نحو تحالف يلغي ملوك الطوائف

نحو تحالف يلغي ملوك الطوائف
الخميس ٣٠ مايو ٢٠١٣ - ٠٨:٤٧ بتوقيت غرينتش

بعيدا عن التشنجات السياسية والمذهبية، يمكن طرح سؤال افتراضي تمثل الاجابة الايجابية عليه مخرجا من الكثير من ازمات الامة الراهنة. هل يمكن انشاء حلف بين مصر وتركيا والعراق وايران؟ ما أهمية هذا الافتراض؟ وما مدى واقعيته؟ ما شروطه؟ وما معوقاته؟ وما هي الجهات التي ستعارضه؟ في عالم تهيمن عليه التحالفات الاقليمية لم يعد مقبولا من الدول العربية والاسلامية مواجهة هذه التحالفات منفردة، فذلك امر غير ممكن وغير واقعي. وبالتالي فمهما يكن هناك من معوقات فان تجاوزها أيسر وأسلم من تجاهلها او القبول بحالة التشرذم التي فرضت نفسها بدون ان تحظى بقبول عقلاء الامة وحكمائها.

وتسمية الدول المذكورة لا يعني حصر مشروع التحالف بها، بل يمكن اعتباره نقطة انطلاق خصوصا بعد ان تحقق التغيير في مصر، الدولة العربية الكبرى التي تستطيع، اذا مارس حكماؤها دورهم، لم الشمل العربي تدريجيا. هذا مع الاعتراف بوجود قوى لا تقبل بذلك وستظل تعارض اية خطوة تقاربية او تحالفية خصوصا بين الدول العربية والاسلامية الكبرى. ويمكن الاشارة الى ان مجلس التعاون الخليج الفارسي هو التحالف العربي الوحيد الذي استمر وجوده اكثر من ثلاثين عاما. ولكنه بكل المقاييس لا يمتلك مقومات الدور المطلوب لانشاء تحالف عربي اسلامي مؤسس على خيار الشعوب وليس مرتبطا بالاجندات الغربية. وليس سرا القول ان ما يثار اليوم من صراعات داخلية، طائفية ومذهبية وايديولوجية بين الدول تارة، وداخل البلد الواحد تارة اخرى، انما يهدف لاستبعاد اي مشروع وحدودي او تحالفي بين الدول الكبيرة القادرة على توفير امكانات مادية وبشرية لاقامة حلف فاعل ورادع. ومن ينظر بعمق في الاثارات خلال العقد الاخير يجد بصمات اعداء وحدة الامة واضحة، ويستطيع بدون جهد كبير ربط ذلك بقضية فلسطين التي تمثل اكبر تحد واجه الامتين العربية والاسلامية طوال العقود الستة الماضية.
طرحت الاختلافات الفقهية في ما بين المدارس الاسلامية، وتم تحويلها الى خلافات اصبحت في بعض مقاطعها دموية مدمرة. ويمكن القول بقدر من الثقة بان هذه الخلافات التي تبدو موجهة ضد المسلمين الشيعة، موجهة بدرجة كبيرة نحو المسلمين السنة، بهدف إلهائهم عن التصدي لانظمة الاستبداد التي تحكمهم، وإشغالهم بشكل مستمر بقضايا وهمية في اغلبها. وتم التأسيس على هذه الاختلافات التي حولت الى خلافات، لحالة استقطاب غير مسبوقة في التاريخ الاسلامي للمنطقة. وتمت السيطرة على العقل العربي، في مرحلة تتميز بالصحوة والوعي، ليفقد موقعه ويساير الموجة السائدة التي تحمل اسباب التدمير في ثناياها. ففي أشد الحقب سوادا وضعفا، كان البريطانيون قادرين في 1955على اقامة حلف بغداد، الذي ضم ايران والعراق وتركيا وباكستان بالاضافة لبريطانيا، على اختلاف انتماءاتها المذهبية. وبعد انسحاب العراق منه في 1958 نتيجة انقلاب عبد الكريم قاسم، تغيرت تسميته ليصبح ‘حلف سنتو’، وتم حل الحلف بعد ثورة ايران في 1979. هذه الدول تبدو غير قادرة في حقبة ‘الصحوة’ على تجاوز الاطر المذهبية ليس لاسباب ذاتية، بل بدفع اجنبي استطاع تشخيص المناطق الرخوة في الجسد المعلول لهذه الامة واستغلال نقاط ضعفه ضمن مشروع متواصل للقضاء عليه او على الاقل ابقائه مريضا. وطرح خطاب التفتيت هذه المرة بصوت مرتفع ضمن مشروع واضح الاهداف: وقف المشروع النهضوي لامتي العرب والمسلمين وابقائهما متخلفتين عن الركب الحضاري العالمي، واشغالهما لاطول فترة ممكن بالصراعات الداخلية. وفي مثل هذه الحالات يتم تكريس نزعة التقسيم عبر انماط حكم على غرار ‘ملوك الطوائف’ في القرن الحادي عشر بالاندلس، او في لبنان قبل اربعة عقود، وفي العراق وسوريا مؤخرا، لتسهيل مهمة السيطرة الخارجية بعد ان ترتفع اصوات الاستغاثة من داخل هذه الكيانات مطالبة بالتدخل الاجنبي. ولكل من هذه الحقب منظروها و ‘مثقفوها’ و ‘علماؤها’، القادرون على التنظير للاحتراب الداخلي والفتنة. فالمنطق البشري قادر على الالتفاف على الحقائق والمساومة على الثوابت. وفي عصر الاعلام الفضائي اصبحت المهمة متيسرة بشكل اكبر. فالفضائيات اصبحت اليوم وسيلة لتنفيذ خطط الفتنة ومشاريع التمزيق ونظريات تهميش القضايا الجوهرية خصوصا تحرير فلسطين. واذا كانت مقولة ‘صراع الحضارات’ التي طرحت قبل عشرين عاما قد تعرضت للكثير من النقد والاستهجان،خصوصا من الشارع الاسلامي، فقد تم الآن اعادة هيكلة المشروع وتوجيهه ضد مشروع النهضة العربية الاسلامية خصوصا بعد صعود ظاهرة التحرر في مرحلة الربيع العربي.
في ظل هذه الحقائق، والتراجع الواضح حان الوقت لمفكري المشروع الاسلامي ومنظريه ورموزه ان يمتلكوا قدرا من الشجاعة ليدلوا بدلوهم لوقف مسار التدمير الذاتي في اوساط الامة، وتوجيه دفة الصراع بعيدا عن التآكل الذاتي والتدمير الداخلي. وبدلا من الوقوف عند النقطة التي فرضتها قوى الثورة المضادة على كافة الثورات العربية، اصبح امرا ضروريا اعادة اطلاق مشاريع التغيير بتجاهل كامل لما تطرحه قوى الثورة المضادة. وعندما تطرح مشاريع الوحدة او التحالف او التقارب بين الدول العربية والاسلامية الكبرى فمن الضروري ان يحظى ذلك باهتمام رواد الصحوة وعلمائها ومفكريها وعدم الاستسلام للواقع الذي فرض في العامين الاخيرين بهدف القضاء على مشروع التغيير. الدول الاربع التي ذكرت، مصر والعراق وتركيا وايران، ستكون جميعها مستهدفة بالنزاعات الداخلية ما لم تتفق على مواثيق شرف ومشاريع وحدة وانطلاقات تحرر. فان لم تفعل ذلك فلن يسلم اي منها من محاولات التدمير من الداخل. وبسبب مكوناتها العرقية والمذهبية فان لدى كل منها قنابل موقوتة ان انفجرت احدثت فيها اوضاعا لن تختلف كثيرا عما يجري في سوريا الآن، وما حدث للعراق قبل ذلك. فتونس ومصر، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان استطاعت ثورتا شعبيهما اسقاط رئيسيهما الديكتاتوريين، تعيشان حالة مخاض عسيرة قبل ولادة مشروع ديمقراطي عصري يدعمه استقرار داخلي متين. فكلا البلدين يواجهان استحقاقات التغيير الذي حدث بارادة شعبيهما. فها هي تونس تئن تحت وطأة الضغوط التي افصح عنها الشيخ راشد الغنوشي وبقية فريق حركة النهضة من قبل التيار السلفي الذي لا يمكن فصل اجندته عما لدى قوى الثورة المضادة. فقتل الشرطة وهدم المساجد والتصدي للحكومات المنتخبة ديمقراطيا، كل ذلك ينسجم مع المنهج الفكري لهذه المجموعات. ومصر هي الاخرى تعاني من ظواهر شبيهة. فالتحديات التي تواجه هذه الحكومات ينطلق اغلبها من تيارات ‘اسلامية’ صمتت طويلا على انظمة الاستبداد، وما ان حدث التغيير حتى لحقت بالثورة وتنافست مع اهلها على المناصب تارة وعلى احتلال مواقع التأثير الاجتماعي والديني كالمساجد تارةاخرى.
لماذا لا يصعد من بقي من النخب العربية والاسلامية الى مستوى التحدي بطرح مشاريع قد تبدو في الظروف الراهنة ‘مثالية’ او ‘نظرية’ ولكنها في سياق التغيرات الديمقراطية وطموحات الجماهير، ليست كذلك؟ ما الصعوبة في الترويج لتحالف اقليمي يجمع ابناء الامة في اطار سياسي فاعل على غرار ما تفعله دول اوروبا او امريكا اللاتينية؟ الانطلاق يجب ان يكون خارج المنظومة الفكرية والنفسية التي تشكلت في العامين الاخيرين بتأثير القوى الطائفية والمذهبية بعيدا عن قيم الاسلام واملاءات الواقع غير المتدنس بتلك القيم. ما الصعوبة في ترويج تحالف يضم الدول الكبرى في المنطقة، مثل مصر والعراق وتركيا وايران؟ فلهذه الدول في الوقت الحاضر مصالح مشتركة، ويتمتع جميعها بعلاقات بينية معقولة، وتضم مكونات مذهبية متعددة ولكنها متعايشة في اغلبها. صحيح ان هناك صعوبات موضوعية ستعرقل مشروع التحالف والوحدة، ولكنها جميعا، اذا وجدت الارادة، قابلة للتطويع. ومن هذه المعوقات ما يلي: اولا: البعد المذهبي، وهو بعد لا يمكن التقليل من شأنه ولكنه ليس الحاسم في اقامة العلاقات انطلاقا من الشعور بالحاجة والضرورة، والاحساس باهمية التكامل الاقتصادي والامني والعسكري بالاضافة للقوة السياسية المنشودة. فهذه الدول ليست مبتلاة في اساسها بمذاهب متناحرة. فلدى مصر وازهرها الشريف تاريخ مفعم بالحيوية وروح الوحدة والانفتاح والوسطية، بالاضافة لموروثها الديني الذي أثراه تاريخ الدول المتعددة العثماني والفاطمي والمملوكي وغيرها، بالاضافة لثقافتها الوطنية المناهضة للاستعمار والتدخل الاجنبي. ولدى تركيا تعددها المذهبي والعرقي الذي يقوي لديها القدرة على الاجتماع مع التعدد. يضاف الى ذلك عامل آخر لا يقل أهمية يتمثل بان لدى شعبها نزعة نحو التصوف، الامر الذي يجعلها أقل ميلا للنزعات السلفية، فالصوفية والسلفية في الاعم الاغلب لا يلتقيان لان السلفية تكفر الصوفيين، وتهدم مساجدهم كما فعلت في مصر وتونس وليبيا ومالي وغيرها. ولدى العراق تعدده المذهبي ماضيا وحاضرا، وتجربته المريرة في السنوات الاخيرة منحته مناعة ذاتية ضد المذهبية والطائفية، برغم استمرار اثارتها بدموية مقززة. اما ايران فقد تبنت مشروع الوحدة الاسلامية منذ العام الاول لثورتها وتواصلت مع الحركات الاسلامية على مدى ثلاثين عاما وأنشأت مؤسسات وأقامت مؤتمرات سنوية للتقريب. وبالتالي يفترض ان لا يكون البعد المذهبي مانعا من التقارب بين هذه الدول الاربع. ثانيا: العلاقات مع الغرب تمثل معوقا امام التحالف المقترح. ولا شك ان ايران هي الاكثر تحررا من هذه المشكلة. وبعد خروج الاحتلال الانكلو – امريكي من العراق يحتمل ان يكون العراق أقل عرضة للضغط الغربي خصوصا ان مصالحه تقتضي التقارب مع اكبر دولتين جارين: ايران وتركيا، وحكامه الحاليون ليسوا بعيدين عن اجواء الاخوان المسلمين الحاكمين في مصر او حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا او الحكم الاسلامي في ايران. ويفترض ان تكون مصر الاخوان اكثر حماسا للابتعاد عن الفلك الغربي خصوصا ان الغربيين يحاربون، علنا وسرا، مشروع الاخوان السياسي والديني. ولذلك مطلوب من نظامها ان يمتلك الشجاعة لتجاهل الضغوط الغربية الهادفة لمنع اي تحالف عربي اسلامي فاعل. وتبقى تركيا المرتبطة بحلف الناتو والمتطلعة لعضوية الاتحاد الاوروبي. فعليها ان توازن بين مصالحها وتغلب التحالف الاقليمي مع الشرق بدلا من الاقتصار على تحالفها مع الغرب. ثالثا: العلاقات مع الكيان الاسرائيلي. ايران والعراق ليس لديهما مشكلة في هذا الجانب. فايران لا تعترف بالكيان الاسرائيلي فضلا عن اقامة العلاقات معه، فهي التي تدعم المقاومة وتصر على تحرير فلسطين بدون مجاملة او تراجع. وليس لدى العراق علاقات مع الكيان الاسرائيلي. وتبقى المشكلة مع كل من تركيا ومصر اللتين ما تزالان تقيمان علاقات دبلوماسية مع الكيان الاسرائيلي. فاذا امتلك حكامهما شجاعة كافية وشعورا حقيقيا برفض احتلال فلسطين فسيتخذون قرارا تاريخيا بقطع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي وغلق سفارتيه في انقرة والقاهرة والدخول في تفاهم يفضي تدريجيا لتحالف عربي اسلامي اوسع. رابعا: ان هناك عاملين مشتركين بين الدول الاربع اولهما الممارسة الديمقراطية (برغم ما يعتربها من نواقص ومنغصات) وثانيهما البعد الاسلامي لدى الانظمة الحاكمة في هذه البلدان. ويمكن القول ان هذين العاملين يمثلان ميزة خاصة لهذه الدول ويفرضان عليها مسؤوليات خاصة تجاه الامة وانهاضها سياسيا واقتصاديا وثقافيا. خامسا: ان التحالف سيؤدي تدريجيا لوقف حالة النزيف الداخلي لدى الامة ويمنع ظاهرة التقسيم التي بدأت تفرض نفسها (السودان مثالا) على الدول الكبرى في الامة. وقد تصل الى الدول الاربع نفسها ما لم تتخذ خطوات شجاعة على طريق التوحد والتقارب ودحر اسباب الفرقة ودوافعها.
قد يكون الحديث عن التحالف المذكور ‘نظريا’ او ‘اضغاث احلام’ ولكن لا بد من كسر حالة الجمود التي فرضتها انظمة الاستبداد عقودا، فادت الى الضعف والتشرذم والانقسام. وهذا لا يتحقق الا بالتفكير في ما يشبه الاحلام. وكما قال الشاعر: لقد كان حلما ان نرى الشرق وحدة ….. ولكن من الاحلام ما يتوقع. وبدلا من ان تنقسم الامة بشأن مجريات الامور في سوريا او اليمن او البحرين، فان تحالف دولها الكبرى خطوة على طريق منع التداعي واستعادة المبادرات التي تحمي الامة وشعوبها وتفضي تدريجيا الى الطور الذاتي والاستقلال عن الاجنبي وهيمنته والتحرر من الاستبداد والديكتاتورية.

د. سعيد الشهابي
كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن