بعض الخواطر في يوم الإنسانية العلوي

بعض الخواطر في يوم الإنسانية العلوي
الأربعاء ٢٩ أغسطس ٢٠١٨ - ١١:٥٠ بتوقيت غرينتش

بسم اللّه الرحمن الرحيم (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ) روى ابن ماجة في سننه- فضائل علي وأيضاً الحاكم في مستدركه عن (البراء بن عازب) قال: "أقبلنا مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجته التي حجّ فنزل في بعض الطريق، فأمر الصلاة جامعة فأخذ بيد علي، فقال: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قالوا: بلى قال: "ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟" قالوا: بلى. قال: "فهذا ولى من أنا مولاه، اللّه وال من والاه. اللّه عاد من عاداه".

العالم - إيران

الجمعة الماضية انتهت عطلة عيد الأضحى هنا في إيران حيث أقيم منذ عام تقريبا، والإيرانيون بدؤوا الاحتفال بيوم الغدير، الموافق للثامن عشر من ذي الحجة، فالمؤسسات العلمية، والفعاليات الشعبية متهيئون لإحياء هذه المناسبة المتعلقة بالإمام علي بن أبي طالب"ع"، وهو تعلق عقائدي بحادثة مدهشة في التاريخ الإسلامي، يقر بوقوعها كل المسلمين على اختلاف مذاهبهم.

الجمهورية الإسلامية فرحة هذه الأيام، سرور لا يفسده الحصار الأمريكي، وهبوط صرف سعر التومان، فالميادين مزينة، ومظاهر الفرح تكسو أروقة الأندية الصيفية، وباحات المساجد، وتستعد المراكز الشبابية والدينية غدا لمراسم بهيجة فهو يوم السرور عند أهل بيت النبي "ص" وأتباعهم يفرحون لفرحهم ويحزنون لحزنهم.

هي مناسبة يحييها أنصار أهل بيت النبي محمد "ص" في العالم، لكن مظاهر الاحتفال تتجلى في إيران الإسلامية التي يقودها فقيه مجتهد ومفكر إسلامي من الرواد الأوائل في الثورة الإسلامية التي قلبت ظهر المجن على رؤوس الأمريكيين، الذين كان مستشاروهم يديرون حكم نظام الشاه المقبور في طهران.

وبحسب أصدقاء إيرانيين من الروحانيين أي رجال الدين، وطلبة الحوزة العلمية فإنهم في عيد الغدير يحرصون على مظاهر التجمل والسرور، وإعلان الأفراح كأعراس الزواج وغيرها، وهو يوم للعفو بين المتخاصمين، وصلة الأرحام، وقضاء حوائج المحتاجين، وفيه توزع الأطعمة على الصائمين استحبابا في هذا اليوم المبارك، ويتبادل الأصدقاء الهدايا، ويعتقد أتباع أهل البيت، أنه اليوم ذاته الذي انتصر فيه موسى على السحرة، وصارت النار فيه على إبراهيم الخليل بردا وسلاما، وهو اليوم الذي نصب فيه أنبياء أولي العزم كموسى وعيسى أوصياءهم، كما يعتبر يوما للمؤاخاة بين المسلمين يضع أحدهم اليد اليمنى على يد أخيه اليمنى ويتعهدان أن لا يدخلا الجنة إلا معا، ويسقطان عن بعضهم بعضاً الحقوق.

الآلاف من الإيرانيين في يوم الغدير يتوجهون إلى العراق لزيارة صاحب المناسبة، مرقد الإمام علي"ع" في النجف الأشرف، كما تقام الاحتفالات الكبيرة في العتبات المقدسة عند ضريح الإمام الثامن علي بن موسى الرضا"ع" في مشهد المقدسة، وفي قم المقدسة عند ضريح كريمة أهل البيت فاطمة المعصومة سلام الله عليها.

الغدير المغدور

لطالما استوقفتني هذه الحادثة الإسلامية المتواتر ذكرها في المصادر الإسلامية؛ حادثة مهملة عمليا، رغم قوة حضورها في الحديث والسنة النبوية والتاريخ، هي البيان النبوي لتكليف كل مسلم عقب رحلة النبي"ص" عن الدنيا، وتعيين المرجعية العليا لتفسير القران، وقطع دابر كل اختلاف قد يحصل في الأمة المحمدية باعتبار علي"ع" الممثل الشرعي للرسالة الإسلامية، التي واجهت منذ الأيام الأولى لفقد النبي حصارا فكريا؛ تمثلت أحد مظاهره بمنع تدوين السنة النبوية.

كل باحث متفحص سيتوقف مليا متسائلا عن دلالة ذلك الإعلان النبوي الشعبي العارم في "غدير خم" الذي حضره مئة ألف من الصحابة، تساؤل شغل بالي مذ كنت طالبا في المدرسة، حاولت أن أجد جواب هذا الإشكال في مصادر علماء "أهل السنة"، أو بطرح أسئلتي على المشايخ، الإجابات وبأمانة كانت تأتي بائسة، تسطّح تلك الحركة النبوية الهائلة، وتستصغر ذلك المحتشد الإلهي الكبير، في الصحراء اللاهبة، حيث يؤمر الحجيج بالتوقف للاستماع إلى البلاغ الأخطر قبل مغادرة النبي"ص" هذه الدنيا الدنية.

وقد يأتيك الجواب بأن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا داعي لنبش تلك الأحداث الماضية! منطق عجيب لا مسؤول.. يعني أن نغض الطرف عن كل من شوه التاريخ، وساهم في حرف الناس عن وصايا الأنبياء، وأن نغض طرفا كذلك عن من يدمر الأوطان، ويغتصب الحقوق بمجرد التقادم كما يفعل متصهينو العرب اليوم بتبرئة إسرائيل واليهود المعاصرين من جرائمهم واغتصابهم لفلسطين وحبكهم للمؤامرات لتمزيق البلاد العربية والإسلامية، فقبل أيام شكر وزير أوقاف آل سعود الصهاينة لأنهم يسمحون للفلسطينيين بالحج، في تجميل لصورتهم، وإمعانا في قلب الحقائق!

يوم الإنسانية

بناء على ما سبق فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نادى للصلاة جامعة موقفاً الحجيج، مانعاً إياهم عن المسير، وفي خضم الحر الشديد، منصباً لهم بعد ذلك الأمير (عليه السلام) مرتكزاً قبل كل شيء على جبال الفضائل والمحاسن التي يتميز بها علي (عليه السلام) عن غيره، إذن، تستحق الحادثة وصاحبها تقديم الغالي والنفيس ونحن نبحث عن هذه الشخصية الأُسوة المقدسة، عن تراثها، تاريخها، كل ما يتعلق بها، وبعد ذلك وعند تيقن إرثها ومنهجها وبالاتفاق على مرجعيته كم سيربح العالم، وكم ستحسم من خلافات فتّت عضد الأمة، (مسألة الولاية) هي المفهوم الإسلامي الإنساني، فقائد الأمة أي النبي المعصوم الذي من المفترض أن لا يختلف في التزام أمره اثنان من (جماعة المسلمين) يريد أن ينقل للأمة آخر توصياته التي أكد عليها مِراراً، وكان (سلام اللّه عليه) يخص فيها رغم عمومها تلك القلوب المفعمة بالاخلاص، والمرتجفة لأجل مستقبل الإسلام; يقول لهم: (لا تقلقوا، ولا يحزنكم فقدي، وها أنا أترك بين أظهركم صمام الأمان، وأجعل مسؤولية الدين والأمة بيد أمينة، وشخصية مثالية مؤهلة بجميع الكمالات التي حباني اللّه عدا كونه نبياً، وأن أية مشكلة أو معضلة يُخشى حصولها برحيلي فإن الإنسان الكامل الذي عرّفته لكم قادر على حلها إذا سلمتم إليه زمام أموركم وأطعتموه.

حد التواتر

ينقل عن الزمخشري قوله في حق علي: ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حقدا وحسدا،وأولياؤه خوفا، فظهر من ذين ما ملأ الخافقين.. صدق والله.. فرغم كل محاولات طمس هذه الحادثة، وإبطال هذا الحديث، فقد تواتر لفظا ومعنى عن مئة أو يزيد من الصحابة, وهنا حاول بعض حساد أهل البيت اللعب على وتر التفسير اللغوي، ومحاولة صرفه عن حقيقته فرد علماء مدرسة أهل البيت على ذلك بالحجة المحكمة التي تجدونها باستفاضة في محلها، وعالم الانترنت زاخر بها والحمدلله..

 وبما أنني قد قضيت في أوساط الطرق الصوفية ردحا من الزمن، وأعددت عنهم فيلما وثائقيا طويلا منشورا، فقد كنت أسأل كبارهم وبما أنهم يعترفون أن طرقهم في الذكر والأخلاق سندها إلى أهل البيت، فلماذا التنكر لدلالة حادثة الغدير؟ وجوابهم في أحسن الأحوال بأن لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب إمامة باطنية، يعني أن علياً إمام المسلمين بعد رسول الله ولكن إمامة باطنية من دون الحكومة الظاهرة!!

الإنسان الكامل أمل الإنسانية

ليس بعيدا قبل سنوات، كنت قريبا كذلك من الشباب اليساري، وخلال دراستي للدراما في الجامعة قابلت العديد من الطلبة اللاأدريين، كان البعض منهم يشكل على فكرة خاتميه النبي محمد"ص"، وانقطاع الوحي، وبرأيهم فإن الزمن الحالي المضطرب أحوج ما يكون إلى نبي يهدي الناس ويرشدهم إلى سواء السبيل إن كانت دعوى الوحي صحيحة، وفي كل مرة أصل إلى نتيجة واحدة يمكن أن تجيبهم عن إشكالهم المحق، في نظرية الإمامة الإسلامية الشيعية فقط، الإسلام بمرجعية علي"ع" من دون مبالغة مرتبط بالسماء والمبدأ الأعلى، وفلاسفة الشيعة ومفكريهم بينوا ذلك بشكل أو بآخر، وأحاول هنا بيانه بشكل مفتاحي متواضع؛ فمنذ تنصيب علي في الغدير إلى الإمام الثاني عشر المهدي، يعني ذلك أن الذي يقود البشرية لا يمكن أن يكون إلا شخصية إلهية مسددة، قولها فصل وحكمها أمر وعدل، فالدين الذي أكمل بتبليغ الناس بولاية علي"ع"، مستمر إلى آخر الزمان، على رأسه أئمة أهل البيت"ع" الهداة الميامين، وكل إمام معصوم يشير إلى الإمام من بعده، حتى وصلت النوبة إلى المهدي القائم الحجة ابن الحسن، وان اقتضى اللطف الإلهي غيابه عن تشخيصنا، لكنه حاضر يرعى مصالح الإنسانية، يتدخل، ويسدد بالشكل الذي يراه مناسبا ويؤدي إلى المصلحة الواقعية لنضج البشرية وتكاملها، ومن هنا يعتقد الشيعة، أن السلطة حق حصري للإمام المعصوم، وهو المحور في هذه العملية، وعندما تكون الأوضاع مساعدة والظروف مناسبة لابد من تولي الإمام منصبه والقيام بمهامه، وأما عندما لا تكون الظروف ملائمة للتصدي المباشر، فان الإمام يتصدى لمهامه بشكل غير مباشر، ويقوم بما يجب عليه القيام به لإعادة التوازن في حركة البشرية، والتمهيد لدولة العدل والقسط العالمية وعندما يتهدد وجود الإمام يضطر للغيبة المؤقتة، بتدبير يختاره الله للإمام ليتابع أداء مهامه بشكل أو بطريقة أخرى.

في القرآن آيات كاشفة تفيد مضمون استمرارية الوحي من دون انقطاع :"تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر.." إذن تتنزل باستمرار كل عام على الأقل، ولا من أحد يشبه صفات النبي بعد رحيله إلا أوصيائه المعصومون وفق الاعتقاد الشيعي الوحيد من بين أديان الدنيا ومذاهبها الذي ما زال يرتبط بالوحي والسماء، وقد جاء في روايات أهل البيت"ع" "..إنما يأتي بالأمر من الله تعالى في ليالي القدر إلى النبي والى الأوصياء افعل كذا وكذا.." وفي إحدى الزيارات للإمام الحسين الواردة عن الإمام جعفر الصادق ".. إرادة الرب تهبط إليكم وتصدر من بيوتكم..".

ختاما.. أدعو وبالقلم الكسير (رواد الحقائق) من كل المسلمين، بل ومن غير المسلمين أن يقرؤوا بتمعن وتجرد (واقعة الغدير الجلية) من دون مواقف مسبقة، وعليهم أن يبذلوا جهودهم في تتبع المقاصد النبوية لهذا اليوم الإنساني: (اليوم الذي استوضح الحق أهله فيه).. معتمدين في ذلك وقبل كل شيء على إخلاصهم وصفاء قلوبهم، ثم يتابعوا ليتعرفوا على أهمية النهضة الإسلامية الحديثة المنطلقة من إيران الإسلام وقائدها المُلهم (روح اللّه الموسوي الخميني) وامتدادات هذه النهضة المباركة على الأرض وفي القلوب ، فهي النهضة المعاصرة المستندة لتراث رسول الله وآل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى رأسهم صاحب الغدير الإمام علي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة والسلام.

اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف رسولك, اللهم عرفني رسولك فإن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك, اللهم عرفني حجتك فإن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني..

* عبدالرحمن أبوسنينة