عطوان: هذه قصّة لقائي مرتين بمرسي.."ستغضب الكثيرين"

عطوان: هذه قصّة لقائي مرتين بمرسي..
الثلاثاء ١٨ يونيو ٢٠١٩ - ٠٩:٢٠ بتوقيت غرينتش

اعترف أنني كنت وما زلت من محبي الرئيس المصري الراحل المنتخب محمد مرسي، وشعرت بحالة من الصدمة عندما تابعت مساء اليوم نبأ وفاته في قاعة المحكمة، وهو يرتدي ملابس السجن الزرقاء، وبعد مرافعة استمرت لأكثر من عشرين دقيقة، فند فيها كل الاتهامات الموجهة إليه التي اعتبرها من "فبركات" الخصوم والمدعي العام.

العالم - مصر

التقيت الرئيس مرسي مرتين، الأُولى كانت بمحض الصدفة، عندما كنت مدعوا لحضور مؤتمر العدالة والتنمية الذي انعقد في أنقرة في أيلول (سبتمبر) عام 2012، وهو آخر مؤتمر يتزعمه رجب طيب أردوغان بحكم انتهاء فترتي ولايته، أما الثانية فكانت في قصر الاتحادية في القاهرة في الثالث من حزيران (يونيو) عام 2013، أي قبل الإطاحة به بشهر واحد تقريبا.

كنت أجلس في مقهى فندق "ماريوت" في العاصمة التركية، حيث كنت أقيم مع حشد ضخم من المدعوين، وكان الرئيس مرسي أبرزهم، وحظي بحفاوة خاصة من قبل رئيس الوزراء التركي، وفجأة حصلت ربكة في البهو ليظهر الرئيس المصري وسط مجموعة من الحراس والمرافقين، فالتقيت أعيننا، فإذا به يغير مساره ويتقدم نحوي هاشا باشا، ويعانقني معاتبا لأنني لم أزوره في مصر ولم أهنئه بفوزه بالرئاسة، ويصطحبني إلى جناحه عبر المصعد بفترة قصيرة، حيث كان يستعد للمغادرة إلى المطار للعودة إلى القاهرة، حيث لم تدم إقامته في أنقرة إلا سبع ساعات.

الرئيس مرسي سألني عن أسباب عدم زيارتي للقاهرة، قلت له إن السبب بسيط، وهو أن الرئيس حسني مبارك شرفني باحتلال مكان بارز على قائمة الممنوعين من دخول مصر السوداء، فضحك، وقال الآن سنمزق هذه القائمة، وأنا أوجه لك دعوة للزيارة فمصر بلدك، ومحبيك كثر فيها، لا قوائم منع بعد الآن لأي عربي ومسلم، نحن أمام مرحلة جديدة، ومصر أخرى، فشكرته وودعته على أمل اللقاء على أرض الكنانة.

***

تأخرت في تلبية الدعوة لأن مصر لم تشهد الاستقرار مطلقا، وكانت تخرج من اعتصام لتدخل في آخر، ولكن في مطلع حزيران (يونيو) قررت أن أشد الرحال إلى قاهرة المعز التي كانت تعج بالزوار من مختلف أنحاء الوطن العربي، وتشهد نهضة إعلامية غير مسبوقة في تاريخها، حيث برامج "التوك شو" تستمر لساعات، وتعكس حالة من الإنفتاح والحريات التعبيرية لم تعرفها مصر، ولا أي دولة عربية من قبل.

فاتحت الصديق حسنين كروم الذي كان يدير مكتب صحيفة "القدس العربي" عندما كنت أتولى رئاسة تحريرها، بأنني أريد مقابلة الرئيس مرسي تلبية لدعوة تلقيتها منه، فأصفر وجهه، ولم يرحب بهذا الطلب، لأنه ناصري عتيق ولا يكن أي ود لحركة الأخوان المسلمين، ويجاهر بموقفه بكل شجاعة، وقال لي أنه سيتصل بالرئاسة ويطرح عليهم الطلب، فجاءه الرد بعد ساعة تقريبا، وأبلغوه بأن الموعد مع الرئيس تحدد الساعة 12 ظهرا في قصر الاتحادية وسيكون في انتظارنا.

الزميل والصديق كروم رفض أن يصاحبني في اللقاء، وقال اذهب لوحدك، فأنا لا أريد مقابلة الرئيس ولا اعترف به، وأعاد تأكيد معارضته لحركة "الأخوان المسلمين"، وقال ساخرا "يا سيدي مبروكين عليك".

وصلت إلى قصر الاتحادية على متن سيارة أرسلها البروتوكول، ولم تجر لي أي عملية تفتيش، باستثناء مروري عبر حاجز إلكتروني وبصحبتي أحد المرافقين، وفجأة استوقفني رجل أنيق يحمل حقيبة مليئة بالملفات فيما يبدو، عرفني وقدم لي نفسه على أنه اللواء مراد موافي، رئيس جهاز المخابرات المصري العامة، الذي خلف الشهير عمر سليمان، ورحب بي قائلا بلكنته المصرية المحببة، أهلا بك "عباري باشا" في بلدك مصر، فقلت له سيادة اللواء أنا قادم للقاء الرئيس، قال أعرف، فمازحته قائلا لي طلب واحد فقط، وهو أن لا يضايقني "جماعتك" في مطار القاهرة عند المغادرة، فضحك وقال اطمئن لن يعترضك أحد، وهذا ما حدث.

مكتب الرئيس مرسي كان متواضعا جدا، وجلسنا على أريكة قبالته، ولم يحضر اللقاء إلا الدكتور ياسر علي، مدير مكتبه على ما أذكر، وكان الرئيس ودودا طيبا مثل الغالبية الساحقة من أهل مصر الكرماء البسطاء، واستمر اللقاء ما يقرب الساعة، وكان يتحدث طوال الوقت عن طموحاته في إصلاح الاقتصاد المصري، وإعادة عهد التصنيع الثقيل وتحقيق الاكتفاء الذاتي، خاصة في القمح، وأكد لي أنه سيشتري الطن منه من الفلاح المصري بـ 300 دولار كبديل للقمح الأمريكي الذي كان أقل بخمسين دولارا للطن، آلى جانب قضايا أخرى لا يتسع هذا المجال للتطرق إليها لضيق المساحة.

بمجرد مغادرتي قصر الاتحادية لم يتوقف هاتفي النقال عن الرنين، ولأنني لا أجيب على الأرقام التي لا أعرف أصحابها، تجاهلت الأمر حتى اتصل بي أحد الزملاء من لندن وقال لي إن الفريق ركن عبد العزيز سيف الدين، عضو المجلس العسكري، ورئيس هيئة التصنيع الحربي، هو الذي كان يتصل بي ويتمنى علي الرد، وفعلا كان الفريق هو الذي يبادر بالاتصال، ووجه لي دعوة للعشاء مع مجموعة من زملائه في نادي الضباط في مصر الجديدة، وكان من المفترض أن يكون الفريق أول عبد الفتاح السيسي حاضرا، ولكنه تغيب لارتباطات رسمية للمشاركة في اجتماع طارئ لبحث "أزمة" سد النهضة دعا إليه الرئيس مرسي، مثلما قيل لي، وغادرت في اليوم التالي إلى لندن ولم أعد إلى العاصمة المصرية الأثيرة على قلبي، والتي عشت فيها أجمل سنوات شبابي (في الجامعة) حتى الآن.

***

كان الفريق عبد العزيز سيف وزملائه في قمة الود والأدب واللياقة، وحسن الضيافة، وأذكر أن الأستاذ أسامة هيكل، وزير الإعلام السابق، كان المدني الوحيد الحاضر، وأدركت من خلال الحديث أن هناك خطة للإطاحة بالرئيس مرسي يجري الإعداد لها على "نار حامية"، وهذه قصة أخرى.

لم أكن عضوا في حركة "الأخوان المسلمين" ولكني ما زلت أعتقد أن الرئيس مرسي والكثير من زملائه، تعرّض لظلم كبير بإعتقاله، وإهانته أمام القضاء بملابس السجن، بينما من نهبوا مصر وأموالها، وارتكبوا الجرائم، وبطشوا بالشعب طلقاء، الرجل اجتهد وأخطأ وأصاب، ولا اتفق معه في الكثير من سياساته، ولكنه لا يستحق هذه المعاملة القاسية التي تتعارض مع كل قيم العدالة وحقوق الإنسان.

أدرك جيدا أن هذا الكلام لن يرضي الكثيرين، وربما يعزز مكانتي على قائمة الممنوعين من دخول مصر، ولكن كلمة الحق يجب أن تقال، ومهما كان الثمن.

رحم الله الفقيد وأدخله نعيم جناته، وكل العزاء لأُسرته ومحبّيه، وإنا لله وإنّا إليه راجعون.

  • عبد الباري عطوان – رأي اليوم