انتفاضة "تقسيم" تكشف الرقابة التركية على الصحافة

انتفاضة
الأحد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ - ٠٣:٥٥ بتوقيت غرينتش

في البداية، بدت ردة فعل وسائل الإعلام المسيطرة في تركيا تجاه الشعور المعادي للحكومة الأبرز منذ سنوات، بدت تقريباً هزلية. حيث نقلت بعض المحطات خبر الاضطراب الحاصل، فيما لم تنقله محطات أخرى. وفي دلالة من الإنكار لم يسبق لها مثيل، عمدت بعض كبرى محطات التلفزة في البلاد الى عرض أفلام وثائقية عن الطبيعة أو مناظرات تلفزيونية بدل أن تغطّي التظاهرات الضخمة التي كانت تحصل في ساحة "تقسيم".

ومع ذلك وبقدر ما كان سلوك وسائل الإعلام مضللاً، فإنّ برمجتها استدعت تهكّماً خلاقاً عليها وشعوراً بالحنق لدى المجتمع العالمي. حيث كثُرت في وسائل الإعلام الدولية، الرسومات الهزلية والعناوين الفكاهية التي احتلّت أهم الافتتاحيات التي تناولت الموضوع.

إلاّ أنّه مع ازدياد حالة الاضطراب، ازداد معها القلق. فردة فعل الشرطة على التظاهرات كانت قاسية منذ البداية. ولكن في المرحلة الأولى، قال العديد من الصحافيين إنّ السلطات احترمت محاولاتهم لتغطية التظاهرات. وبعضهم وصف سلوك الشرطة تجاه بعض أفراد الصحافة بأنّه أفضل بكثير من سلوكها في العديد من البلدان الأوروبية. ولكن في الأيام التي تلت، ساء الوضع على نحو سريع.

اليوم تشير تقارير إخبارية وإفادات شهود عيان بالإضافة الى أدلة جمعتها مجموعات مثل لجنة حماية الصحافيين، وصحافيون بلا حدود، الى تزايد جهود الشرطة العدائية لإعاقة الصحافيين الذين ينقلون أخبار التظاهرات المعادية للحكومة. وفي الأيام والأسابيع الماضية، تعرّض صحافيون محليون وعالميون للضرب والاعتقال، ولمصادرة معدّاتهم وبطاقاتهم الصحافية، ولمحو – بالقوّة- بعض الصور التي التقطوها. والبعض الآخر منهم كان هدفاً للقنابل المسيلة للدموع ولخراطيم المياه وللرصاص المطاطي لأنّهم تجرأوا على توجيه كاميراتهم نحو قوات الشرطة.

"بدا أن الشرطة رأت أنه من واجبها أن تضيّق على الصحافيين الذين يحاولون تغطية التظاهرات، وتعيقهم، وتهاجمهم"، تقول منسّقة برنامج آسيا الوسطى وأوروبا في لجنة حماية الصحافيين، نينا أوغنيانوفا. "في هذه المرحلة، إنه بالفعل هجوم بالجملة على أي صحافي يشهد على ما تقوم به الشرطة. إنهم لا يريدون تصويرهم بينما يستخدمون الغاز المسيل للدموع ضد الصحافيين أو الجمهور المحتشد، وهم يغضبون من كل من يوثّق ذلك".

اتسمت ردة فعل الشرطة بالقسوة. وقد شهد جان هاتفلايش الذي كان يقوم بتغطية التظاهرات لصالح الصحيفة النمسوية Tiroler Tageszeitung، الهجوم على الصحافي الإيطالي دانيال ستيفانيني واعتقاله بسبب التقاطه صورة لمتظاهرين اعتُقلوا بطريقة وصفها هاتفلايش بأنّها الأعنف بين ما مرّ عليه. "اعتُقل دانيال بعد أن هاجمه خمسة رجال شرطة بطريقة وحشية على بعد متر واحد مني، وذلك لأنّه تجاهل النصيحة بعدم التقاط "أية صور" خلال حصول اعتقال وحشي جداً".

هذا ولم تستجب الشرطة الوطنية التركية ولا المقر الرئيس في شرطة اسطنبول للطلبات المقدَّمة إليها بالتعليق على طريقة تعاملها مع أفراد الصحافة.

وبدورها لم تقدّم الحكومة التركية أي عون في هذا المجال. ففي وقت كتابتي لهذا المقال، لا يزال بعض الصحافيين قيد الاعتقال وقد أبدى المسؤولون رغبة ضئيلة جداً بمعالجة هذه الحوادث، حيث اتهم نائب رئيس الوزراء علي باباكان وسائل الإعلام الدولية بالتآمر من أجل نشر معلومات خاطئة وروايات كاذبة عما يجري.

بالنسبة للصحافيين المحليين، لا يفاجئهم هذا التصرف القاسي، ذلك أنّ تركيا هي أهم سجّان للصحافيين في العالم، حيث يوجد فيها صحافيون وراء القضبان . ويعود ذلك جزئياً الى قانون غير واضح يُمكن أن يستخدموه اعتباطياً لمعاقبة صحافيين انتقدوا بإفراط سياسة الحكومة أو غطوا أخباراً لا ترغب المؤسسة بأن تُنشر في العنواين الرئيسة.

وفي غضون ذلك، يقوم غالباً أصحاب وسائل الإعلام المدينون لمصالح الدولة بممارسة رقابة ذاتية على محتوى موادهم كما هو متوقّع، وهذا ما تجلّى لنا من خلال قرارهم عرض أفلام وثائقية بدل عرض تقارير إخبارية عن التظاهر. فمعظم الشعب التركي مثلاً، كان عملياً غير مطلّع على الاضطراب الذي دام لعقود في جنوب غرب الأناضول وعلى الاشتباكات مع قوات حزب العمال الكردستاني، بسبب التعتيم الإعلامي على هذه الأحداث. ونتيجةً لذلك، تقتني الأسر الكردية صحنين لالتقاط الأقمار الصناعية: واحداً للتلفزيون التركي، والآخر لالتقاط القنوات الكردية التي تغطي أخبار انتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من المواضيع التي لا تغطيها قنوات الدولة.

وعلى نحو مماثل، تقول السيدة أوغنيانوفا من لجنة حماية الصحافيين إنّه كان ثمة حوادث في السنوات الأخيرة حيث تمّ التعرّض لصحافيين يغطون تجمعات وتظاهرات على نحو مصغّر مما نشهده الآن، فجمعت قوات الشرطة الصحافيين وهاجمتهم، واعتقلتهم وحتى أساءت معاملتهم في الاعتقال. ما يختلف الآن هو أن سلوكهم هذا يقع تحت المجهر الدولي.

يأمل الصحافيون الأتراك بأن يؤدي هذا التركيز الجديد على حرية الصحافة في النهاية الى بعض التغيير الحقيقي في رغبة الحكومة بمعالجة طريقة التعامل السيئة هذه، كما وباستعداد الجمهور لتحدّي الرقابة. "لا أعتقدُ بأن الوضع من حيث جوهره ساء [منذ بداية التظاهرات]" يقول صحافي في إحدى الصحف الوطنية، رفض أن نذكر اسمه لأسباب تتعلق بشخصه وبأمن وظيفته. "لطالما كانت تركيا مكاناً جهنمياً بالنسبة للصحافيين... أعتقد بأن أهمية التظاهرات تكمن بكون الضغط على وسائل الإعلام أصبح واضحاً جداً. فقد كانت التظاهرات واسعة الانتشار وحصلت أمام أعيننا، ومع ذلك لم يستطع الناس رؤية الكثير منها، او حتى القليل على بعض القنوات الإخبارية. وبالتالي، حتى أكثر المستهلكين (الذين يتلقون الأخبار) رغبةً في التصديق بدأوا بطرح علامات استفهام حيال وسائل الإعلام التي يستمدون معلوماتهم منها".

يبقى علينا أن ننتظر لنرى إذا كان يمكن تحويل ذلك الى تغيير حقيقي. حتى قبل اندلاع التظاهرات، سلّط الانتقاد الدولي من جهة الاتحاد الأوروبي ومنظمات أخرى، المزيد من الضوء على حقوق الانسان وحريات الصحافة، وأدى الى اقتراح العديد من الإصلاحات القانونية. أما لجنة حماية الصحافيين فلا تبدو واثقة من أن هذه الأخيرة تمثّل أي تقدّم أساسي، كما لن تُحدث التطورات الأخيرة أي تغيير حقيقي.
لقد تعهّد أردوغان إجراء إصلاحات في السابق، ولكنّ التحرّك الأخير يوحي بأنّ حماسته لم تكن حقيقية. إذا ما انتهت التظاهرات أو أخمدت، قد تحوّل وسائل الإعلام الدولية أنظارها باتجاه آخر، ولكن بالنسبة للصحافيين الأتراك، سوف يستمر النضال.

 * جون بيك - ترجمة زينة ابو فاعور

كلمات دليلية :