العالم- فلسطين
كما برزت قضايا إنسانية مهمة، مثل النزوح السكاني الواسع وتأثيرات الحصار الاقتصادي على حياة السكان، وشهدت الحرب مستويات عالية من التعقيد الدبلوماسي، حيث لجأت الأطراف المعنية إلى الساحة الدولية لتحقيق أهدافها والدفاع عن سياستها.
حرب مختلفة
شكلت الحرب على قطاع غزة فصلاً استثنائياً في سلسلة النزاعات بالمنطقة، حيث امتزجت التحديات العسكرية بأبعاد إنسانية مأساوية، كما تميزت هذه الحرب بالتطورات التكنولوجية واستخدام أساليب حديثة في القتال، مما أثر على نمط المواجهة بشكل كبير.
وأصبحت الحرب على القطاع بوضوح، أحد أشد النزاعات العسكرية تأثيراً وتدميراً في القرن الـ21، وفقاً لتحليلات نُشرت في عدة وسائل إعلام غربية.
وأظهر تحليل نشرته شبكة "سي بي سي" الكندية في ديسمبر الماضي، أن القصف الإسرائيلي على قطاع غزة يعتبر الأكثر تدميراً خلال هذا القرن، وذلك وفقاً للبيانات والصور الفضائية الحديثة التي قدمتها التكنولوجيا المتقدمة للأقمار الاصطناعية.
وذكر التحليل أن القطاع شهد دماراً هائلاً في البنية التحتية والمرافق الحيوية، مما أسفر عن تأثيرات بيئية وإنسانية كبيرة، حيث تضررت المنازل المدنية والمساجد والكنائس، وكانت الحرب تحمل عبئاً إنسانياً كبيراً، حيث أدت عمليات القصف إلى دمار هائل وفقدان حياة عشرات الآلاف، معظمهم من المدنيين؛ مما أسفر عن تشريد آلاف الأسر وتدهور الوضع الإنساني بشكل خطير.
ويبين المحلل الاستخباراتي الدفاعي والمحقق الأممي السابق في جرائم الحرب، مارك غارلاسكو، في 26 ديسمبر الماضي، أن حجم القصف الإسرائيلي الذي شهده القطاع، لم يشهده العالم في صراع مسلح منذ حرب فيتنام، التي انتهت عام 1975، أي منذ 48 عاماً.
وأظهرت دراسة للخبراء في رسم خرائط الأضرار خلال الحروب، أعدها كل من كوري شير، من مركز الدراسات العليا في جامعة مدينة نيويورك، وجامون فان دن هوك من جامعة ولاية أوريغون، أن مستويات الدمار التي لحقت بقطاع غزة تعد الأكثر تدميراً خلال هذا القرن.
وتمثل الدراسة تقدماً في تقنيات تحليل الأضرار الناجمة عن النزاعات، حيث توضح الخرائط الضرر الهائل الذي طال البنية التحتية والمناطق الحضرية في القطاع، وتسلط الضوء على حجم الخسائر الإنسانية والبيئية التي لحقت بالسكان والمجتمع في تلك المنطقة.
وقال هوك: "إن شدة القصف في غزة أمر لم نرَه من قبل، فالسرعة التي حدث بها الضرر هائلة للغاية"، مضيفاً أن "كل الصراعات الأخرى التي درسناها، مثل تلك الخاصة بأوكرانيا استمرت لسنوات، أما في غزة فقد وقع ضرر لا مثيل له فيما يزيد قليلاً على شهرين".
من جهته، قال شير: إن "تحليلنا هذا مبنيٌ على ما يقرب من عقدين من الأبحاث التي ركزت بشكل أساس على رسم خرائط آثار الكوارث والحروب والصراعات"، وأن "حجم ووتيرة الأضرار في غزة لا يمكن مقارنتها إلا بالمدن الأكثر تضرراً في حرب أوكرانيا".
حرب وحشية
المحلل العسكري والاستراتيجي عبد الجبار العبو، يرى أن حرب غزة حرب تقليدية وحرب عصابات وقتال في المدن، حيث إن دخول جيش من الدبابات والمدرعات والطائرات إلى مناطق مبنية عبارة عن أزقة وشوارع ضيقة، وسط وجود أنفاق المقاومة، جعل الجيش المدجج بالأسلحة الحديثة عاجزاً عن القتال بكل كفاءاته.
ويبين في حديثه لـ"الخليج أونلاين" أن هذا الوضع يعطي ميزة للمقاتل المدافع بأن يتخندق داخل البنايات أو داخل الأقبية أو داخل الأنفاق، وعند مرور الدبابات في المناطق الضيقة يخرجون لها من الجوانب، فتكون هناك عملية استهداف، وهذا يجعل هذه الأسلحة الحديثة لجيش الاحتلال تفقد خاصيتها التكتيكية والتعبوية.
وأكدت الدكتورة رنا الحجة، مديرة إدارة البرامج في المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، خلال مؤتمر صحفي في 22 نوفمبر الماضي، أن الحرب الحالية بقطاع غزة تشكل حدثاً فريداً في التاريخ الحديث، حيث لم يشهد العالم منذ أواخر الحرب العالمية الثانية أو أي حرب أخرى، تحدياً إنسانياً بهذا الحجم منذ تأسيسها قبل أكثر من 75 عاماً.
وأوضحت أن هذه الحرب تتميز بشدة التصعيد ووحشية الأحداث، وهي حدث غير مسبوق في تاريخ المنظمة، مما يفرض تحديات هائلة على الجهود الإنسانية والصحية لتلبية احتياجات السكان المتضررين.
وقالت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل في بيان لها صدر في 15 نوفمبر الماضي، إن الحرب في غزة أودت بحياة عديد من الأشخاص في وقت قياسي وبمستوى من الوحشية لم نشهده منذ عقود.
ووفقاً لدراسة أجرتها منظمة إنقاذ الطفولة، غير الحكومية، والصادرة في نوفمبر الماضي، يعيش نحو 468 مليون طفل في مناطق النزاع المسلح حول العالم، وهو ما يمثل نحو 20% من إجمالي عدد الأطفال في العالم، البالغ عددهم 2.4 مليار طفل.
وتظهر هذه الأرقام الهائلة والمأساوية الأثر الكبير الذي تخلفه النزاعات المسلحة على الأطفال، حيث يتعرضون لعديد من المخاطر والتحديات التي تؤثر بشكل كبير على حياتهم ومستقبلهم.
وأما عن الصحفيين، فقد قالت لجنة حماية الصحفيين، في 14 يناير الحالي، إن "82 صحفياً على الأقل قتلوا في غزة و"إسرائيل" ولبنان منذ 7 أكتوبر الماضي، عندما بدأ الصراع الأخير بين" إسرائيل "وحركة حماس"، في حين تقول إحصاءات فلسطينية إن العدد تجاوز 120 صحفياً.
طبيعة القتال
وحول طبيعة القتال في حرب غزة واختلافها عن الحروب الأخرى، يعتقد عبد الجبار العبو أنَ تفوق المقاومة الفلسطينية له أسباب عدة، أبرزها دافع القضية العادلة والإيمان العقائدي الذي يتأتى من إيمانهم بأن من يُقتل منهم شهيد وهو يدافع عن أرضه.
ويردف في حديثه : "الطبيعة الثانية للقتال -وهي الأهم في هذه الحرب التي يخوضها المقاومون الفلسطينيون- هي القتال بمجاميع صغيرة، أي إن المقاتلين الفلسطينيين لا يقاتلون بمجاميع كبيرة ضد جيش نظامي".
ويلفت الخبير العسكري إلى أن الجيش الإسرائيلي "بدأ يشعر بأنه لا يوجد تكافؤ ما بينه وبين المقاومة؛ لأن المقاتل الفلسطيني الواحد في طبيعة الحروب المبنية يحتاج إلى 10 آخرين يقابلونه".
ويشير العبو إلى أن طبيعة الحرب الجارية تُفقد الأسلحة الحديثة دورها، ما يجعلها حرباً تقليدية، "وخير مثال على ذلك، القتال الذي يشهده شمال غزة، حيث جعل القوات الصهيونية بعد أكثر من 100 يوم، تفكر في الانسحاب، بسبب الخسائر الكبيرة التي تلقتها في هذه المنطقة".
بين الدمار والتعاطف
وشهد القطاع الصحي -فضلاً عن القطاعات الأخرى- في غزة انهياراً كبيراً، ما أثر بشكل كبير على قدرة السكان على الوصول إلى الخدمات الطبية الأساسية.
ونجم عن هذا الانهيار الضرورة المُلحة للتفاعل الدولي والجهود المشتركة لإعادة بناء البنية التحتية وتقديم المساعدات الإنسانية للمتضررين.
وشكلت الحرب في غزة عاملاً مهماً في المشهد الإقليمي، وقد ألقت بظلالها على الأمان والاستقرار في المنطقة، ما يبرز أهمية وضع استراتيجيات دولية للتعامل مع التحديات المعقدة التي تطرأ نتيجة لتلك الحروب.
ولاقت القضية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر، اهتماماً عالمياً وتعاطفاً ودعماً غير مسبوق، تمثلت بالاحتجاجات والوقفات ورفع الشعارات المناصرة للفلسطينيين والمنددة بالحرب، فضلاً عن أشكال الدعم الأخرى.
وحول هذا التعاطف الشعبي والدولي، يوضح العبو، أنه يأتي أولاً من عدالة القضية، لكن في حرب غزة الجارية، التعاطف الأكبر الذي حصل مع الشعب الفلسطيني كان بسبب المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي، عندما شهد العالم حجم الإبادة، لا سيما أن أعداد الشهداء تجاوزت 24 ألفاً.