فوائد مصر في مصائب جوارها: جيش العاطلين يزحف إلى ليبيا

فوائد مصر في مصائب جوارها: جيش العاطلين يزحف إلى ليبيا
الجمعة ٢٦ نوفمبر ٢٠٢١ - ٠٦:٥٨ بتوقيت غرينتش

ليست التحوّلات الأخيرة في السياسة الخارجية المصرية، لاسيّما في ما يتّصل بالملفّ الليبي، معزولة عن السياق الاقتصادي الداخلي، الذي كانت مؤشّراته حتى وقت قريب تنذر بأزمة شديدة مقبلة على البلاد.

العالم - مصر

مؤشّراتٌ لعلّ أبرزها تلك المرتبطة بمشكلة البطالة، والتي وجد النظام في الكوارث المُلمّة بجواره فرصة للتخلّص منها، عبر تصدير الفائض من الكتلة البشرية المصريّة الضخمة إلى الخارج، للعمل في مشروعات إعادة الإعمار في الدول المنكوبة، بما سيدرّ على القاهرة عوائد ضخمة من «الأخضر» الفالت من قبضتها

«البطالة بتقلّ؟! بحسّ بنمو الاقتصاد؟! الدولة بتقول إنها بتأسّس جمهورية جديدة، هنعيش فيها بحياة كريمة، بس لو كانت الكرامة هتبقى بالشكل دة مش عايزينها!». بهذه العبارة، أجابت زوجة وأمّ مصرية سؤالاً لـ«الأخبار» حول مدى تأثّرها بمؤشّرات تراجع البطالة التي أعلنتها الدولة المصرية، في إطار ما تُسمّيه الأخيرة «نهضة اقتصادية». يدرك النظام في مصر أن مشكلة البطالة تكاد تكون مثل كرة الثلج، حين تتدحرج تتهدّد كلّ ما في طريقها، حتى أقسى الأنظمة وأقواها. لذا، وبحُكم غريزة البقاء، يعمل المصريون ليس على تفادي تدحرج الكرة فقط، بل على الاستفادة القصوى منها أيضاً. لأسباب عدّة، ثُقبت عجلة النموّ الاقتصادي في البلاد، عقب سنوات ارتفعت فيها آمال النظام إلى عنان السماء. وبينما لا تعترف الدولة بأن مؤشّرات زيادة الإنتاج والدخل، لا تنعكس بالضرورة فرص عمل أكثر على أرض الواقع، فهي تدرك أن الأزمة الاقتصادية الأشدّ قادمة ولا مفرّ منها. ولذلك، تبدي رغبة جامحة، منذ بداية 2019، في إزاحة مشكلة البطالة عن كاهلها، عبر إخراج أكبر عدد من المصريين للعمل في الخارج، وهو ما يجعل السلطات تتبنّى استراتيجية مختلفة في سياستها الخارجية، أقلّ توتّراً وصدامية وأكثر تعاونية ومرونة، بدأت تتّضح معالمها في الجوار، وتحديداً ليبيا.

«تجييش» العاطلين و«تغريب» المواطنين

منذ أيام، أعلنت وزارة القوى العاملة المصرية، على لسان وزيرها محمد سعفان، أن شروط الدولة المصرية لتصدير العمالة إلى ليبيا صارت جاهزة، متحدثاً عن استراتيجية طموحة طويلة الأمد قابلة للتطبيق مع باقي الدول المستهدَفة بتصدير العمالة، بالاستفادة من الكتلة البشرية الضخمة التي تمتلكها مصر.

بُنيت الاستراتيجة الجديدة على أساس ربط ملايين المصريين الجاري تجهيزهم للتصدير إلى الخارج، بآليات الحُكم داخلياً، اقتصادياً وأمنياً، وضمان دخول الدولارات إلى مصر عبر أيدي الدولة حصراً. وكان تقرير صادر عن «البنك الدولي» عام 2006، أفاد بأن الحجم الحقيقي لتحويلات العاملين في الخارج، يتجاوز الأرقام الرسمية المعلَنة بأضعاف، إذا ما تمّ احتساب التحويلات عبر القنوات غير الرسمية. وقد فاجأ هذا التقرير الجميع؛ ففي ظلّ تراجع النموّ الاقتصادي العالمي بسبب تداعيات جائحة «كورونا»، سَجّلت تحويلات المصريين العاملين في الخارج رقماً تاريخياً خلال السنة المالية 2020/2021، ببلوغها نحو 31.4 مليار دولار، و27.8 مليار دولار في السنة المالية السابقة للوباء.

أدرك النظام حجم «الأخضر» الفالت من قبضته في الداخل والخارج. لذا، بدأ سريعاً ضخّ استثماره في العمالة، عبر إعادة الحياة إلى «صندوق تمويل التدريب والتأهيل» عام 2019، ليكون ذراع وزارة القوى العاملة، المتحكّمة في أعداد العمالة المُصدَّرة إلى الخارج. ومن ثمّ، حصل الصندوق المذكور على موافقة مجلس الوزراء للاشتراك في تأسيس شركة مساهمة مصرية باسم «سفر لإلحاق العمالة بالخارج»، في ما بدا إعلاناً رسمياً بأن النظام قرّر المنافسة على «كعكة» المغتربين. ووفقاً للمطالعة التي قدّمتها حول المشروع في آب الماضي، فقد برّرت وزارة القوى العاملة مزاحمتها القطاع الخاص برغبتها في تنويع أدوات الدولة في تشغيل الشباب، وعدم الاقتصار على الأدوات الحكومية النمطية، وتنمية مهارات العمالة المصرية المستهدَف إلحاقها للعمل في الخارج، لتكون «نموذجاً مشرّفاً للعمالة المصرية وجاذباً لإلحاق المزيد منها».

تعجّ أروقة العاصمة الليبية بمسؤولي شركات مصرية من القطاعات كافة

وعقب طلب مصري، وقّعت ليبيا مذكّرة تفاهم للربط الإلكتروني بين وزارتَي العمل في البلدين لتحديد الاحتياجات الليبية من التخصّصات المهنية المطلوبة، بما يتيح مرور ثلاثة ملايين مصري إلى ليبيا، العام الجاري، على ثلاث مراحل.

يتحدّث الوزير سعفان، بوضوح، عن هدف الدولة المتمثّل في «جمع قواعد بيانات كاملة للعمالة المصرية في الخارج في كلّ أنحاء العالم». لذا، ليس غريباً أن تربط الدولة شرط «تسجيل البيانات كاملة لدى وزارة القوى العاملة» بسماحها بترك العامل للغربة. أمّا بالنسبة إلى شركات القطاع الخاص، فهي ستعمل وتنمو «تحت إشراف ومظلّة وزارة القوى العاملة»، بالإضافة إلى الربط الإلكتروني بين الدولة والعامل والشركات، من جهة، وبين الدولة والدول المستوردة، من جهة أخرى، ليضمن بذلك النظام «احتضانه» لقطاع العمالة، شركات وعمّالاً. وقد توافقت التَغيّرات السياسية الخارجية لمصر، مع ظروف اقتصادية داخلية ضاغطة، مثل التباطؤ في وتيرة الاستثمار والإنتاج، بما لا يتوازى مع احتياجات المجتمع المتزايدة، ليخلق هذا الواقع رغبة جماعية في الخروج من مصر من أجل «استمرار الحياة»، على حدّ تعبيرٍ استخدمه ش. ب.، وهو شاب مصري مقبل على الثلاثين، في حديثه إلى «الأخبار». ولذا، يُبدي كثيرون استعدادهم «ولو بشروط قاسية» لمغادرة دائرة البطالة المستمرّة وشهور العمل المتقطّع، كما وصفها ي.م.، الأب لطفلين، والذي يبلغ 33 سنة.

ما لا يؤخذ بالقتال يؤخذ بالسياسة
اليوم، تعجّ أروقة العاصمة الليبية بمسؤولي شركات مصرية من القطاعات كافة، بعد سنوات من اكتظاظ سماء طرابلس بالطائرات المصرية المُغيّرة، استعداداً لتنفيذ عشرات العقود التي وقّعها رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية، عبد الحميد الدبيبة، مع نظيره المصري، مصطفى مدبولي، بشكل أوّلي في منتصف أيلول، وبلغت قيمتها أكثر من 33 مليار دولار. حقيقة الأمر، أن الصراع في ليبيا لم يتغيّر، بل سياسة القاهرة هي التي تغيّرت، وتحديداً إثر فشل اللواء المتقاعد خليفة حفتر في دخول العاصمة طرابلس، وارتداده إلى مركزه في الشرق إثر معركة دامية استمرّت أشهراً، أعقبتها خسارته قاعدته المهمّة في الغرب، لتنفضّ عنه القبائل الليبية المؤثّرة، ويُراجع داعموه الخارجيون، وفي مقدّمتهم مصر، حساباتهم. ومن هنا، أعادت القاهرة صياغة خطابها في شأن المسألة الليبية، وهو ما تجلّى في المؤتمر الذي جمع فيه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، شيوخ القبائل الليبية، في تموز 2020. آنذاك، غاب حفتر عن المشهد، وهُمِّش عقيلة صالح (رئيس البرلمان) جزئياً. وبالتزامن، دعمت مصر مشروع خارطة طريق سياسية تبنّتها بريطانيا، لمجلس رئاسي توافقي، أفضى إلى الهيكل الإداري الحالي.

وعلى قاعدة المَثل القائل: «مصائب قومٍ عند قوم فوائدُ»، وجد النظام المصري، في مصائب محيطه العربي، فوائده. ففي ظلّ رغبة ديموقراطيّي الولايات المتحدة في «التنمية التشابكية» و«الاستقرار» بين دول الشرق الأوسط، والتي عبّر عنها مستشار الأمن القومي الأميركي، جايك سوليفان، في صحيفة «فورين بوليسي»، خرجت سريعاً مشاريع إعادة الإعمار إلى العلن، كترجمة لتسويات سياسية تمّ التوافق عليها. وبدا ذلك واضحاً، مثلاً، في اتفاقية مصر والعراق والأردن الثلاثية، وما لحقها من اتفاقيات مع ليبيا والسودان، بل وامتدّ طموح مصر إلى تثبيت موطئ قدم في اليمن، عن طريق تقديم نفسها كطرف محايد يمكن الوثوق فيه، للبناء والإعمار. هكذا، يجني النظام المصري مكاسب دوره الجديد - القديم، كـ«أخٍ» كبير، اقتصادياً وأمنياً، أكثر ممّا جناه كطرف في نزاعات. مبدئياً، أعلنت ليبيا حاجتها إلى أكثر من مليون عامل مصري، للعمل على مشاريع «ليبيا الجديدة»، وهو الإسم الإعلامي لمشروعات إعادة الإعمار طويلة المدى وكثيفة التمويل، والمتنوّعة ما بين بنية تحتية وإنشاءات ضخمة ومحطّات كهرباء وغاز، الأمر الذي يفرض على القاهرة توفير أيدٍ عاملة قادرة على التنفيذ والتشغيل والصيانة. وبالتزامن مع بدء تنفيذ الشركات المصرية تلك المشاريع، أظهرت البيانات المصرية الرسمية الصادرة عن وزارة التجارة عام 2021، تصدُّر السوق الليبية قائمة المستوردين من مصر، وبالأخصّ لناحية المواد المرتبطة بمشروعات البناء والتشييد، وسط تفاؤل بتضاعف مستمرّ في الأرقام المذكورة بالتزامن مع «الزحف» العُمالي.

الأخبار