تونس.. انتخابات تشريعية في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية حادة

تونس.. انتخابات تشريعية في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية حادة
الأربعاء ١٤ ديسمبر ٢٠٢٢ - ٠٦:٤٧ بتوقيت غرينتش

تأتي الانتخابات التشريعية المنتظرة في تونس يوم 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية حادة، تركن إليها المعارضة في وصم مسار الرئيس قيس سعيّد بالفشل وتثبيت حكم فردي مطلق. في حين يعزوها الرئيس ومساندوه إلى تركة ثقيلة من السنوات السابقة وأحزابها الحاكمة وقوانين تخدم أحزابا بعينها، وتأثيرات أزمات اقتصادية وسياسية وصحية عالمية طارئة، لم تسلم من تبعاتها معظم دول العالم.

العالم - تونس

ورغم كثرة الشوائب والتحديات التي تعتري المسار السياسي والانتخابي الراهن الذي أطلقه الرئيس سعيّد، ومقاطعة الشق الأوسع من المعارضة؛ يمضي هذا المسار نحو محطّته التشريعية المرتقبة. وعلى عكس الاستحقاقات الانتخابية السابقة، يغيب الحماس والنقاش العام والحملات الساخنة، ويحضر الفتور والعزوف عن الترشح في معظم الدوائر الانتخابية، كما تفيد الأرقام التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

ويفسر مراقبون ذلك بغياب التنافس الجدي، في ظل مقاطعة قوى معارضة كان انخراطها سيضيف زخما قويا لهذا الاستحقاق، وكذلك المشاكل الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها المواطن، فضلا عن فقدان شريحة واسعة من الناخبين ثقتها في صناديق الاقتراع، وفي إمكانية تحسن أوضاع البلاد، سواء وفق منظومة وخيارات 25 يوليو/تموز التي أرساها الرئيس قيس سعيّد، أو تجربة المنظومة السابقة.

رغم انحياز الرئيس سعيّد في خطابه المعلن إلى الطبقات الشعبية وترويجه لنصرة "الهامش المغبون" اقتصاديا واجتماعيا، فإن الفترة التي افتتحها بالقوانين والمراسيم الاستثنائية شهدت ترديا واضحا للوضعين الاجتماعي والاقتصادي.

وتشهد تونس زيادة في الضغوط الاقتصادية وتفاقم الأعباء الاجتماعية، وارتفاعا مشطا في الأسعار، وتزايد معدلات البطالة والفقر وتدهورا في سعر صرف الدينار؛ وأدى ذلك إلى تحركات احتجاجية عدة (في مدينة صفاقس بفعل أزمة النفايات، ومدينة جرجيس بفعل أزمة غرقى الهجرة غير النظامية، وأحياء بالعاصمة كالتضامن والتحرير والزهور والانطلاقة).

وتشير أرقام المعهد الوطني للإحصاء الصادرة بتاريخ الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إلى ارتفاع معدل التضخم من 8.6% في أغسطس/آب إلى 9.2% في أكتوبر/تشرين الأول الماضيين، وزيادة أسعار المواد الأساسية بنسبة تتراوح بين 15 و33%، كما رفعت الحكومة أسعار المحروقات 5 مرات منذ بداية العام، في حين تشهد البلاد شحّا متكررا في بعض المواد الأساسية أو غيابها من الأسواق.

وتبعا لذلك، حذر الاتحاد العام التونسي للشغل (النقابة الأكبر في البلاد) والأحزاب المعارضة من انفجار اجتماعي مع تواصل أزمة الأسعار وانهيار القدرة الشرائية للمواطنين.

ويبلغ الأجر الأدنى المضمون في تونس نحو 450 دينارا (نحو 160 دولارا)، في حين تقدر كلفة المعيشة شهريا لعائلة من شخصين بنحو 2200 دينار (نحو 600 دولار)، وفق دراسة نشرها مكتب منظمة "فريدريش أيبيرت" الألمانية في تونس.

وتؤكد الأرقام أن الديون العمومية التونسية بلغت 107 مليارات دينار (نحو 33 مليار دولار)، منها 66 مليار دينار (نحو 20 مليار دولار) هي ديون عمومية خارجية، أي ما يعادل 46% من الناتج الداخلي الخام التونسي.

وبلغ عجز الميزان التجاري المسجل لتونس نسبا غير مسبوقة، وصلت إلى نحو17 مليار دينار (5.6 مليارات دولار)، وذلك بسبب ارتفاع الواردات بنسبة 34%.

من جهته، أشار تقرير أصدره البنك الدولي في أغسطس/آب 2022 تحت عنوان "إدارة الأزمة في وضع اقتصادي مضطرب" إلى تفاقم الوضع الهش للاقتصاد التونسي، إذ اتسع العجز التجاري بنسبة 56% خلال السداسي الأول لعام 2022، ليبلغ 8.1% من إجمالي الناتج المحلي.

وتوقع التقرير أن يصل عجز الموازنة إلى 9.1% خلال عام 2022، مقارنة بنسبة 7.4% عام 2021، لكن التقرير أرجع جزءا من هذا التدهور إلى تأثير الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار السلع في الأسواق العالمية، بالإضافة إلى تعثر الحكومات السابقة في نسج منوال تنموي متوازن، والاعتماد على المديونية ورفع الأسعار.

ويضغط هذا الواقع الاقتصادي بشدة على المستوى المعيشي للمواطنين. وراهنت المعارضة على انفجار الوضع الاجتماعي بما يربك أو يطيح بمشروع الرئيس قيس سعيد، لكن التحركات المطلبية لم ترق إلى احتجاجات واسعة تقوّض هذا المشروع، كما أن الضغوط الدولية التي راهن عليها معارضو الرئيس سعيّد أيضا لم تأت أكلها.

ومنذ 25 يوليو/تموز 2021، لم تستطع المعارضة (أحزاب السلطة سابقا) تشكيل ضغط كاف على الرئيس سعيّد داخليا أو خارجيا لإثنائه عن مساره لأسباب يعزوها محللون إلى ضعف المعارضة وتشتتها وفشلها أيضا في إدارة المرحلة السابقة.

وعلى عكس ما كانت تأمله المعارضة، وجد سعيّد نوعا من الغطاء الدولي والأوروبي للمضي في مشروعه، بما في ذلك الانتخابات التشريعية. وخلال القمة الفرنكوفونية الأخيرة التي عقدت بجزيرة جربة (19 و20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022)، جاءت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤيدة لمسار الرئيس سعيّد، وهو ما أغضب المعارضة التونسية. كما أتت موافقة صندوق النقد الدولي على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار وإشادته بحكومة نجلاء بودن كنوع من التأييد لمنظومة الحكم الجديدة وخياراتها، وهو ما عُدّ دعما أميركيا غير مباشر.

أسس الدستور الجديد لنظام حكم رئاسي تتركز معظم الصلاحيات فيه بيد رئيس الجمهورية، خلافا للنظام البرلماني (المعدل) الذي أرساه دستور سنة 2014، الذي تتمحور فيه السلطة لدى البرلمان والحكومة. وعمليا يجرّد الدستور الجديد مجلس نواب الشعب من معظم الصلاحيات، خاصة الرقابية.

وتنتقد المعارضة بشدة هذا الدستور الذي أسند للرئيس ما تسميه "صلاحيات فرعونية لم ترد في أي دستور"، إذ يحتكر -وفق تقديرهم- الرئيس جميع مفاتيح السلطة وصلاحياتها، وترى ذلك خطوة أخرى في مسار "الانقلاب على الثورة والديمقراطية".

وقبيل الانتخابات البرلمانية بأيام، انضم الاتحاد العام التونسي للشغل رسميا -بعد طول تحفظ- إلى معسكر الرافضين لمسار الرئيس قيس سعيّد، بما في ذلك الاستحقاق التشريعي، وقال أمينه العام نور الدين الطبوبي في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي "لم نعد نقبل المسار الحالي بسبب التفرد والغموض والمفاجآت غير السارة التي يخفيها لمصير البلاد والديمقراطية".

في حين يرى سعيّد ومناصروه أن الدستور الجديد "ينقذ البلاد من نظام برلماني هجين"، ومن سلطات كانت مقسمة ومشتتّة؛ أدت إلى صراعات مستحكمة على الحكم بين الرئيس والبرلمان والحكومة طوال عشرية كاملة، وعطلت الحياة السياسية والتنمية الاقتصادية، وفق تقديرهم.

يستند الاستحقاق الانتخابي التشريعي -الذي يفترض أن يجري في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022- إلى الدستور الجديد الصادر بمقتضى الأمر عدد 578 لسنة 2022 المؤرخ في 30 يونيو/حزيران 2022، والذي تمت الموافقة عليه بعد استفتاء 25 يوليو/تموز 2022، وعوّض بذلك الدستور الصادر في 27 يناير/كانون الثاني 2014.

كما يستند إلى المرسوم عدد 55 لسنة 2022 المؤرخ في 15 سبتمبر/أيلول 2022، ويتعلّق بتنقيح القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المؤرخ في 26 مايو/أيار 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء وإتمامه.

وأثار هذا المرسوم جدلا كبيرا في تونس، مثل بقية الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد منذ 25 يوليو/تموز 2021، والتي تراها القوى السياسية المعارضة في تونس توجها ممنهجا لإقصاء الأحزاب السياسية وتهميشها، وضربا لدور البرلمان التشريعي والرقابي، وتكريسا لنظام رئاسي فردي؛ وهو ما دعا كثير لرفض هذا الاستحقاق والدعوة لمقاطعته.

وفي المقابل، ترى أطراف سياسية أخرى أن المرسوم والتنقيحات التي وردت فيه والفصول الجديدة، تفسح المجال لمشاركة شعبية أوسع وأكثر تمثيلية، وتوقف ممارسات "أفسدت دور البرلمان وحولته إلى حلبة صراع، وتجاذبات" عطلت الحياة السياسية طوال السنوات السابقة، وفق تقديرهم.

لم يضف للتونسيين شيئا سوى الإحساس بالانسداد واليأس، كما تحول إلى ساحة للعنف المادي والنفسي، وهو ما دفع الرئيس سعيد إلى اللجوء للدستور وتفعيل الفصل 80 منه.

وبشكل عام، ومن خلال قراءة محتوى المرسوم الانتخابي الجديد، لا يمكن فصله عن مضمون خطاب الرئيس قيس سعيد، حتى قبل توليه الرئاسة، والذي دعا فيه إلى نظام حكم قاعدي يحتكم أساسا إلى الجهات والمناطق والأقاليم، ولا يعترف -بشكل ما- بالأحزاب السياسية ودورها، وينظر إليها بوصفها "مراكز قوى ودوائر نفوذ ومصالح".

ووفقا للبيانات التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فقد ترشح للانتخابات البرلمانية المبكرة 1058 شخصا يتنافسون على 161 مقعدا، بينهم 122 امرأة (من بين 1427 مطلب ترشح تم تقديمه)، ولم يسجل أي ترشح في 7 دوائر انتخابية، فضلا عن وجود 10 دوائر فيها مرشح واحد فقط، أي أن صعوده سيكون آليا.

وأثارت هذه الأرقام -بما تضمنته من مؤشرات واضحة على حالة العزوف- انتقادات وسخرية من المعارضة، وشكوكا في صدقية الانتخابات نفسها، ورأت فيها دليلا على فشل الاستحقاق الانتخابي حتى قبل تنظيمه.

لعل أبرز تغيير في هيكلة السلطة التشريعية في تونس -وفقا للفصل 56 من دستور 2022- أنها أصبحت تتكون من غرفتين: مجلس النواب والمجلس الوطني للجهات والأقاليم الذي يتكون -حسب الفصل 81- من نواب منتخبين عن الجهات والأقاليم.

وطال التغيير في القانون الانتخابي أيضا عدد الدوائر الانتخابية وعدد المقاعد في المجلس النيابي، إذ كان عدد الدوائر في السابق 33 دائرة -منها 6 بالخارج- تفرز انتخاب 217 عضوا للمجلس؛ ليصبح عدد مقاعد مجلس نواب الشعب بعد التعديل 161 مقعدا، بمعدل مقعد واحد عن كل دائرة، منها 151 داخل التراب التونسي و10 دوائر بالخارج.

جاء أبرز تنقيح طال النظام الانتخابي أيضا في نظام الاقتراع نفسه، الذي تغير من تصويت على القوائم الحزبية أو المستقلة في دورة واحدة، مع توزيع المقاعد على أساس التمثيل النسبي وأكبر البقايا، إلى تصويت على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين عند الاقتضاء، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد، إذا لم يحصل أي مترشح على الأغلبية المطلقة، أي 50% زائد واحد.

من أهم التعديلات التي مسّت القانون الانتخابي أيضا مبدأ سحب الوكالة؛ إذ يتيح الفصل 39 (جديد) إمكانية سحب الوكالة من النائب في دائرته الانتخابية عند إخلاله بواجب النزاهة أو تقصيره الواضح في القيام بواجباته النيابية أو عدم قيامه بالدور المطلوب لتحقيق البرنامج الذي تقدم به. ويتم ذلك عبر تقديم عريضة معلّلة وموقعة من قبل عُشر الناخبين المسجلين بالدائرة الانتخابية التي ترشح بها النائب.

طبقا للمرسوم الانتخابي، فإنه بعد تنقيح الفصل 19، مُنع حاملو الجنسية الأجنبية من الترشح في دائرة انتخابية داخل التراب التونسي، كما يجب أن يكون المترشح مقيما وجوبا في الدائرة الانتخابية المترَشح عنها، وأضيف شرط النقاء من السوابق العدلية، أي عبر تقديم "البطاقة عدد 3" (سجل السوابق العدلية).

شملت التنقيحات في شروط الترشح أيضا الفصل 20 الذي يحدّد الناخبين الذين لا يمكنهم الترشح لعضوية البرلمان، وهم أعضاء الحكومة ورؤساء الدواوين والأئمة ورؤساء الهياكل والجمعيات الرياضية، إلا بعد مرور سنة من انتهاء وظائفهم. وكان هذا الاستثناء يشمل سابقا فقط القضاة ورؤساء البعثات والمراكز الدبلوماسية والقنصلية، وكذلك الولاة (المحافظون) ومنصب المعتمد الأول والكتّاب العامّون للولايات (المحافظات) والمعتمدون (حكام النواحي) والعمد.

كما تم التنصيص في هذا المرسوم على منع الترشح في الوقت نفسه للانتخابات التشريعية والرئاسية والجهوية والبلدية في صورة تزامنها.

أضاف المرسوم 55 لسنة 2022، في الفصل 21 الجديد، مجموعة وثائق على القائمة الموجودة أصلا والمطلوبة لتقديم الترشحات؛ أهمها إبراء الذمة من الأداءات (الضرائب) البلدية للتثبت من قيام المترشح بتسديد كل أداءاته البلدية، وشهادة إقامة للتثبت من الترشح في مكان الإقامة. وكذلك بطاقة عدد 3 (سجل السوابق العدلية) للتثبّت من خلو المترشح من السوابق العدلية في الجرائم القصدية.

فرض المرسوم الجديد تقديم موجز البرنامج الانتخابي للمترشح، مع قائمة إسمية تضم 400 تزكية من الناخبين المسجلين في الدائرة الانتخابية معرف عليها بإمضاء المزكين والمزكيات لدى ضابط الحالة المدنية أو لدى الهيئة الفرعية للانتخابات المختصة ترابيّا. وتكون نصفها وجوبا من الإناث والنصف الثاني من الذكور، على ألا تقل نسبة الشباب (أقل من 35 سنة) عن 25% من العدد الإجمالي للتزكيات، ولا يجوز للناخب أن يزكي أكثر من مترشح واحد.

يعدّ إلغاء التمويل العمومي للحملات من أبرز التغييرات التي شملت القانون الانتخابي، إذ سيقتصر تمويل الحملات في المحطات الانتخابية القادمة على إمكانية التمويل الذاتي والخاص فقط.

شدد الفصل 163 (جديد) العقوبات المتعلقة بحصول مترشح على تمويل أجنبي أو مجهول المصدر لحملته الانتخابية؛ لتحافظ هذه العقوبة على مبدأ فقدان المترشح عضويته بالمجلس المنتخب، ومعاقبته بالسجن 5 سنوات، وإلزامه بدفع غرامة مالية تتراوح بين 10 أضعاف و50 ضعفا لمقدار قيمة التمويل الأجنبي أو مجهول المصدر، مع الحرمان من الترشح لأي انتخابات قادمة من تاريخ صدور الحكم بالإدانة عوض ما كان عليه الأمر قبل التعديل، حيث كان المنع من الترشح فقط لمدة 5 سنوات.

عمليا، أخرج القانون الانتخابي الجديد الأحزاب السياسية من المشهد السياسي رغم أنه لم يمنعها من الترشح؛ فنظام الانتخاب الفردي لا يسمح لها بتشكيل قوائم على أساس حزبي، وبالتالي تكوين كتل برلمانية، كما أن طبيعة النظام الرئاسي (عكس البرلماني المعدل سابقا) لا تمكّن الأحزاب من الحكم وتشكيل الحكومات وغيرها من الصلاحيات الواسعة.

وإضافة إلى الأحزاب والتيارات التي رفضت منذ 25 يوليو/تموز الماضي مسار قيس سعيّد، بما في ذلك الانتخابات التشريعية، وعدّته "انقلابا على الشرعية الدستورية والثورة والديمقراطية"؛ أعلنت أحزب أخرى ومنظمات مجتمع مدني وشخصيات سياسية مقاطعة هذه الانتخابات، بوصفها "تزويرا لإرادة الشعب وتأسيسا لبرلمان صوري منزوع الصلاحيات".

إن مقاطعة الانتخابات من أغلب الطيف السياسي تعد بحد ذاتها فشلا ذريعا لمشروع الرئيس سعيّد لأنه لا معنى للانتخابات في غياب أي تنافس بين الأحزاب.

وفي المقابل، حافظت بعض التيارات والأحزاب على دعمها إجراءات قيس سعيد الاستثنائية على أساس أنها "أخرجت البلاد من عنق الزجاجة، وقطعت مع عشرية من التنازع على السلطة وتعطيل الحياة السياسية والتنمية الاقتصادية"، مع تحفظات من بعضها حول إجراءات بعينها.

إن هذا المسار الذي يتجه فيه الرئيس سعيّد يقطع مع منظومة سياسية عفّنت الأوضاع ودمرت البلاد.

أعلنت الأحزاب والتيارات السياسية التي كانت تشكل العمود الفقري للسلطة السياسية قبل 25 يوليو/تموز 2022، وشكلت الحكومات المتعاقبة؛ مقاطعتها الانتخابات التشريعية من منطلق رفضها المطلق لما تسميه "الانقلاب على الشرعية"، ومن أهم هذه الأحزاب والكيانات:

جبهة الخلاص الوطني: تتكون من عدة أحزاب وتيارات سياسية، أهمها حزب حركة النهضة، وحركة أمل، وحراك تونس الإرادة، وقلب تونس، وائتلاف الكرامة.

تنسيقية الأحزاب الاجتماعية والديمقراطية: وتتكون من التيار الديمقراطي، وحزب العمال، والحزب الجمهوري، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب القطب الديمقراطي.

أحزاب أخرى: الحزب الدستوري الحر، وآفاق تونس، وحركة مشروع تونس، والحزب الاشتراكي، والمسار الديمقراطي الاجتماعي.

أما الأحزاب التي أعلنت مشاركتها في الانتخابات، والتي تصنف في معظمها من "الحزام السياسي" للرئيس قيس سعيّد، أو "أحزاب المولاة"، فأهمها: حركة الشعب، والتيار الشعبي، وحركة تونس إلى الأمام، وحزب التحالف من أجل تونس. بالإضافة إلى أحزاب أخرى وتيارات سياسية أقل وزنا.

وتستند هذه الأحزاب في تأييدها إجراءات قيس سعيّد الاستثنائية ومشاركتها في الانتخابات إلى ما تسميه "فساد وفشل منظومة الحكم السابقة".

تتميز انتخابات 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري بمشاركة واسعة للمستقلين؛ بحكم طبيعة نظام الانتخاب على الأفراد، لكن بعض الأحزاب والتيارات والشخصيات أعلنت مشاركتها وانضمامها إلى تحالفات وكيانات، ومن أهمها:

ائتلاف "لينتصر الشعب": يتكون من بعض الأحزاب مثل "التيار الشعبي" و"تيار الوطد" (جناح المنجي الرحوي)، وتيار "قوى تونس الحرة"، و"حركة البعث"، وشخصيات مستقلة ونقابية. وأعلن ترشحه في كل الدوائر.

حركة الشعب: أعلنت قبول هيئة الانتخابات 85 مرشحا من مجموع 120 تم تقديمهم، بينهم أعضاء في البرلمان السابق، والمشاركة في 60% من الدوائر الانتخابية.

حراك 25 يوليو/تموز: انتظم حزبيا تحت اسم "حركة شباب تونس الوطني"، وقدم ترشحه في 151 دائرة، أي كل الدوائر الانتخابية بالداخل، ويعلن الحزب تبنيه وتأييده كل الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيّد.

حركة "تونس إلى الأمام": أعلنت تأييدها مسار الرئيس قيس سعيّد، وقدمت ترشحها في عدد من الدوائر الانتخابية، كما أعلن أمينها العام عبيد البريكي.

أي برلمان سيتشكل؟

وفقا لترتيبات النظام الانتخابي الجديد، سيشهد البرلمان المقبل غيابا كليا للأحزاب التي كانت ممثلة في البرلمان السابق (ربما باستثناء حركة الشعب)؛ وبالتالي سيتم إفراغ الساحة السياسية من الأحزاب التي شكلت المشهد في مرحلة ما بعد 2011، واحتكرت الحكم في مرحلة ما بعد الثورة، أو تلك التي كانت في صف المعارضة.

وأثارت تركيبة البرلمان السابق والصراعات والمناوشات المستمرة التي شهدتها جلساته كثيرا من الانتقادات في صفوف التونسيين، ورأى معارضون أنها "شوهت الحياة البرلمانية"، لكن رافضي مسار سعيّد -وكذلك بعض الأطراف المؤيدة له- يرون أن القانون الجديد لن يخلص العمل البرلماني من الشوائب التي علقت به خلال المرحلة السابقة، على اعتبار الثغرات الكثيرة التي تضمنها، ومن أهمها:

الترشيحات للبرلمان الجديد شهدت بدورها حضورا كبيرا "للمال الفاسد"، واعتمدت على الاعتبارات القبلية (العشائرية)، وأشار الرئيس نفسه إلى ذلك.

غياب التمويل العمومي فتح المجال لبعض "اللوبيات" (القوى) وأصحاب المصالح باختراق منظومة الترشحيات، وشراء التزكيات بالمال؛ فالتمويل العمومي يحد من "المال الفاسد"، كما ترى حتى معظم الأحزاب الموالية.

الترشحات الفردية -رغم بعض إيجابياتها- فسحت المجال للباحثين عن الفرص ومحدودي الخبرة السياسية وأصحاب المصالح الخاصة للترشح طمعا في توفير غطاء عبر الحصانة البرلمانية.

شرط التزكية (400 ناخب) الذي تم إقراره ليس واقعيا لصعوبة تطبيقه، واستحالة التثبت من تكرار تزكية الناخب نفسه لمترشحين مختلفين.

نظام سحب الوكالة -رغم أهميته كشكل من الرقابة والمحاسبة- سيكون سيفا مسلطا على رقاب النواب وأداة لابتزازهم، وقد يصبح وسيلة لتصفية الحسابات.

نظام الاقتراع في الدوائر الصغيرة سيسهم في إنتاج وتعزيز النعرات الجهوية (المناطقية) والمحلية والقبلية.

وفقا للقانون الجديد، لم يعد النائب ممثلا للشعب بأسره ونائبا له، بل أصبح نائبا ممثلا لمن انتخبه في الدائرة، وتحت سطوته، وفق نظام سحب الوكالة.

غموض دور المجلس الوطني للجهات والإقاليم وإمكانية تنازعه في بعض الصلاحيات مع مجلس النواب (إقرار ميزانية الدولة ومخططات التنمية)، فضلا عن عدم وضوح تركيبته في ظل عدم تحديد عدد الأقاليم بعد.

بناء على هذا القانون، كل نائب سيكون له مشروع محلي، ولا وجود للمشاريع الوطنية الكبرى الجامعة.

هناك غياب للتوازن بين الدوائر الانتخابية؛ فبعض هذه الدوائر تشمل 100 ألف ساكن، وأخرى لا تضم إلا 20 أو 30 ألف ناخب.

حضور المرأة في البرلمان المقبل سيكون ضعيفا؛ إذ لا تتعدى نسبة مشاركة النساء في الاستحقاق الانتخابي 11%.

وتبعا لذلك، تؤكد المعارضة أن البرلمان الجديد لن يتضمن كتلا وازنة، أو معارضة حقيقية، وسيكون "برلمان مزايدات في التقرب من السلطة"، ومحطة جديدة لمحاولة إضفاء الشرعية على منظومة الرئيس قيس سعيّد، وفق تقديرهم.

بدورها، تشكك أطراف سياسية داعمة لمسار الرئيس قيس سعيّد في تركيبة البرلمان المقبل؛ وبالتالي دوره المستقبلي وصلاحياته، بناء على حيثيات القانوني الانتخابي وشروطه.

البرلمان القادم لن يكون أسوأ من البرلمانات السابقة التي صعدت لها شخصيات تعلقت بها جرائم، وكان البعض يترشح للبرلمان من أجل كسب الحصانة، ومن بينهم مهرّبون أو أشخاص لا كفاءة لهم.

بناء على مضمون القانون الانتخابي والمشهد السياسي القائم وعدد الترشحات للمجلس النيابي وحالة المقاطعة والعزوف؛ ينتظر أن تفرز الانتخابات التشريعية خريطة سياسية جديدة في تونس بوجوه جديدة وآليات عمل مختلفة.

ويرجح مراقبون ومحللون أن يتشكل البرلمان المقبل من عدد كبير من المستقلين، إضافة إلى ممثلي ائتلاف "لينتصر الشعب"، و"حركة شباب تونس الوطني" (حراك 25 يوليو/تموز سابقا) ونواب من حركة الشعب وبعض التيارات الأخرى.

تؤكد المعارضة أن هذا البرلمان بتركيبته (المنتظرة) الخالية من النخب السياسية المعروفة والكفاءات الحزبية والمشاريع الوطنية الجامعة، سيكون منبرا للرئيس قيس سعيّد ومجرد رجع صدى لتوجهاته. وفي المقابل، ترى أطراف أخرى أنه يمثل مسارا جديدا "تحرر فيه العمل السياسي من النمطية الحزبية الكلاسيكية وسيطرة العائلات السياسية المتنفذة"، وسيكون قادرا حسب قولهم- على تقديم الإضافة في مشهد سياسي جديد بدأ يتشكل في تونس.

ووفقا للدستور الجديد فقد تقلص دور البرلمان بشكل كبير، فلم تعد من مهامه مراقبة عمل الحكومة أو الرئيس الذي مُنح سلطات واسعة، فهو يأتي على رأس السلطة التنفيذية ويتولى تعيين رئيس الحكومة وأعضائها باقتراح من رئيس الحكومة وله سلطة عزلها تلقائيا، وهو من يحدد السياسات العامة للدولة والاختيارات، ويقترح مشاريع القوانين.

ويمتلك الرئيس أيضا صلاحية حل البرلمان، ومجلس الجهات والأقاليم، ويعين كبار المسؤولين في الدولة باقتراح من رئيس الحكومة وتسمية القضاة. وعمليا حوّل الدستور السلطتين القضائية والتشريعية إلى وظيفتين.

ويمنح الدستور الرئيس حصانة كاملة؛ إذ لا يشير إلى أي سلطة رقابية على أداء الرئيس من قبل باقي المؤسسات الدستورية، ولا إلى شروط سحب الثقة منه أو عزله.

وفي خضم الجدل والتصعيد السياسي بين سعيّد والمعارضة، التي توعدت بتحركات احتجاجية واسعة، وموقف تصعيدي من الاتحاد العام التونسي للشغل؛ يمضي الاستحقاق التشريعي إلى موعده، الذي يعد تقليديا في ذروة فترة الاحتجاجات المطلبية في تونس (ديسمبر/كانون الأول، ويناير/كانون الثاني).

وبغض النظر عن مدى قدرة المعارضة على الحشد وإرباك الموعد الانتخابي، والثغرات القانونية والتنظيمية التي تعتريه؛ فإن الأزمة الاقتصادية والمعيشية الحادة تعد عاملا ضاغطا ومؤثرا في هذا الاستحقاق.

وستكون حالة العزوف ونسبة الإقبال على الاقتراع خطوة جديدة "واثقة أو مرتبكة" بالنسبة للرئيس سعيّد للمضي في مساره، أو "عنوانا" جديدا للمعارضة لتأكيد فشل هذا المسار، وبالتالي استمرار التجاذب السياسي.

(الجزيرة)

تصنيف :