضية من هذا العام. لذلك فإن إطلاق معركة منبج يعتبر بمثابة الصفعة القوية لمصداقية أنقرة وهيبتها.
وما يزيد من المأزق التركي ما بدأ يتسرب، عبر بعض القنوات، من أن واشنطن كانت قد أمهلت تركيا ستة أشهر كي تقوم بمهمة دحر «داعش»، لكنها فشلت في ذلك. وهو ما يضع أنقرة أمام ضربة مزدوجة، فمن جهة ضياع مصداقيتها لعدم قدرتها على ترسيخ خطوطها الحمر، ومن جهة ثانية بسبب فشلها العسكري وسوء اختيارها للفصائل التي أوكلت إليها تنفيذ هذه المهمة.
ولم يصدر حتى الآن أي موقف رسمي تركي بصدد معركة منبج، سوى ما تناقلته بعض وسائل الإعلام نقلاً عن مصدر عسكري تركي قال فيه إن «تركيا ليست مشاركة في المعركة». وتحجج بأن «هذه المنطقة تقع على بعد 40 كيلومتراً من حدود تركيا، وبالتالي من المستحيل أن تدعمها تركيا. كما أنه من غير الوارد سياسياً لتركيا أن تقدم الدعم» لإحدى عمليات «وحدات حماية الشعب». ومع ذلك، فحتى إذا اختارت تركيا عدم التصعيد بتصريحاتها، فمن الصعب التصديق أنها أصبحت فجأة غير مبالية برؤية الكيان الكردي وهو يكتمل أمام عينيها.
غير أن الصمت التركي، في حال استمر، قد يكون مجرد ستار لإخفاء ردّ الفعل الحقيقي الذي يمكن أن يصدر عن نمر جريح. ولكن بما أن أنقرة محكومة بمعادلة معقّدة وحساسة في علاقاتها، مع كل من واشنطن وموسكو، فإنها قد تجد نفسها غير مضطرة لاتخاذ أي موقف تصعيدي يمكن أن تترتب عليه تداعيات لا ترغب بها، وذلك بانتظار أن تتحقق من مدى قدرة «داعش» على التصدي للهجمات التي تشن ضده، ومن ثم تبني على الشيء مقتضاه. كما أن أنقرة تملك بيديها العديد من الأوراق التي تمكّنها من الحفاظ على الحد الأدنى من مصالحها، وقد يكون أهم هذه الأوراق تعزيز عوامل صمود تنظيم «داعش» عبر دعمه سراً، وكذلك الاشتغال على إشعال فتنة كردية ـ عربية تمنع الأكراد من الاستقرار في المناطق التي يسيطرون عليها، خصوصاً في المناطق ذات الغالبية العربية. وفي الأحوال كافة، ونتيجة امتداد خطوط انتشار «القوات الكردية» فسيكون من السهل فتح معركة استنزاف ضدها، إذا اقتضى الأمر.
أما بالنسبة لسوريا وحلفائها، وفي ظل التأكيدات العلنية على عدم وجود أي تنسيق عسكري بين موسكو وواشنطن، فإن فتح معركتي الرقة ومنبج يعد خسارة كبيرة جداً. ويمكن، إذا لم تتخذ مبادرات لتطويق هاتين المعركتين، أو الحد من آثارهما، أن يتركا تداعياتهما ليس على الميدان العسكري وحسب، بل حتى على مسارات الحل السياسي ونتائجه. والسبب في ذلك، هو أن المساحة التي يسيطر عليها «داعش» تبلغ حوالي 60 في المئة من مساحة سوريا (جزء منها عبارة عن مساحات صحراوية غير مأهولة لكنه يتحكم بها)، وبالتالي فإن من يرث التنظيم ويحل محله في المدن والمناطق التي يسيطر عليها سيكون صاحب الكلمة العليا، سواء في الميدان أو على طاولة المفاوضات.
لذلك قد يكون الاتجاه نحو مدينة حلب جاء من باب محاولة إيجاد نوع من التوازن الإستراتيجي، في إطار التنافس بين الأطراف المختلفة. وعليه، فإنه من المتوقع أن تتخذ العمليات في حلب منحى تصعيدياً خلال وقت قريب. ومما له دلالاته أن الجيش السوري مستمر في قصف معاقل التنظيمات المسلحة في المدينة والريف منذ أيام عدة، قاطعاً للمرة الأولى طريق الكاستيلو، عبر استهدافه جواً. كما قام الطيران برمي مناشير فوق أحياء حلب الشرقية تتضمن تحذيراً للمسلحين من أن الطوق يضيق عليهم أكثر فأكثر، وتطالبهم بتسليم أنفسهم أو سيلقون مصيرهم المحتوم.
وفي الأحوال كافة، فإن هناك قناعة في دمشق بأن أي خسارة يمنى بها «داعش» ستكون لمصلحتها، بغض النظر عن الطرف الذي ينتصر عليه، وخاصة إذا كان الأكراد، حيث تملك دمشق خبرة كافية للتعامل معهم حين يتطلب الأمر. إلا أن الأمر قد يتخذ منحى أكثر تعقيداً بالنسبة لدمشق، خصوصاً في ظل المشاركة الأميركية المباشرة في هذه المعارك، وما يمكن أن يترتب على ذلك من احتمال بقاء القوات الأميركية لما بعد القضاء على «داعش».
ميدانياً، انطلقت معركة منبج من محورين، الأول سد تشرين الذي سيطرت عليه «قوات سوريا الديموقراطية» منذ أواخر العام الماضي، كما اجتاحت آنذاك بعض القرى الواقعة غربه. لذلك فإن الحديث الذي يتردد اليوم حول سيطرة هذه القوات على 16 قرية هو حديث مبالغ فيه بعض الشيء، لأن «قوات سوريا الديموقراطية» كانت تقف على مشارف قرية أبو قلقل منذ أشهر عدة. ومن المتوقع أن تحاول القوات المهاجمة أثناء تقدمها التوسع والانتشار بغية الالتفاف والتطويق، وليس إتباع خطة «رأس الحربة»، لأن مدينة منبج مدينة كبيرة، ويستحيل اقتحامها من محور واحد.
والمحور الثاني، هو جسر قره قوزاق الذي كان قد تهدم سابقاً جراء تفجيره من قبل تنظيم «داعش» في وقت سابق. غير أن القوة المهاجمة عملت على إصلاح الجسر قدر الإمكان، ووضعت فوقه جسوراً حربية لاستخدامها في العبور، حيث نجحت في الوصول إلى جبل الحمام، تحت تغطية جوية كثيفة من طائرات التحالف.
وثمة خطوة أقدمت عليها طائرات التحالف من شأنها أن تثير العديد من التساؤلات حول سببها والغاية منها، حيث عمدت الطائرات إلى تدمير جميع الجسور التي تربط بين ريف مدينة منبج وبين ريف مدينة جرابلس ذات المعبر الحدودي مع تركيا. وأهم هذه الجسور هي عون الدادات، وعرب حسن، والمحسني، والتوخار والحلونجي. فهل الغاية هي تقطيع أوصال «داعش» ومنعه من استقدام تعزيزات من جرابلس نحو منبج أو الانسحاب بالعكس، أم هناك غاية أخرى قد يكون فيها رائحة ضمانات لتركيا بأن الأمور لن تصل إلى أقصاها، ويتمثل ذلك في منع مقاتلي «قوات سوريا الديموقراطية» من الاقتراب من جرابلس بعد سيطرتهم على ريف منبج؟

*عبد الله سليمان علي - السفير