لكن هذه القدرة لم تولد في ليلة واحدة، بل هي حصيلة مسار طويل بدأ مع الانتفاضات الأولى، وتطور على أيدي قادة ميدانيين أعادوا تعريف المقاومة بوصفها علما وتنظيما وإرادة.
ومن بين هؤلاء يبرز اسم أحمد الجعبري، القائد الذي غير وجه المقاومة الفلسطينية.
ولد الجعبري عام 1960 في حي الشجاعية شرق غزة، واعتقله الاحتلال عام 1982 بعد انخراطه في مجموعات فدائية.
وفي السجن غير مساره حين التقى رموز الحركة الإسلامية مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي، لينضم بعدها إلى حركة حماس ويبدأ فصلا جديدا من مسيرة المقاومة.
خرج من السجن عام 1995، وتقدم في صفوف الحركة حتى تولى مسؤولية دائرة الأسرى والمحررين، قبل أن ينتقل إلى الجناح العسكري كتائب عز الدين القسام، وهناك بدأ التحول الحقيقي.
فقد أعاد الجعبري بناء الهيكل العسكري للكتائب، محولا إياها من خلايا متفرقة إلى منظومة منضبطة تضم نحو 20 ألف مقاتل موزعين على 6 مناطق عمليات داخل قطاع غزة، لكل منطقة قائدها ووحداتها: الميدان، الهندسة، القناصة، الاستخبارات، الاتصالات، والدعم اللوجستي.
قرأ الجعبري العدو بلغته، وأتقن العبرية، وعلم مقاتليه أن يفهموا الكيان الإسرائيلي من الداخل لا من بعيد. ولهذا وصفت الصحف الإسرائيلية كتائب القسام في عهده بأنها جيش منظم.
أشرف الجعبري على عشرات العمليات النوعية خلال انتفاضة الأقصى، وكان أحد العقول المدبرة لعملية الوهم المتبدد عام 2006 التي أسر فيها الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، ثم قاد مفاوضات صفقة وفاء الأحرار التي انتهت بتحرير 1047 أسيرا فلسطينيا مقابل ذلك الجندي.
وفي حرب غزة عام 2008 وصفته وسائل الإعلام الإسرائيلية بمهندس التصدي، بعد أن فشلت في اغتياله رغم محاولاتها المتكررة. ومنذ ذلك الحين صار الاحتلال يعتبره الرقم الصعب، فيما رآه الفلسطينيون رئيس أركان المقاومة.
كان يعيش في سرية تامة، لا يظهر إلا نادرا، وعرف بين مقاتليه بصلابته وأمانته. قال يوما: ما دام الصهاينة يحتلون أرضنا فليس لهم سوى الموت أو الرحيل.
وبقي وفيا لمقاومته حتى استشهاده في الرابع عشر من نوفمبر 2012 حين استهدفته طائرة إسرائيلية في قلب غزة.
رحل الجعبري جسدا، لكن فكره باق في كل خطة تربك الاحتلال، وفي كل عملية تدار بانضباط ودقة.